جريدة عمان 1443هـ/ 2022م
ارتبط التّنوير بعصر الأنوار في أروبا، بعدما شاعت لديهم الخرافة والجهل والاستبداد، فكان التّنوير للخروج من هذه الظّلمات الثّلاثة، وما يترتب عليها من آثار سلبيّة، دينيّة ومجتمعيّة وسياسيّة ومعرفيّة.
إلا أنّه اختلف في بداية عصر الأنوار المرتبط بالتّنوير، هل قبل الثّورة الفرنسيّة أم بعدها، بيد أنّ العديد يربطه بمرحلة الإصلاح الدّينيّ خصوصا عند مارتن لوثر [ت 1546م] وجان كالفن [ت 1564م]، وارتباط التّنوير بإصلاح الجانب الدّينيّ يظهر من كلام كانت [ت 1804م] في رسالته ما التّنوير: “إذا سُئلنا الآن هل نعيش حاليّا في عصر التّنوير؟ إليكم الجواب: كلّا، ولكن نعيش في زمن يسير نحو التّنوير، قد يستغرق التّنوير في حال الأشياء الحاضرة طويلا، هناك درب طويل ينبغي اجتيازه قبل أن يتمكن النّاس عامّة من أن يكونوا جاهزين لاستخدام عقلهم بثقة في المسائل الدّينيّة من دون توجيه خارجيّ” [في التّربيّة وإجابة عن سؤال ما التّنوير، ص: 125].
بيد أنّ عصر الأنوار في أروبا كان نتيجة اقتضاءات مسبقة، لم يولد في لحظة واحدة، إلا أنّه استفاد إيجابا من التّراث الفلسفي عند الإغريق والمسلمين، بعدما انفصل التّقكير العقلي والمعرفيّ عن الهيمنة الكنسيّة والسّياسيّة، لتظهر أهم معالمه وهي الانطلاق من قيم الإنسان الكبرى، والاهتمام بالعقل والمنطق والعلم، وظهور النّزعة الإنسانيّة والفرديّة للتّخلص من هيمنة الهوّيّة والماضويّة، إلى مقاومة الاستبداد وفصل السّلطات والعقد الاجتماعيّ، وتحقيق المشاركة السّياسيّة، مع احترام الحرّيّات والحقوق الفرديّة.
هذا الحراك التّنويريّ الّذي ساد أوربا خصوصا قابله غياب مطلق في العالم العربيّ والإسلاميّ عموما، نتيجة تراجع الدّولة العثمانيّة عن الاهتمام بالمعرفة العقليّة والفلسفيّة الّتي كانت سائدة في الدّولة العباسيّة، وحضارة الأندلس خصوصا، ممّا ورثتها أروبا وطوّرتها، في حين الدّولة العثمانيّة والّتي حكمت أغلب العالم الإسلاميّ والعربيّ حرّمت الطّباعة، وأعطت هيمنة كبيرة لرجل الدّين، قابله أبان ضعفها استعمار غربيّ لم يكن هدفه إحياء هذا الجزء من العالم، بقدر ما كان هدفه الاستيلاء على ثرواته وخيراته، ليشتغل هذا الجزء باغترابين، اغتراب ماضويّ يسوده بسبب تخلّف الدّول الحاكمة، واغتراب جعله يعيش في استرجاع حقّه، ومقاومة المستعمر بالقدرات البسيطة الّتي يملكها.
بيد أنّ بدايات التّنوير في العالم العربيّ مع تأخرها بدأت مع حركات إعادة قراءة النّصّ الدّينيّ من جديد، مماثلة لما كان في أروبا؛ لأنّ الثّقافة الدّينيّة هي السّائدة، بسبب تضخم النّصّ الدّينيّ التّأريخيّ، وتضخم التّفسير اللّاهوتيّ والاجتهاد الفقهيّ بشكل كبير، وتزاوجه مع هوّيات متعدّدة، قابله جمود معرفيّ في مذاهب محدّدة، لهذا كانت بدايات التّنوير مع الحركة القرآنيّة في الهند وباكستان مع السّيد أحمد خان [ت 1898م] في النّصف الثّاني من القرن التّاسع عشر، لينتقل إلى مصر مع توفيق صدقي [ت1920م] في النّصف الأول من القرن العشرين، ويتشكل في حركة قرآنيّة أوسع في النّصف الثّاني من القرن العشرين مع أحمد صبحي منصور [معاصر]، لتعمّ الحركة أغلب العالم العربيّ والإسلاميّ.
هذه الحركة أيضا تمثلت في مراجعات منهجيّة، ولم تكتف فقط بالقراءات القرآنيّة الأفقيّة، كما عند محمود أبو ريّة [ت 1970م]، وأبي القاسم حاج حمد [ت 2004م]، ومحمّد شحرور [ت 2019م]، وعالم سبيط النّيلي [ت 2000م]، وطه جابر العلوانيّ [ت 2016م]، وغيرهم.
ليقابل هذه الحركة الحركةُ الإصلاحيّة، ابتداء في مصر مع حسن العطار [ت 1835م]، وتلميذه رفاعة الطّهطاويّ [ت 1873م]، وتتمثل أكثر مع جمال الدّين الأفغانيّ [ت 1897م]، وتلميذه محمّد عبده [ت 1905م]، لتتولد عنها مراجعات متباينة ومتفاوتة كما عند عليّ عبد الرّازق [ت 1966م]، ومحمود شلتوت [ت 1963م]، وغيرهم.
بيد أنّ هذه المدرسة تراجعت مع حركة الصّحوة، ونأثرت بالمدرسة السّلفيّة التقليديّة، ودخلت في جدليّة الأسلمة، وما يسمّى بالإسلام السّياسيّ، كما أنّها لم تولّد رؤية نقديّة وتفكيكيّة واضحة، بقدر ما كوّنت رؤى إصلاحيّة أكثر انفتاحا وانشراحا من المدرسة السّلفيّة التّقليديّة.
ليتوّلد من هذه المدرسة ما يسمّى بالمدرسة التّجديديّة أو التّوافقيّة، وهي ردة فعل للتّيار القائل بأنّ سبب تخلفنا هو الدّين ذاته، فعلينا أن نخلع لباسه، ونلبس لباس الحاضر بحضارته وثقافته، كما في بعض آرائه عند شبلي شميل [ت 1917م]، وسلامة موسى [ت 1958م]، وغيرهم، فأرادت هذه المدرسة التّوفيق بين تراث الشّرق ودينة أي الأصالة، وبين الاستفادة من الحضارة الغربيّة فيما لا يتعارض مع ثقافة الشّرق ودينه أي المعاصرة، وحاولت استخدام التّبرير في التّعامل مع النّص الدّيني.
إلا أنّ هذه المدرسة أيضا كسابقتها تزاوجت مع التّيار السّلفي التّقليديّ بعد مرحلة الصّحوة، ولم تقدّم منهجيّة نقديّة واضحة، ليدخل العالم العربي في نهايات النّصف الثّاني من القرن العشرين، وبدايات القرن الحادي والعشرين في مرحلة جديدة في تفكيك النّص الدّينيّ، والاستفادة من تطوّر الآلة المعاصرة في ذلك، وعدم الجمود على الآلة القديمة، متمثلة في مدرسة الأنسنة والظّرفيّة التّأريخيّة، والعقليّة، وغيرها.
هذا التّوجه وإن كان في بداياته، إلا أنّه أكثر عمقا في مراجعة النّص الدّينيّ وتفكيكه، وهو وإن كان أقرب أقرب إلى الأكاديميّة؛ إلا أنّ تأثيره الرّأسي أكثر توغلا مستقبلا إذا ما أثر على تفكير السّلطة السّياسيّة، ورغبتها في الإصلاح الدّينيّ، والتّقدّم بحركة التّنوير في عالم ما بعد الحداثة.
يتداخل هذا الاتّجاه مع حركات فكريّة وتنويريّة ولدت أيضا منذ فترة مبكرة، وعاشت صراعا وتدافعا مع الحركات السّلفية التّقليديّة؛ بل حتّى مع الحركة الإصلاحيّة والتّجديديّة، كتوجهات العلمنة والحداثة واللّبراليّة وغيرها، وهذه وإن كانت قديما فُصِلَت عن الجانب الدّينيّ في العقل الجمعيّ، إلا أنّها اليوم تتجه نحو التّزاوج مع الحركات النّقديّة للواقع الدّينيّ والاجتماعيّ والسّياسيّ من خلال مشترك الأنسنة والتّأريخيّة والعقليّة والعلمويّة ونحوها.
هذا التّدافع وإن كان بطيئا، ولم يولّد نظريّات واضحة مستقلة، إلا أنّه أيضا يعاني من عدم وجود استقلاليّة معرفيّة وثقافيّة واضحة بعيدا عن توجيهات السّلطة السّياسيّة، ليكون هو المؤثر وليس العكس، خاصّة وأنّ العديد من السّلطات السّياسيّة العربيّة لا زالت تعيش تحت مظلّة هوّيّة الهوّية دينيّا أم اجتماعيّا أم ثقافيّا، وليس هوّيّة الدّولة الواحدة أي المواطنة باعتبار الفردانيّة من حيث الذّاتيّة، كما أنّ أغلب المشاريع التّنويريّة المستقلة فرديّة وليست مؤسّساتيّة جمعيّة.
إلا أنّه في المقابل، ونحن في النّصف الأول من القرن الحادي والعشرين، نجد أنّ التّنوير في العالم العربيّ اليوم أكثر مرونة وحركة من القرن العشرين، لأسباب عديدة منها تمكن الحضارة الواحدة شرقا وغربا، وارتباطها بالإنسان الماهيّ، مع تهذّب الثّقافات والهوّيّات بما يخدم هذه الحضارة الإنسانيّة الواحدة.
كما أصبحت المجتمعات العربيّة أكثر وعيا بدولة المواطنة القائمة على الفردانيّة والشّراك المجتمعيّ، والحافظة لحقوق الجميع على مبدأ الذّات الواحدة، وعلى إقرار المساواة والعدل والحرّيّات، وعلى مقاومة الاستبداد، والتّمدد الأفقي في تحقق ثقافة الحقوق في الدّولة القطريّة الواحدة.
كذلك بدأ العقل الجمعيّ الانتقال من الاغتراب الماضويّ إلى عالم النّزعة الإنسانيّة، وحضور هذه النّزعة في تعامله مع الدّين والثّقافة والهوّيّة بشكل عام، لهذا لم يعد يعش في عصر التّوجس من المختلف الآخر، بل أصبح منفتحا عليه، ومشتركا معه، وإن خالفه دينا أو مذهبا أو فكرا، سائرا في طريق الفصل بين حقوق المواطنة المبنيّة على المساواة، وبين الهوّيّات الكسبيّة، والقناعات الشّخصيّة.
وساعد في رفع هذا الوعي وجود إعلام حر أصبح مشاعا بين الجميع دون وصاية المؤسّسة الدّينيّة والاجتماعيّة، أو هيمنة المؤسّسة السّياسيّة والثّقافيّة، فأصبحت المعارف، وما توصل إليه العقل الإنسانيّ؛ مشاعة بين الجميع، وأصبح العالم يعيش في قرية واحدة.
ولا نعني بهذا تغليب الرّؤية الورديّة والمثاليّة؛ لأنّ الصّعوبات لا زالت قائمة، وأمام الجيل القادم تحدّيات وصعوبات، إلا أنّه كما يقول كانت كما أسلفنا: “نعيش في زمن يسير نحو التّنوير، قد يستغرق التّنوير في حال الأشياء الحاضرة طويلا، هناك درب طويل ينبغي اجتيازه قبل أن يتمكن النّاس عامّة من أن يكونوا جاهزين …”.