المقالات الفكرية

بابا الفاتيكان وشيخ الأزهر وحوار الشّرق والغرب من أجل التّعايش الإنسانيّ

جريدة عُمان 1444هـ/ 2022م

برعاية الملك حمد بن عيسى آل خليفة ملك البحرين افتتح مؤتمر “الشّرق والغرب من أجل التّعايش الإنسانيّ” في بداية نوفمبر الحالي، بحضور أكبر شخصيتين رمزيتين عند المسيحيين والمسلمين، أمّا الأولى فهي البابا فرنسيس، بابا الكاثوليك، وهي أكبر طائفة مسيحيّة في العالم المسيحيّ، وتفردت بالكرسيّ المسيحيّ في العالم بعد ضعف الأرثذوكس، ومها انبثقت البروتستانتيّة الّتي تشكل حضورا كبيرا خصوصا في الغرب، ويشتركون في كونهم خلقودنيين قائلين بالطّبيعتين في شخص واحد، وأقنوم واحد، وأمّا الشّخصيّة الثّانية فهي شيخ الأزهر أحمد الطّيب، وهو رمزية سنيّة أشعريّة، والسّنّة الأشاعرة هم أغلب المسلمين اليوم، كما أنّ الأزهر الشّريف في مصر يعتبر أكبر حوزة دينيّة عند المسلمين، في حين أنّ روما وقلبها الفاتيكان هي أكبر رمزيّة دينيّة مسيحيّة في المقابل.

ومنذ عام 1947م نادى الشّيخ محمود شلتوت مع الشّيخ محمّد تقيّ القميّ  [ت 1990م] نيابة عن آية الله السّيد حسين البروجرديّ [ت 1961م] بإحياء نظريّة التّقريب بين المدارس الإسلاميّة، وفي عام 1949م أصدروا مجلّة “رسالة الإسلام” حتى وقّفت سنة 1972م بعد إصدار ستين عددا، فكان الأزهر قبلة رسالة التّقريب، حتّى ولادة مؤسّسات أخرى لاحقا كرابطة العالم الإسلاميّ، كما أنّ هناك لقاءات واجتماعات بين الأرثذوكس والكاثوليك خصوصا وبين المسيحيين عموما فيما يتعلّق بالبيت المسيحيّ، إلا أنّ الانفتاح الإسلاميّ المسيحيّ لم يكن حضوره بتلك القوّة، مع الوجود المسيحيّ العريق في الشّرق كانوا ملكيين أو يعاقبة أقباط وسريان أو نساطرة، كما أنّ الوجود المسيحيّ أصبح مهدّدا بالانقراض في الشّرق بسبب الهجرة النّاتجة عن التّمييز والإقصاء والقتل.

ولمّا أحدث صامويل هنتنجتون [ت 2008م] نظريّته صدام الحضارات في أواخر القرن العشرين؛ أحدثت شيئا من الضّجيج، حاول بعضهم إبدالها بحوار الحضارات، في حين رأى أخرون أنّ الحضارات لا تتحاور وإنّما الثّقافات هي الّتي تتحاور، كما أنّها هي الّتي تتصارع، وفي هذه الأجواء كانت فكرة حوار الأديان، ولكونها ثقافات قد تساهم سلبا أم إيجابا في بناء الحضارة.

إلا أنّ الواقع الدّينيّ في العالم اليوم يعيش ثلاث مواجهات، الأولى تتمثل في انتشار الاتّجاهات اللّادينيّة بشكل كبير عقائديّا أو سلوكيّا، والثّاني ظهور الأنسانويّة كبديل عن الاغتراب اللّاهوتيّ في الأديان، والثّالث تقارب العالم مهّد لانتشار هذه الاتّجاهات شرقا وغربا، ممّا جعل من الأديان أن تتقارب لضرورة الاتّحاد لمشترك الإيمان أولا، ولما تحمله من مشتركات قيميّة وأخلاقيّة تجعلها تتجاوز التّقريب والحوار تحت خطّ المذاهب داخل الدّين الواحد، إلى الأديان ذاتها، كبيت واحد داخل المجتمع الإنسانيّ.

لهذا سنجد البابا فرنسيس يكثّف من علاقاته بالشّرق والأديان الأخرى، كما سنجده يهتم بالوطن العربيّ، مهد الأديان الإبراهيميّة، ومنها المسيحيّة بطبيعة الحال، مبتدءا زيارته للأردن وفلسطين عام 2014م، أي بعد توليه البابويّة بعام واحد، ثمّ مصر عام 2017م، والمغرب 2019م، ثمّ العراق 2021م، والأصل يزور لبنان 2022م، إلا أنّها تأخرت لأسباب صحيّة كما أعلن، بيد أنّ هذه البلدان لها ثقل مسيحيّ قديما وحديثا، وبعضها مرتبط بالمسيح والأماكن المقدّسة كما في فلسطين والأردن ومصر.

إلا أنّه من الملفت أن تكون زيارة البابا لدول خليجيّة، الأولى كانت في الإمارات عام 2019م، والأخيرة إلى البحرين في هذا الشّهر، وهاتان الزّيارتان تجاوزتا خطاب الأديان إلى خطاب الإنسان تحت مظلّة الدّين، وهي التفاتة مهمّة أمام اتّجاهات الإنسانويّة اليوم، وارتباط الحضارة بالإنسان، ولكون الأديان ثقافات فالمشترك بينها وبين الحضارة خطاب الإنسان، لهذا كان المؤتمر في أبو ظبي بعنوان: “المؤتمر العالميّ للأخوة الإنسانيّة”، وفي البحرين بعنوان: “الشّرق والغرب من أجل التّعايش الإنسانيّ”، كما أنّ مؤتمر أبو ظبي خرج بوثيقة الأخوة الإنسانيّة، كمشترك مهم ينطلق من القيم إلى الأديان، تحت مظلّة الإنسان.

ولمّا نأتي إلى مؤتمر “الشّرق والغرب من أجل التّعايش الإنسانيّ” في البحرين نجد البابا فرنسيس ينطلق من رمزيّة البحرين ذاتها، فإذا كانت البحرين تحمل رمزين: البحر العذب والبحر المالح؛ كذلك نحن البشر اليوم نعيش بحرين، بحر العيش المشترك، فهو بحر هادئ وعذب، يقابله بحر يحمل اللّامبالاة مع العلاقات المشوبة بالكراهيّة والحروب، فعلينا نحن معاشر البشر أن نبحر في البحرين عن طريق اللّقاء والحوار وليس الصّراع والحروب، وهذا لا يتحقّق إلا بمشاركة الجميع، فالشّرق والغرب جميعا اليوم في سفينة إنسانيّة واحدة، فهذا الإنسان خرج من حربين عالميتين، وعانى بعد حرب باردة، والعالم اليوم يعيش في تناقضات تتهدّد البيئة، وساسة يغلّبون مصالحهم على مصلحة الإنسان، ومن السّاسة من يحيي اللّغات القديمة المتمثلة في الصّراع والحروب، والمشكلة عندما نشاركهم في فرض رؤانا الاستبداديّة والامبرياليّة والقوميّة والشّعبويّة، فلا نهتمّ بثقافة الآخر، ولا نستمع إلى صرخات عامّة النّاس، وصوت الفقراء، ولم نفهم بعضنا، ونتعاون لمصلحة الجميع، فهناك مساوئ تهدّد الإنسانيّة منها عدم المساواة، وانتشار الجوع والفقر، وتغيّر المناخ، وهناك ثلاث تحدّيات تهدّد الإنسانيّة اليوم: الصّلاة والتّربية والعمل، فالصّلاة تحرّر الإنسان من ضيق الأنا إلى سعة العالم، والإنسان للأسف يحاول الإنغلاق حول جوهر ذاته أي الأنا، فيسقط وفق ذلك تعصبه لذاته ولجماعته، فالصّلاة تحرّرنا في الأصل من الأنانيّة والانغلاق، لنرى سعة الخالق والعالم، فذاتنا مرتبطة بالكرامة والحريّة إذا تحرّرت من الأنا، فهناك كرامة إنسانيّة لا متناهيّة في جوهر كلّ فرد منّا في هذه الحياة، ولهذا لا بدّ من الحريّة، ومنها الحريّة الدّينيّة لكلّ فرد، فعلينا أن نحارب الإكراه الدّينيّ، والإكراه الدّينيّ يتنافى مع جلال الله، فلم يسلّم الخالق العالم إلى عبيد، بل إلى مخلوقات حرّة، وبعد تحرير الصّلاة من ضيق الأنا لابدّ من التّربية، والتّربية ترتبط بالعلم المرتبط بالإنسان، لا المرتبط بالتّزمت والتّعصب والجهل، على أن تكون التّربية منفتحة على ثقافات الآخرين وليست منعزلة، لهذا لابدّ أن نتحرّر من القوّة إلى العقل، ومن الماضي إلى الحاضر، وأن نخرج من ضيق الثّقافة في التّربية إلى سعة المواطنة، القائمة على المساواة من حيث الواجبات والحقوق، لنتجاوز مصطلح الأقليّات المرتبط بالعزلة والإقصاء والدّونيّة، وأمّا العمل فلا يكفي أن نقول إنّ هذه الدّيانة مسالمة؛ بل لابدّ أن نحارب من يستخدم اسم الله في الدّمار والكراهيّة والعنف والحروب، لهذا علينا أن لا نقف مع الحركات الإرهابيّة لا بالمال ولا بالدّعم ولا التّبرير ولا الإعلام، وعلى رجل الدّين أن يقف مع الجميع من منطلق الأخوّة والحوار والسّلام.

لتقابل كلمة البابا فرنسيس كلمة شيخ الأزهر، ورئيس حكماء المسلمين أحمد الطّيّب، مبيّنا أنّ سبب المآسي في الشّرق والغرب هو غياب ضابط العدالة الاجتماعيّة، والمشكلة عندما نجد بعض النّظريّات الفلسفيّة تغيّب العدالة الاجتماعيّة، كنظريّة صراع الحضارات، ونظريّة نهاية التّأريخ، ونظريّة العولمة، فهي نظريّات استعلائيّة، تمهد لاستعمار حديث لا ندرك حيثياته، لهذا ينادي بعضهم أن تحلّ الثّقافة محلّ السّياسة في العلاقات الدّوليّة؛ لأنّ الثّقافة لها قدرة في فهم الإنسان، واستيعاب مكوّناته من جسد وعقل وروح ووجدان، فنأمل أن تكون العلاقة بين الشّرق والغرب علاقة تكامل؛ لأنّ الكلّ أصبح مفتوحا على بعضه، فالغرب بحاجة إلى حكمة الشّرق وأديانه وقيمه وروحانيّته، وإلى سوقه وسواعد أبنائه ومعادنه، والشّرق بحاجة إلى علوم الغرب ومناهجه واستيراد المنتجات الصّناعيّة والاستفادة من تقدّمه، كما أنّ العديد من الشّرقيين هاجروا إلى الغرب واندمجوا فيه، صاحبه هجرة الثّقافة الغربيّة إلى الشّرق، فنحن اليوم أمام علاقة إنسانيّة هادئة يحافظ فيها على ثقافات الشّعوب وتباينها، بعيدا عن الهيمنة الثّقافيّة الواحدة، ونحن في الشّرق لدينا نظريّة شرقيّة إسلاميّة بديلة عن نظريّة صراع الحضارات، ألا وهي نظريّة التّعارف الحضاريّ، فهي تعني الانفتاح على الآخر والتّعرف عليه، وتستند إلى أصول ثلاثة: أولها: خلقَ الله النّاس مختلفين في العرق واللّون واللّغة والدّين، وثانيها: لمّا خلقهم مختلفين كانوا أحرارا فيما يعتقدون، وإلا لا فائدة من الاختلاف، والثّالث: إذا كان القرآن يقرّر الاختلاف والحريّة يقرّر هنا العلاقة بينهما وهي علاقة التّعارف، لهذا لابدّ من التّربية على مشتركات الأديان، وأن ندرك أنّ تنوع الثّقافات يثري حضارة الإنسان، ويقود إلى السّلام.

نجد من كلمتي البابا وشيخ الأزهر حضور النّزعة الإنسانيّة كأصل مشترك بين الأديان، وهي مدار حواره وتقابسه ومشتركاته، ثمّ وضع الأديان في جانب الثّقافة يعطي مساحة لدراسات أكبر، كالأنسنة والتّاريخيّة والظّرفيّة، ويعطي بُعدا أوسع في فهم الحضارة وصيرورة الحياة، وبلا شك جميل أن تكون هذا النّزعة حاضرة من أكبر رمزيتين في المسيحيّة والإسلام، وهما من أكثر الدّيانات عددا في العالم مع الهندوسيّة، إلا أنّه لا ينبغي أن تتوقف هذه الرّؤية الإنسانيّة المنفتحة عند حدود الكلمات الاحتفائيّة، وبرامج المؤامرات؛ بل ينبغي أن تكون صورة جديدة للأديان تربية وعقلا وخطابا وواقعا، ليتجاوز العالم من اغتراب الأديان، إلى أنسنة الأديان، وفيما يخدم الإنسان، مع مراعاة خصوصيّات الأديان اللّاهوتيّة والطّقسيّة.

السابق
العمانيّ ليس طبّالا
التالي
الإسلام المبكر من حوليّات الرّاهب القرطمينيّ
– تنويه:

عدد من الصور المستخدمة للمقالات مأخوذة من محرك google

اترك تعليقاً