الإجابة حول أسئلة الأستاذ الفاضل جميل من القدس المحتلة فيما يتعلق برواية أمرت أن أقاتل الناس وبعض آيات براءة
بداية أشكر أستاذي الجليل جميل Abumadi Jamil في تواصله المستمر، وانفتاحه على الآخر، كما عهدنا من بلاد الشام، أرض المنطق وفلسفة الإغريق والإسلام، فليس عجبا عليهم هذا، ومنهم اليوم الأستاذ والمفكر المعروف عدنان إبراهيم وفقه الله تعالى وأستاذنا الجليل ناجح سلهب وفقه الله تعالى.
بداية الرواية التي ذكرتها في برنامجي اليوتيوبي ذلك الدين القيم في الحلقة 16 وهي رواية أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك، عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله تعالى.
بطبيعة الحال وقع المأولون حولها في إشكالات عدة، ولذا كانت لهم وجوه في تأويلها أهمها الوجه الأول أن الناس المقصود بهم مشركي مكة أو توسعا الجزيرة، ومنها رواية لا يجتمع دينان في جزيرة العرب، وعليه الأصل التعامل مع مشركي مكة الحرب أو الدخول في الدين، واختلفوا في السبي.
والقول الثاني أن الناس عامة، ويدخل فيها جميع المشركين في الأرض، الأصل لهم حالتان إما الإسلام أو قطع الرقاب، وتغنم أموالهم، وتسبى نساؤهم وأطفالهم، وهذا القول ساد في كتب الكلام، خاصة عند المتأخرين في المذاهب الإسلامية، مع تعارضه الشديد مع آيات الله تعالى، وسبق أن بينته في أكثر من مناسبة.
وهناك فريق آخر من العلماء اعتبرها عامة فيمن اعتدي، ومن لم يعتدِ الأصل فيهم السلم، فإذا اعتدى وكان مشركا وثنيا غير كتابي، فلا أمان لهم إلا بالدخول في الدين.
عموما عندما نأتي إلى الرواية ونقوم بتفكيكها نجدها مضطربة من أوجه:
الوجه الأول: قوله: أمرت أن أقاتل الناس، فإذا النبي في الأصل أرسل وبعث من البداية لقتال الناس، وهذا يتعارض مع قوله تعالى: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين، وقوله: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، وقوله: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.
ثانيا: اضطراب كلمة الناس، فتجدهم اضطربوا حولها، فمنهم من اعتبرها للجنس، ومنهم من اعتبرها للعهد من حيث أل التعريف، وعليه اختلفوا في سياق إنزالها هل لقريش ووثني مكة أو الجزيرة، أو عامة، هذا الاضطراب سببه أن الرواية وضعت بعيدة عن سياقها الزماني والمكاني، فمتى قالها الرسول؟ وهل قالها خاصة، وهل تلفظ فعلا بلفظ الناس أم استخدم عبارة أخرى، والرواة وضعوها هكذا؟
ثالثا: قوله حتى يشهدوا أيضا يخالف قطعيات القرآن في عدم الإكراه، ومنها قوله تعالى: لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، وقوله: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ، وخاطب نبيه مباشرة: فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ.
على ان هناك من المعاصرين حتى من علله في سنده ولو رواه البخاري ومسلم، ولا يهمنا ذلك بقدر ما يهمنا المتن وتفكيكه.
عموما بعد هذه المقدمة تدرك جيدا اضطراب الرواية، أما بالنسبة لقوله تعالى في سورة براءة: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
للأسف أن يقرأ قوله تعالى: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ بعيدا عن سياق الآيات.
وقبل البيان الأصل تحكيم الآيات المحكمات وأسلفنا لذكر بعضها، والأصل السلم، وعليه سياق الآيات في حالة الاعتداء والقرآن ذكر هنا أربعة صور:
الصورة الأولى: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
الصورة الثانية: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ.
الصورة الثالثة: فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ.
الصورة الرابعة: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ.
فالسورة تصور لك الحال التي وصل إليها المشركون من حيث أكبر درجات الاعتداء والتعاون مع الأمم الأخرى في إلحاق الضرر بالمؤمنين، وعدم التزام المواثيق والعهود، ومع ذلك راعى القرآن الأشهر الحرم والتي هي مقدسة عند العرب.
فهناك أصل من خلال الصورة: فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ، فما نقض هذه الصورة كانت الصورة الأخرى فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ.
ثم القرآن أمر إن جنحوا للسلم يجنح لها…
إلا أنّ هناك فئتين من المجتمع فئة تظهر أنها تدخل الدين الجديد، فيشهدون لا إله إلا الله محمد رسول الله، فهؤلاء يؤخذون على ظاهرهم دون تتبع وتجسس، وإن لم يؤمنوا به حقيقة، كما حدث عند فتح مكة، وهي صورة: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
وهناك فئة أخرى لا تدخل في الدين ولكنها ترجع إلى السلم وتطلب الأمان: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ.
فنجد الآيات عالجت هذه الصور المتكررة، إلا أن الناس للأسف نزعوا هذا الصور واكتفوا بصورة واحدة.
أما الجزية في قوله تعالى: قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ.
وقد ناقشت هذه الآية في بحثي القيم، وهي كذلك جاءت في سياق سورة براءة أو العسرة، وجميعا ضد أمة باغية معتدية فهنا أمر الله بقتالهم، وذكر أهل الكتاب هنا لأن الروم كانوا على ملة عيسى، وهم أهل كتاب، فتناسق المقام في ذكرهم، ومع ذلك عندما وافقوا على السلم لم يقاتلهم الرسول باتفاق، فلو فسرت الآية ظاهريا لكان الرسول وحاشاه عاصيا لأمر ربه.
والجزية فسرها بعض المعاصرين حسب ما ذكرته في كتابي القيم بنصه: أما عن الجزية التي شرعها الله تعالى فلابد أن تقرأ وفق السياق الذي وردت فيه، والجو الذي عايشته الآية، وإلا فهؤلاء جزء من الوطن، لهم حق العيش فيه، وعليهم ما على باقي المجتمع من واجبات، من هنا إن تلاعبوا به، وخططوا للإفساد فيه؛ فشأنهم كغيرهم يحاربون، وإن لزم الأمر حمايتهم في حالة الخوف منهم، وبعد الصلح معهم، فبإمكان الأمة أن تفرض عليهم الجزية وهم صاغرون، فتأمن الأمة من مكرهم وسوء نيتهم، وفي المقابل بإمكان الأمة أن ترفع عنهم المشاركة في الأماكن الحساسة كالجانب العسكري، مع وجوب حمايتهم، وتوفير الأمن لهم، فمن هنا سموا أهل ذمة، أي أنّ ذمتهم ورقابهم في أعناق المؤمنين، مقابل ما يأخذونه منهم.
وإن لم يكن هنا أي خطر فلا يؤخذ منهم شيئا، ولهم الحق في الشراك الوطني بكافة مؤسساته المدنية والعسكرية، ولا يجوز أن يجبروا على لباس معين مثلا، فهذا من الظلم الذي جاءت الشريعة الخاتمة برفعه، وإبدال الحوار والتعايش محله.
ثم بان لي خلافه لذلك قلت في الفهرس: هذا التفسير قلته سابقا معجبا ببعض تأويل المعاصرين، حيث وضعوا ذلك من باب التمرد، فاستحسنته تأويلا وتفسيرا، وأما الآن فيبدو لي – وهو الموافق بإذن الله تعالى لسياق واقع النّزول- أنّ الجزية أقرب إلى العلاقات الدّولية لا المواطنة، ففي السابق – أي وقت نزول الآية – لم يكن عند العرب دولة بالمفهوم المعاصر، وإنّما كانوا أقرب إلى التجمع القبلي، فكانت القبيلة أشبه بالدولة، وغالبا ما تدين القبيلة بدين أو مذهب معين، وتشتهر به.
وعليه الجزية أقرب إلى العلاقات الدولية في حال العصيان والتعدي من جهة، وفي حال حماية تلك الدولة من جهة ثانية كما يعمل به اليوم.
وعليه لا يدخل فيه مفهوم المواطنة، فالمواطنة مبنية على ذاتية الإنسان وحقه المدني، ولا اعتبار لدين أو مذهب أو فكر، ويكون الجميع سواسية وفق القانون.
فلا معنى أن يفرق بين أحد لاختلاف دين، ويكون الجميع تحت الشراكة في بناء الوطن، والكل متساو في الحقوق والواجبات، فالمواطنون جميعا تحت ذمة من اختاروهم ليمثلوهم في الرئاسة، وهم في الوطن سواء، وفي الشراكة فيه سيان.
فكانت الدولة أقربَ اليوم بمفهوم القبيلة بالأمس، وعليه يظهر لي قراءة مفهوم الجزية وفق هذا السّياق، والله أعلم.
هذا ما أردت قوله أستاذي الجليل، فإن وافق الحق والعدل فخذه، وإن خالف فاطرحه جانبا، وانقده وقومه بما تراه أهدى سبيلا، تحياتي لك.
فيسبوك 1436هـ/ 2016م