لماذا الحديث عن المؤسسة الدينية؟
سنتحدث في هذه الحلقة عن المؤسسة الدينية وسبيل إصلاحها، وبداية سوف يستفهم القارئ الكريم لماذا الحديثُ عن المؤسسة الدينية، وفي هذه الفترة الراهنة بالذات، وهل هي بحاجة إلى نقد ذاتي، وإصلاح شمولي؟!
والجواب عن هذا الاستفهام الجيد في عمومه، فلا شك أنّ المجتمعات هي مجتمعات متدينة في جملتها، والتدين غريزة من الغرائز في النفس البشرية، سواء قلنا غريزة ذاتية أو مكتسبة على خلاف بين الفلاسفة، ولكن يبقى التدين فطرة غريزية في النفس الإنسانية، ويبقى للبيئة والتراث والتأريخ اختلاط بتدين البشر، من هنا اختلط التدين بالخرافة والكهانة والقداسة لغير الله سبحانه وتعالى.
والأصل في التدين أنه رباني المصدر، كما قال سبحانه: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ، وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}.
والربانية في التدين تشمل أمرين: الأمر الأول التوجه، والأمر الثاني التلقي، فهي ربانية التوجه: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}، كما أنها أيضا ربانية التلقي: {قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}.
هذا التدين هو التدين الموافق للفطرة التي فطر الله الناس عليها، {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}.
ولكن مع تقادم الزمن، ومرور الأيام، يضيف البشر إلى التدين الإلهي تدينا بشريا، بل تُحور التعاليم الإلهية لتوافق التعاليم البشرية لا العكس، فيصبح الحاكم محكوما، والمحكوم حاكما، وهذا ما حدث للتوراة من تحريف بشري، فأنزل الله تعالى الإنجيل مصححا ومصدقا للتوراة: {وَقَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ}.
ثمّ إنّ الإنجيل نفسه أيضا تعرض لتحريف بشري، فأنزل الله تعالى القرآن مصدقا ومهيمنا: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}.
إلا أنّ هذه الشريعة القرآنية ذاتها تعرضت لتحريف بشري لا في ذات النص كما في التوراة والإنجيل، ولكن في تفسير النص، إذ جُعِلَ التفسير مهيمنا على النص لا العكس، ولتقوية هذا التفسير أضيف إلى النبي الأكرم أو الصحابة أو آل البيت أو التابعين، والذين يشكلون منظومة السلف!.
وشاء الله سبحانه وتعالى أن يحفظ كتابه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} ليكون الكتاب مهيمنا ومصدّقا على التفاسير وإضافات البشر على أكثر من ألف عام من نزول القرآن.
فالمؤسسة الدينية اليوم تعاني من خروقات ثلاث:
الخرق الأول: تقديس الأشخاص من الأحبار والرهبان، تحت مسميات تختلف باختلاف المذهب الفقهي أو العقدي، فجعلوا أنفسهم أوصياء لهذا الدين، وأصبحت القداسة لهم أكبر من القداسة للنص التشريعي ذاته، كما كان عند اليهود والنصارى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}، والحديث في الآية ليس محصورا في اليهود والنصارى وإنما يعم هذه الأمة أيضا، لأنها ستحذو حذوهم، وتسير في نفس طريقهم.
وهذا لا يعني الاستخفاف بالعلماء، ولكن لا يعني في الوقت ذاته رفعهم أعلى من منزلتهم البشرية، فيصبح كما نرى اليوم الدفاع عن أشخاص، والذي أصبح أقرب إلى التأليه، فهم بعيدون عن الخطأ، فلا يُنصحون ويوجهون، ومن الأحبار من يحرّف الشريعة رضا للحاكم، ومنهم رضا للعامة فيبقيها على خرافاتها إذا كان في النهاية مستفيدا من تقديسها له، وتعظيمها لجنابه.
الخرق الثاني: انتشار الخرافة في المؤسسة الدينية، وتحولها إلى عقيدة يصعب نقدها أو تجاهلها، وكثيرا للسياسية والعامة دور فيها، وأحيانا تصبح ميزة مذهبية تتميز بها طائفة معينة، وبالتالي نقدها نقد للطائفة ذاتها.
الخرق الثالث: الكهانة والتي اختلطت بالتدين، وذلك نتيجة اختلاط الموروث البشري بالنص القرآني، وتداخل التأريخ وأحداثه في النص وتطبيقاته، فأهمل الناسُ تدبر النص، ورفعوا الكهانة إلى منزلة النص، وبالتالي نقد الكهانة قد يكون كفرا أو فسوقا عند آخرين.
هذه الخروقات الثلاث نجدها مؤثرة اليوم في المؤسسة الدينية، وفي تعاملها مع الأحداث المعاصرة، مع صراعاتها الداخلية، وجعل المذهبية أديانا منزلة من السماء.
وحري بنا في هذه المقدمة أن نبين للقارئ الكريم ماهية المؤسسة الدينية أو المقصود بالمؤسسة الدينية، فقد يتصور القارئ الكريم عندما نتحدث عن المؤسسة الدينية إنما نريد بذلك المؤسسة الرسمية المتمثلة في دار الإفتاء، أو هيئات ووزارات الأوقاف.
ولا شك إن هاتين الجهتين تمثلان الروحَ الرسمي للمؤسسة الدينية، ولكن لا يقتصر الحال معها، فهناك مؤسسات الأفراد الذاتية، والمساجد، والمعاهد والجامعات الدينية ونحوها.
لذا نجد المجتمع والأفراد لغريزة التدين كما أسلفنا ينظرون إلى هذه الجهات نظرة إلهية يسيرون بها إلى الفردوس الأعلى، وهي تحدد مصيرهم من حيث النجاة أو العذاب يوم القيامة، لذا سوف يوجهون إليها أدق تفاصيل حياتهم، في دخولهم للحمام، وآلية الدخول، وكم عدد مرات إزالة النجاسة، ونحوها من مسائل الحمام الدقيقة، لأنه يتصور مخالفة واحدة كفيلة بعذاب جهنم وبئس المصير!
وعليه المؤسسة الدينية في غالب الأحوال إما أن تكون في ذاتها متلقية للفكر التأريخي غير ناقدة، ونقدها للفكر الموروث سيألب عليها أفراد المؤسسة الدينية ذاتها، فتصبح بعد ما كانت مرضية في دائرة المغضوب عليها والضالين، والمؤسسة الدينية الإسلامية المعاصرة خير مثال لذلك، كما حدث عند الإمام محمد عبده المتوفى: 1905م فبعد قراءته النقدية للتراث، وكنسه له ليخرج الطيب من غير الطيب، وبعد ما كان شيخا مرضيا، أصبح ماسونيا يهوديا عقلانيا منكرا للسنة ومذاهب الأئمة، كلّ هذا بسب وقوفه مع التراث بوجه العالم الناقد لا المستسلم.
وإما أن تكون حامية ومحافظة للتأريخ مع علمها الشديد بمخالفته منطوق الكتاب، والعقل السليم، وهذا الفكر يساند الظالم ظلمه، ويحرم المظلوم حقه، ولكنها حفظا للسياج الطائفي، أو حفاظا للمال المنشود، وتقربا للحاكم والعوام، تبقى رهينة هذا التراث، وتؤيده بآيات الكتاب، وتجعله رباني المصدر، لا يُقترب منه بحال من الأحوال.
هذان السببان جعلا من المؤسسة الدينية مؤسسة كهنوتية بشرية تنطق باسم الله ظاهرا، وباسم البشر حقيقة وجوهرا، وعليه كان الانحراف فيها عن خط القرآن الكريم، لذا سنحاول في الحلقة القادمة بإذن الله تعالى بيان الفرق بين الكهانة والتدين، أو بمعنى آخر بين المصدر الإلهي والبشري في المؤسسة الدينية اليوم، ومدى أثر ذلك على الحراك المدني.
مساء الخميس/ 26/ شوال/ 1433هـ.