المقالات الفكرية

البرت أينشتاين والسّلم العالميّ

جريدة عمان 1443هـ/ 2021م

البرت أينشتاين [ت 1955م] الألمانيّ مولدا، إلا أنّه استقر في آخر حياته على الجنسيّة الأمريكيّة، مع رؤيته المنفتحة على الاشتراكيّة، ونقده المبطن للرّأسماليّة، ويعتبر أينشتاين من أكبر الرّموز العلميّة والفيزيائيّة في النّصف الأول من القرن العشرين، وارتبط اسمه بالعديد من النظريّات العلميّة وأشهرها النّسبيّة الخاصّة والعامّة.

ومع اقتران اسم أينشتاين بالجانب العلميّ والسّياسيّ إلا أنّ اسمه كان حاضرا بقوّة في الجانب السّياسيّ أيضا، ليس كأداة سياسيّة بقدر ما كان ناقدا للنّفعيّة السّياسيّة التّي جرت العالم كما في كلمته عام 1934م: “لقد وعدنا الشّعوب بالتّحرر من الخوف، ولكن الخوف قد زاد في الواقع … لقد وعدنا الشّعوب بالتّحرر من العوز، لكن أجزاء كبرى من العالم تواجه الفاقة والمجاعة، بينما تعيش البقيّة في رغد ووفرة، ولقد وعدنا الشّعوب بالتّحرير والعدل، ولكننا شهدنا ولا زلنا نشهد حتّى الآن المنظر الحزين لجيوش التّحرير  وهي تصرع الجماهير برصاصها، إذ هي تطالب باستقلالها وحقوقها الاجتماعيّة في المساواة، وتساند تلك الجيوش بقوّة السّلاح الأحزاب والزّعماء الّذين يخدمون أغراضها الاستغلاليّة”.

لقد صدم أينشتاين من ثلاثة أمور، من عصبة الأمم، ومن تمجيد السّياسيّ، ومن نفعيّة المثقف ورجل العلم كالفيزيائيّ مثلا، أمّا عصبة الأمم فلم تعد تلك العصبة الحافظة للإنسان، بقدر ما أصبحت أداة لدول كبرى تمارس نفعيتها وأغراضها في حق شعوب العالم، وتدعم الحكومات المستبدة ضدّ شعوبها لغاية المنفعة القاصرة من التّعاون بينهما، لهذا قرر استقالته منها عام 1923م مبيّنا سبب ذلك: “لقد باركت اللّجنة عمليّة اضطهاد الأقليات الثّقافيّة في كلّ البلاد؛ لأنّها أقامت في كلّ بلد لجنة أهليّة، وجعل من هذه اللّجنة القنطرة الوحيدة للاتّصال بالاتّصال بالمثقفين في تلك البلاد، وعلى ذلك تكون قد تنازلت عامدة عن وظيفتها في تقديم العون الأدبيّ للأقليات في كفاحها ضدّ الاضطهاد الثّقافيّ”، أي لم يعد ارتباطها إنسانيّا بتلك الشّعوب بقدر ما أصبح نفعيّا برجماتيّا، ولهذا يرى أنّ هناك تهميشا لفئات ثقافيّة في تلك الشّعوب من قبل جهاتهم الرّسميّة لمواقفهم المختلفة، والّذين سيساهمون بشكل كبير في خدمة البشريّة، لهذا قال في كلمته بعد الحرب العالميّة الأولى “إنّ الأفراد أينما كانوا تتاح لهم أوضاع أفضل بكثير ممّا للهيئات الرّسميّة، ويا حبّذا لو وضع العقلاء جميعا نصب أعينهم دون أن يقصروا أو يحيدوا عن سواء السّبيل تلك الحكمة القائلة: إنّ الشّيوخ رجال أفاضل، ولكن مجلس الشّيوخ دابة عمياء”.

كما صدم أيضا من تمجيد السّياسيين، خصوصا الّذين أذاقوا العالم ويلات الدّمار والحروب والمجاعات، مظهرا لصديقه سيجموند فرويد [ت 1939م] في رسالته له عام 1931م إنّ هؤلاء “الزّعماء السّياسيين والحكومات يدينون بمراكزهم إلى القوّة من ناحية، والانتخابات من ناحية أخرى، ولا يمكن اعتبارهم ممثلين لأفضل العناصر الفكريّة والأخلاقيّة في الأمم الّتي يمثلونها”، أي أنّ القوّة أو السّلطة أو الانتخابات كانت نزيهة أم دون ذلك كما في العديد من الدّول هي من أوصلتهم، وليس لاعتبارات خارقة حتّى يعطون هذه القداسة، ولهذا يرى في ذات الرّسالة “ليس للصّفوة المفكرة تأثير مباشر على تاريخ الأمم في هذه الأيام، إذ يحول عدم تماسكهم دون الإسهام بنصيب مباشر في حل المشكلات المعاصرة”.

والصّدمة الثّالثة تكمن في انصياع المثقف ورجل العلم إلى نفعيّة وأنانيّة السّياسيين، وهم يدمرون شعوبهم والعالم بأنايّتهم، فإمّا أن لا يكون له صوت، وإمّا أن يساهم في تبرير ذلك باسم الثّقافة والعلم، فيقول في كلمته عام 1926م “إنّ الفنانين ورجال الفكر يسلسلون قيادهم للوطنيّة المتعصبة الضّيقة الأفق، إلى درجة أبعد ممّا يفعل رجال الأعمال”.

ويقصد بالوطنيّة الضّيّقة أي الأنانيّة الذّاتيّة إلى الشّعوب الأخرى، بحيث تكون مصلحته بمقدار ما يجنيه من منافع حصريّة لفئة معينة في دولة قطريّة ما، موضحا ذلك في كلمته عام 1934م “لقد كان يكفي المرء فيما مضى أن يتحرر من الأنانيّة الذّاتيّة لكي يصبح عضوا نافعا في المجتمع، أمّا اليوم فلابدّ له أن يتخلّص من ذاتيته الطّبقيّة والوطنيّة، ولن يسهم في تحسين مصير الإنسانيّة ما لم يرق إلى هذا المستوى السّامي”، أي المستوى الإنسانيّ، وكأنّ العالم وطن واحد للجميع، لهذا يرى أن يتربى الجنس البشريّ على هذه الوطنيّة الواحدة في عالم يسعهم جميعا، كما بيّن ذلك في كلمته حول الثّقافة والرّخاء عام 1934م “يجدر بالجنس البشريّ على قدر ما يعلّق من أهميّة واعتبار على الثّقافة …… أن يقدّم كلّ ما يستطيع من العون في هذه الأزمنة المباشرة …. الّتي نحتها الآن الأنانيّة الوطنيّة جانبا، تلك المشاركة الّتي تستقيم معها القيم الإنسانيّة بصرف النّظر عن السّياسات والحدود”.

لهذا يرى على المثقف أن يقف ضدّ برجماتيّة السّياسيّ، وتفكيره الضّيق، كما في رسالته إلى فرويد “إنّ عظماء الرّجال الّذين تؤهلهم إنجازاتهم مهما ضاق مجالها للصّدارة …. لا يؤثرون على مجرى الحياة السّياسيّة، بل يبدو إنّ هذا المجال وعليه يتوقف مصير البشريّة لا مفر من تركه تحت رحمة وتعسّف ولا مسؤوليّة الحكام السّياسيين”، كما يوجه الأمر ذاته إلى رجل العلم في خطاب ألقاه بمناسبة العشاء السّنويّ الخامس لنوبل [ت 1896م] في نيويورك 1945م “نحن الفيزيائيين لسنا رجال سياسة، ولم تكن لدينا أبدا أيّ رغبة في التّدخل فيها، ولكننا نلم ببعض الحقائق الّتي يعرفها السّياسيون، ونشعر أنّه من واجبنا أن نرفع الصّوت عاليا لنذكر أولئك المسؤولين … ولم يبق هناك وقت للمساومة الرّخيصة، إنّ الموقف يتطلب جهدا فائق الشّجاعة للقيام بتغيير جذري في موقفنا وفي كلّ المفهوم السّياسيّ”.

متألما أينشتاين في خطاب الحفل ذاته بقوله: “اليوم يرزح الفيزيائيون الّذين صنعوا أفتك وأخطر سلاح عرفه الإنسان على مر العصور تحت وطأة شعور بالمسؤوليّة بل بالذّنب يعادل ما ألم بنوبل”، أي لأنّ نوبل “اخترع أقوى متفجر عرف في أيامه، وهو وسيلة فذة للهدم والتّدمير، ولكي يكفّر عن هذا، ويستعيد راحة ضميره كإنسان قدّم هبته من أجل الدّعوة إلى السّلام، ومن أجل إنجازات السّلام”.

في ضوء هذه الصّدمات الثّلاثة يحاول أينشتاين تقديم بعض الرّؤى للعالم الجديد منطلقا من بعده الإنسانيّ في مفهوم الدّولة والمواطنة، فيرى كما في كلمته في مؤتمر نزع السّلاح عام 1931م “أنّ الدّولة كالعلم تماما قامت لأجل خدمة الإنسان، وليس الإنسان موجودا من أجل خدمتها”، وعليه “الدّولة يجب أن تكون خادما لنا، لا أن نكون نحن عبيدا لها”، ويرى الأمر أكثر سوءا إذا كانت هذه الدّولة لا تكتفي باستبدادها ونفعيّتها داخل حدودها الجغرافيّة القطريّة؛ بل تسعى إلى دمار شعوب أخرى، مستخدمة قوّتها الماليّة والإعلاميّة والعسكريّة تجاه دول أضعف منها، “ويزيد الطّين بلّة أنّ الغرض من هذه الخدمة التّسخيريّة [أي الجانب العسكري والتّسليح] ونتيجتها هو قتل الأفراد من الدّول الأخرى، أو التّدخل في حريّة أفرادهم”، وعليه يخلص مقالته حول الموقف الرّاهن في أروبا عام 1934م “إنّ مصالح أيّ دولة واحدة يجب ألا تتقدّم مصالح الجماعة الكبرى”.

لهذا يحذّر أينشتاين من استغلال الجانب العسكريّ الاستغلال السّيئ من جهة، لخدمة الاستبداد، وتدمير الشّعوب، ومن جهة ثانية يحذّر من التّسليح الإجباري، خصوصا عندما يكون غرضه خدمة الجانب السّلبيّ في الواقع السّلطويّ والعسكريّ، خاصّة وقد هرب أينشتاين من التّجنيد الإجباريّ من نازيّة هتلر [ت 1945م]، والّتي أذاقت العالم وبالا، ففي رسالته إلى أصدقاء السّلام عام 1934م يرى أنّه “لن تستطيع تربية الشّباب في ظلّ روح التّسامح، والاستمتاع بالحياة، ومحبّة كلّ البشريّة، ما لم تنجح في إلغاء الخدمة العسكريّة الإجباريّة نهائيّا”.

لهذا وبعد تجربة العالم للحربين العالميتين الأولى والثّانية يسّخر أينشتاين لسانه وقلمه في التّحذير من شر الحرب، ففي كلمته للطّلبة الألمان الدّاعين إلى السّلام عام 1930، يرى أقل الواجب الأخلاقيّ “هو أن نجحد كلّ حرب جحودا مطلقا”، كما يرى “أنّ بعض النّاس سيحاولون التّقليل من خطر الحرب بتحديد التّسلح، ووضع القواعد والأصول لسير الحرب، ولكن الحرب ليست لعبة من ألعاب التّسلية يتقيّد فيها اللّاعبون بالقواعد والأصول، فعندما يتحوّل الأمر إلى مسألة حياة أو موت تسقط القواعد والالتزامات”، كما أنّ “العبوديّة والمذلة الّتي تفرضها الحرب على الأفراد أشنع حتّى من الفناء والدّمار”.

وإذا كان في ذات كلمته للطّلبة الألمان الدّاعين إلى السّلام يرى “أنّ مصير البشريّة المتمدنة يتوقف الآن أكثر من أيّ وقت مضى على الطّاقة الأخلاقيّة”، إلا أنّه في مؤتمر نزع السّلاح عام 1931م يتأسف أنّ القليل من وقف عند هذه الطّاقة الأخلاقيّة، حيث “قليلون هم الّذين توفر لهم السّمو الأخلاقيّ الكافي للوقوف في وجه هذا التّيار، وإنّي أعدهم أبطال الحرب العالميّة الحقيقيين”، لهذا أمنيته في مقاله الدّعوة الحيّة إلى السّلام عام 1934م “كم أتمنى أن تستيقظ ضمائر الشّعوب، وأن تستعيد سلامة المنطق، حتّى تبلغ طورا جديدا في حياة الأمم، طورا ينظر فيه النّاس إلى الحرب على أنّها كانت ضلالا غير معقول تردى فيه أجدادهم”.

كما أنّه يتأسف أيضا من “أنّ نتائج التّقدّم الصّناعيّ تصبح كريهة محزنة عندما تتحوّل إلى وسائل لتدمير الحياة البشريّة، ومعها كلّ ما أقامه الإنسان بجدّه وعرقه”، لهذا في مقالته حول السّلام عام 1930م يبيّن أنّه “لقد أدرك جميع العظماء حقّا على تعاقب الأجيال أهميّة توفر السّلام الدّوليّ، ولكن التّقدم الصّناعيّ في زماننا قد حوّل هذا المطلب الأخلاقيّ إلى مسألة حياة أو موت بالنّسبة للجنس البشريّ”، ويأسف في رسالتة إلى المثقفين عام 1948م مع التّقدّم العلميّ والمعرفيّ والصناعيّ للإنسان إلا “أنّ الإنسان قد عجز عن تشييد أشكال التّنظيم السّياسيّ والاقتصاديّ الّتي تضمن التّعايش السّلميّ لأمم العالم [حيث] إنّنا لم ننجح في بناء ذلك النّوع من التّنظيم الّذي يستبعد إمكان وقوع الحرب، ويحرّم إلى الأبد أدوات التّدمير الجماعيّ السّفاحة”.

لهذا نجد تأثر أينشتاين بغاندي [ت 1948م]، ويراه النّموذج الأعلى، وقدوة الأجيال في السّلم العالميّ في العصر الحديث، ويظهر تأثره بفكر هذا الرّجل، وبفلسفته، وفي حديث إذاعي مع الأمم المتحدة عام 1950م أي قبل وفاته بخمس سنوات، يصرّح أنّ “آراء غاندي كانت في مجموعها أصوب آراء رجال السّياسة في زماننا، يجب أن نسعى إلى العمل وفقا لروحه، أن لا نلجأ إلى العنف في الدّفاع عن قضيتنا، بل أن لا نشترك فيما نعتقد أنّه شر وسيء”.

*مرجع نصوص أينشتاين في المقالة من كتاب: البرت أينشتاين أفكار وآراء، ط فارسو للنّشر والتّوزيع، مصر/ القاهرة، ص: 253 – 398.

السابق
الإنسان العربي في ضوء الدّول القطريّة
التالي
الأقليات والتّعدديّة في دولة المواطنة
– تنويه:

عدد من الصور المستخدمة للمقالات مأخوذة من محرك google

اترك تعليقاً