المقالات الفكرية

الشّباب وقضايا الواقع

الشّباب وتساؤلات الإيمان والدّين

البحث والتّساؤل شيء فطري في الإنسان، فلمّا يولد الطّفل تصيبه الدّهشة لما حوله، لذا يحاول التّساؤل كثيرا لما يدور حوله، ويكتشف ما حوله!!

والإنسان دينه بيئته، فهو ابن بيئته، لذا يكتسب ثقافته الأولى، وتدينه الأول من البيئة الّتي نشأ فيها، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمسلمانه!!

ثمّ لمّا يخرج إلى العالم الآخر، ويسافر في الأرض قراءة أو سيرا؛ يبدأ في اكتشاف عالم آخر غير عالمه، وثقافة أخرى غير الثّقافة الّتي ولد فيها؛ لهذا تصيبه الدّهشة، فيحاول البحث والنّظر والتّدبر والتّأمل.

ولئن كان قديما حاول الإنسان مع صعوبة التّنقل، وخشونة الحياة؛ فهم الآخر، واكتشاف الكون، وحاول بداية كما يقول جوستاين غاردر [معاصر] اكتشاف ما حوله مستخدما الدّهشة لما يدور حوله.

وهكذا استطاع التّحديّ في كشف سنن الوجود، فتناقل المعرفة شفويا، ثمّ اكتشف الكتابة، وورق النّخيل واللّحاء، وعلى الصّخور والعظام، حتى اكتشف المصريون القدامى ورق البرديّ، فانتشر الكتاب، وانتشرت العديد من الفلسفات عن طريق نسخ الكتب وتداولها بين الأمم والحضارات، فحفظ لنا تراث اليونان وفارس والهند والعرب وغيرهم.

إلا أنّ النّقلة النّوعيّة ما قام به يوهان غوتنبرغ [ت 1468م] باكتشاف الطّباعة ممّا أحدث نقلة نوعيّة وكبيرة في تداخل المعارف، وبسبب الطّباعة قامت الصّحف والمجلات، حتى كان القرن التّاسع عشر الميلاديّ فاكتشفت الإذاعة ومن ثمّ التّلفاز، مرورا إلى القرن العشرين فكانت الفضائيات والشّبكة العالميّة والمواقع الالكترونيّة، ووسائل التّواصل الاجتماعيّ، كلّ هذا أحدث نقلة نوعيّة في انتشار المعارف، وتداخل العلوم وتطورها.

هذا الجوّ من الفضاء المفتوح فتح تداخلا معرفيّا، وبدوره في المقابل سيزيد من درجة التّساؤل لقرب البحث من الجيل الجديد، حيث أصبحت المادّة المعرفيّة متاحة، وهنا يرى حسن الصّفار [معاصر] ضرورة الانفتاح والقرب من الشّباب، والإجابة عن تساؤلاتهم!!

والقرآن الكريم فتح باب البحث والنّظر حيث يقول: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآَخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [العنكبوت/ 20]، فالسّير في الأرض إنّما يكون بالبحث، والبحث بذاته يثير حاسّة التّساؤل، والتّساؤل يولّد مجموعة من المعارف لكشفها والوصول إليها.

وكما أنّ القرآن الكريم يحث على السّير في الأرض؛ أيضا يحث على التّفكر، وجعل التّفكر من صفات المؤمنين حيث يقول: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران/ 191]، والتّفكر قرين التّأمل والتّدبر، وهي من أهم عناصر الكشف والإبداع.

وبطبيعة الحال ليس المقام مقام تتبع آيات القرآن؛ لأنّ القرآن مليء بآيات النّظر والتّدبر والتّعقل والتّأمل والسّير، ولكن الّذي يهمنا هنا أمران:

الأمر الأول: فتح المجال للشّباب لكي يبحث ويسأل ويستفهم، ولأن يخطئ في بحثه وتساؤله بحرية ولو أكثر من مرة، خير له أن يكبت تحت أيّ مسمى ما دام تحت مظلّة القانون والأخلاق؛ لأنّ الكبت يولّد نفاقا ظاهريّا، وتطرّفا فكريّا، بيد أنّ الحريّة المنظمة تولّد صدقا ظاهريّا، واعتدالا فكريّا.

الأمر الثّانيّ: القرب من الشّباب ضرورة مهمّة، والإجابة عن تساؤلاتهم أكثر أهميّة، ومحاورتهم والتّواضع معهم من الجوانب التّربويّة ذات التّأثير العميق، وهذا منهج الأنبياء – صلوات الله وسلامه عليهم – فيقتربون من النّاس والشّباب ونواديهم.

والأمر اليوم أصبح متاحا بكلّ سهولة، بسبب وسائل التّواصل الاجتماعيّ، وكثرة النّواديّ الثّقافيّة، لذا مخاطبة الشّباب من برج عاجٍ لم يعد مجديا؛ لأنّ ثقافة التّساؤل والبحث أصبحت هي الشّائعة لدى الجيل الجديد، وثقافة الوعظ والأوامر إن لم تكن عن قرب لن تحقق أهدافها، وسيبحث الشّباب عن فضاء آخر، خاصة في فضاء العالم المفتوح اليوم!!!

الشّباب بين التّشدد والانفلات

لا يوجد في الحقيقة شيء اسمه وسط بين كلّ شيء؛ لأنّ عالم الأفكار والتّصورات متداخلة فيما بينها، لطبيعة التّفكير والإيمان البشريّ، ولكن هناك جانبان متنافران: جانب متحجر لا يعترف بالآخر، وجانب لا يلقي اهتماما للآخر، وكأنّه يعيش في عالم آخر، لهذا يقوله سبحانه وتعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة/ 143]، والوسطيّة هنا وسطيّة شهادة وحضور وتداخل، وليس المراد بالمعنى الحرفيّ للوسطيّة، كما فعل بعضهم حتى في فروع الخلاف مع تكلّف في الإنزال والتّحليل، يقول أبو اليسر رشيد كهوس في كتابه علم السّنن الإلهيّة من الوعي النّظريّ إلى التّأسيس العمليّ صفحة [77 – 78]: “لكن السّنن الإلهيّة سلكت طريقا وسطا من غير تفريط ولا إفراط، فلا هي تضيّق الخناق على النّاس حتى تملها نفوسهم، وتنفر منها قلوبهم، ولا هي أرخت لهم العنان في السّهولة حتى تغرق النّفوس في أوحال شهواتها، وبراثين ملذاتها، وتبلغ منتهى هواها ومآربها، هكذا تميزت سنن الله بالتّوسط دون إفراط ولا تفريط”.

والتّشدد يماثله التّعصب والغلو والتّطرف، وجميع هذه المصطلحات لها جانبان: جانب الاعتداد بالذّات، واعتبار الذّات هي الأفضل، وهي الممثل الوحيد عن الله، وأنّ النّجاة تكون عن طريقها!!

والجانب الثّانيّ جانب إلغاء الآخر، وعدم الاعتراف به، وتحقيق مستوى التّعايش معه، وإن يظهر حينا الدّعوة والتّقرب إليه إلا أنّه سرعان ما يذبل ويظهر خلافه عند الإنزال والتّطبيق، ليحلّ محلّه الإقصاء والتّهميش والإيذاء!!

لهذا نجد القرآن يقول: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فليكفر} [الكهف/ 29]، فهنا القرآن يقرر مبدأ العزة في الإيمان بالله، والدّعوة إلى ذلك، ولكنه أيضا يقرر مبدأ الحرية والاختيار لمن شاء الإيمان أو عدمه، وإنّما يكون البرهان هو الفيصل والحكم هنا!!

ويقول في موضع آخر: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آَمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [الشّورى/ 15]، وهنا القرآن يقرر مبدأ الاعتزاز بالذّات، والاستقامة على المنهج، والدّعوة إليه، وعدم اتباع أهواء الآخرين، إلا أنّه يقرر مبدأ حرية الآخر، وعدم إكراهه، ومشاركة الله في الحكم الأخرويّ، ويدعو إلى العدل الدّنيوي!!!

فلمّا ننهى عن التّشدد لا يعني النّهي عن التّمسك والاستقامة عليه، وكذا الحال بالنّسبة إلى الانفلات، لكوننا ندعو إلى الإيمان والعمل الصّالح، ولكن لا يكون هذا بالإكراه وعدم العدل ومشاركة الله في الحكم!!

وهكذا إذا جئنا إلى الجانب السّلوكيّ والعمليّ، فنجد كثيرا ما يحدث التّشدد في مسائل رأي يسع الخلاف حولها، ولهذا قيل قديما: لا إنكار في مسائل الخلاف أي الرّأي، ويقول أبو سعيد الكدميّ [ت 361هـ]: ليس العالم من حمل النّاس على ورعه، وإنّما العالم من أفتى النّاس بما يسعهم في الدّين.

فقسّم الأوائل المسائل إلى مسائل دين ومسائل رأي، ومسائل الدّين بمعنى لا تحتمل إلا وجها واحدا كعدد ركعات الصّلاة، فهذه قليلة جدا، ومحصورة العدد، وهي متفق عليها بين الأمّة أجمع سواء من خلال النّص القرآنيّ، أو من خلال السّنة المجتمع عليها.

وإنّما الدّائرة الواسعة هي دائرة الرّأي، وإن كان الدّليل في الكثير من الأحيان قطعي الثّبوت، أو له شهرته وقوّته؛ إلا أنّ الخلاف وراد بقوّة في فهمه وتأويله، كالخلاف في مسح أو غسل الأرجل في الوضوء، والخلاف في العديد من القضايا الفقهيّة في فهم الدّليل المفصل لبعض جزئيات القضيّة، فضلا عن الأدلّة العديدة المجملة في الكثير من القضايا، كآية الشّورى والعدل والصّلح ونحوها كثير، ممّا هو مرتبط بالصّيروة البشريّة زمانا ومكانا، ولا يمكن تقييده بزمن معيّن، وإلا سيقع العقل المؤمن في جمود وتحجر، ويصعب عليه العيش في حاضره، والنّظر إلى مستقبله.

لهذا لا يصح التّشدد في مسائل واسعة والتّحجر فيها، وفي الوقت نفسه لا يعني هذا الانفلات المطلق، والإنكار المحض!!!

الشّباب ودائرة الماضي

الماضي جزء من الحدث البشريّ في هذا الكون، سواء عن نشأته واتصاله بالطّبيعة، وتطور معارفه وعلومه، وطرق حياته ومعيشته، ولغته ووسائل تعامله، وما تبع ذلك من تنوع وتعدد واختلاف!!

وسواء أيضا عن الحدث الّذي أحدثه فيه من خير وشر، ومن تآلف وصراع، ومن حرب وسلام، ومن بناء الأرض والإصلاح فيها، إلى الإفساد ونشر الدّمار بها!!

أم سواء عن اكتشاف السّنن الكونيّة، وتطور العلوم المتعددة، وأهمها علوم الطّبيعة والتّجربة، وما تبع ذلك من رقي معيشته، وتطور حياته وحضارته!!

هذا الماضي في جملته لا يمكن بحال إهماله، أو غضّ الطّرف عنه؛ بل أمرنا الله تعال بالسّير فيه واكتشافه حيث يقول سبحانه وتعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [الأنعام/ 10]، ويقول: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآَخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [العنكبوت/ 20].

فليس المشكلة في هذا، وإنّما المشكلة في طرفين: التّحجر في الماضي، والتّوقف عنده، والتّعصب له، واعتباره مقدّسا، والنّظر فيه ونقده أشبه بالمحرم، ممّا يضعف في تقدّمه وتقبله للجديد!!

والمشكلة الأخرى وهي أكبر من الأولى أن نظلّ رهين صراع القرون الأولى، وأحداث الأمم السّابقة، فهذا يتعصب لهؤلاء ملائكيّا في حين آخرون ينظرون إليهم نظرة شيطانيّة، فتغيب النّظرة البشريّة بين الفريقين!!

ولو اقتصر الأمر على البحث العلميّ، والنّظرة المدرسيّة لهان؛ بل تجاوز الأمر إلى إدخال هذا الصّراع إلى الدّين، ومشاركة الله تعالى في الحكم على العباد، فأصبح الصّراع على الماضي بدل الاتعاظ به، والاستفادة من حسناته، وعدم تكرار سيئاته، إلا أنّ أحداث الماضي أصبحت عقيدة مقدسة، ملازمة للإيمان بالله واليوم الآخر!!

والله تعالى لمّا تحدث عن أحداث بني إسرائيل، ولمّا تطرّق إلى بعض الأخطاء الّتي حدثت من قبلهم، ختم كلامه بقوله: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة/ 134].

بيد أنّ الشّباب من الجيل المسلم لا زال يعاني صراع السّقيفة، ومقتل عثمان بن عفان [ت 35هـ]، وأحداث صفين والنّهروان وكربلاء، فهذا يتعصب لهؤلاء، وذاك يتعصب لأولئك، وجميعها حدثت بعد قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة/ 3].

إنّ مرحلة الشّباب طاقة مهمة، بحاجة إلى شيء من الهدوء والاطمئنان، لكي يظهر أثرهم في واقعهم، فيعيشوا عصرهم، ويبدعوا وفق زمنهم، لا أن يكون رهين صراع أمّة خلت، لها ما كسبت، وسيكون لهم ما كسبوا أيضا!!

إنّ الحياة بطبيعتها تفاعلية، وليست جينات تتوارث، لهذا من حكمته سبحانه أنّه قرر: {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} [القيامة/ 14]، وفي الوقت نفسه قرر: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [الأنعام/ 164].

فجيل الشّباب المجتمعُ بحاجة إليه من خلال نزوله إلى عصره، وتفاعله مع وقته، ليترك أثرا للأجيال المقبلة، إن كانت جيدة كنت سنة حسنة للأجيال القادمة، وإن كانت خطأ استفاد منها الجيل المقبل، كما ترك السّلف أثرا منه الحسن ومنه دون ذلك، فكذلك هذا الجيل سيترك نفس الأثر لتفاعليّة الحياة وصيرورتها، أمّا العيش في صراع الماضي، وكأننا رهين ذلك، فيكون النتاج سلبيّا، ويضيع الوقت في صراع غير زماننا، وخلاف أمّة خلت، وهي بذاتها لو أعاد الله إليها الرّوح لاشتغلت بحاضرها وواقعها!!!

الشّباب ووسائل التّواصل الاجتماعيّ

في منتصف القرن الخامس عشر الميلاديّ اكتشف يوهان غوتنبرغ [ت 1468م] آلة الطّباعة، والّتي أحدثت نقلة نوعيّة في سهولة طباعة الكتاب ونسخه، ومن ثمّ انتشاره، وما تبع هذه من ظهور الصّحف بداية من المجلّة الأسبوعيّة “إيه كرنت أوف جنرال نيوز” في أنجلترا في القرن السّابع عشر، ثمّ ظهور المجلات في القرن الثّامن عشر الميلاديّ بداية مع مجلّة السّيد في أنجلترا أيضا.

وفي عام 1906م ابتدأ بث الإذاعة، وقد أحدثت ثورة معرفيّة واجتماعيّة وسياسيّة واسعة المدى، وإن كان التّلفاز اكتشف مبكرا إلا أنّ عصره الذّهبي كان في بداية القرن العشرين، إلا أنّ الإذاعة أقوى حينها من حيث قدرة الفرد على متابعة أكثر من تردد صوتيّ، حتى كان القمر الصّناعيّ في النّصف الثّانيّ من القرن العشرين، وفي نهاية هذا القرن كانت الفضائيّات، والّتي أحدثت نقلة أهما أنّها خلّصت المجتمعات من الاستبداد الرّسميّ في إدارة هذه القنوات إلى فضاء أكثر حريّة، وأكثر تعدديّة أيضا.

وفي عام 1975م كانت بوادر الشّبكة العنكبوتيّة العالميّة، إلا أنّ فترة التسعينات من القرن العشرين مرحلة انطلاق الفضاء العنكبوتيّ العالميّ، حيث أصبحت متاحة للجميع، وما تبع ذلك من ظهور المواقع والمنتديات الالكترونيّة، وكذا الحال مع المدونات، والّتي أحدثت أثرا مهما في الحراك المجتمعيّ والفكريّ.

ومع بداية الألفيّة الجديدة كانت وسائل التّواصل الاجتماعيّ، والّتي يعرفها موقع موضوع على الشّبكة العالميّة بأنّها: “تطبيقات تكنولوجيّة حديثة تعتمد على الويب من أجل التّواصل والتّفاعل بين البشر عن طريق الرّسائل الصّوتيّة المسموعة، والرّسائل المكتوبة، والرّسائل المرئية، وتعمل هذه الوسائل على بناء وتفعيل المجتمعات الحيّة في بقاع العالم، إذ يقوم البشر بمشاركة اهتماماتهم وأنشطتهم بواسطة هذه التّطبيقات”.

ومن أشهر وسائل التّواص الاجتماعيّ الفيسبوك 2004م، واليوتيوب 2005م، وتويتر  2006م، والفايبر  2010م وغيرها، إذ أصبح المرء بوسائل التّواصل يملك صحيفة وقناة يتحكم فيها بما يشاء دون إقصاء من أحد!!

وعليه ستشكل وسائل التّواصل الاجتماعيّ دورا مهما في الوعيّ الشّبابيّ للأجيال الحاليّة والقادمة، لما فيها من إيجابيات وسلبيات في الوقت ذاته، حسب حسن الاستغلال لمثل هذه الوسائل.

من هنا بقدر ما تشكله من قدرة في زيادة الوعي المعرفيّ والديّنيّ، وفي ارتفاع معدلات الإبداع والشّراك الإبداعيّ، وفي تحقق الثّقافة الحقوقيّة، والرّقابة الجماعيّة، في الوقت نفسه قد تحوي بعض السّلبيات إذا لم يحسن التّعامل معها!!!

لهذا وجود مؤسسات توجيهيّة تكون ذاتها حاضرة، لا أن تتحدث من برج مرتفع، بل أصبح النّزول إلى الشّباب والاستماع لهم ومحاورتهم ضرورة مهمة؛ لأنّ الثّورة المعرفيّة والحقوقيّة بطبيعتها إذا لم يفتح لها أذن الاستماع والحوار قد تنفجر يوما ما، ولات حين مناص!!

وعليه لابدّ أن يدرك العقل الجمعي أنّ وسائل التّواصل الاجتماعيّ في ذاتها فرصة لتنمية الشّباب وتفعيلهم إيجابيّا، وليس من خلال النّظرة الضّيقة، أو النّظرة السودوايّة المعمّمة؛  لأنّ الفضاء أصبح واسعا ومفتوحا للجميع، وتحقيق الشّراك مع الشّباب يكون من خلال النّزول إليهم، ومخاطبتهم عن قرب، وأن تكون العلاقة علاقة إيجابيّة بين جميع الأطراف والمستويات، حتى نستطيع تحقيق الثّمرتين بضربة واحدة، ثمرة حسن استغلال هذه الوسائل وهي كثيرة جدا، وثمرة استثمار الطّاقة الشّبابيّة بشكل إيجابيّ من خلال هذه الوسائل ذاتها؛ لأنّها وبلا شك سوف تختصر الطّريق بشكل كبير جدّا!!!

وسائل التّواصل والابتزاز الالكترونيّ وأثره السّلبيّ على الشّباب

الابتزاز من ابتزَّ، والثّلاثيّ منه بزز، والأصل هو السّلب، وفي المعاجم المعاصرة تكسّب منه بطرق غير مشروعة.

وجاء في الموسوعة العالميّة [ويكبيديا] تعريف الابتزاز: “القيام بالتّهديد بكشف معلومات معينة عن شخص، أو فعل شيء لتدمير الشّخص المهدد، إن لم يقم الشّخص المهدد بالاستجابة إلى بعض الطلبات، هذه المعلومات تكون عادة محرجة، أو ذات طبيعة مدمرة اجتماعيّا”.

وعلى العموم الابتزاز ظاهرة قديمة جدّا، استخدمت لأغراض سياسيّة أو أمنيّة أو لأجل التّكسب أو الانتقام، مستغلين ضعف الشّخص في جانب من جوانب الشّهوات كالجنس أو المال أو المنصب ونحوه، ويكون ضحية للمبتز، وليس بالشّريطة أن يكون المبتز فردا فقد يكون مؤسسة، أو حتى نظام دولة بكاملها، ويحدث كثيرا بين الدّول، وخاصة مع الدّبلوماسيين أو القادة أو رجال الأعمال أو العسكريين لأجل المخابرات والتّجسس، أو الاستغلال مستقبلا.

وبطبيعة الحال مع انتشار وسائل التّواصل الاجتماعي سهل تحقيق الابتزاز، وهنا أصبحت جهات سريّة تبتز الشّباب خصوصا، لاستغلالهم لكسب المال أو تحقيق مآرب معينة.

وهنا عادة من صوره استغلال ضعف الشّاب الجنسيّ، فيتمّ تصويره، أو يصور نفسه في حالة ليست لائقة، ثمّ يتمّ ابتزازه لمكاسب مادية، وخاصة يحدث للفتيات، لكون الواقع المجتمعيّ المنغلق يتعامل مع الفتاة بحساسيّة شديدة، منها خروج أي صورة ابتزت فيها؛ تكون عرضة للرفض المجتمعيّ.

أو يكون مع الأسماء الّتي تطالب بالحقوق، أو لها شهرة إلكترونيّة في وسائل التّواصل الاجتماعيّ، وهذه لها صور متعددة، كاستغلاله في حالة محرجة، أو دفع شيك له يهدد به مستقبلا، أو نحو ذلك من صور الابتزاز!!

وعلى العموم لا يمكن الإسهاب في هذا اللّقاء السّريع عن صور الابتزاز، ولكن علاجه بحسب الحالة المشخصة، وبما أنّ أغلب حالات الابتزاز إمّا لأجل المال وكسبه مستغلين الضّعف الغرائزيّ للمبتز، أو لأجل تحقيق بعض المنافع الاستخباريّة.

وهنا بحاجة بداية إلى التّربيّة ثمّ التّثقيف القانونيّ في حالة تعرض شخص لذلك، بحيث يستطيع التّعامل معها قانونا، بدلا أن يكون حبيس الأوهام النّفسيّة، مستغلا من قبل القائم بالابتزاز.

إنّ شخصيّة هذا القائم ضعيفة جدا، لذا يقوم بذاته بحالات متنكرة وخفيّة، لذا إدراك الشّاب ضعف هذه الشّخصيّة ينقله إلى موضع القوة في المواجهة، عندما يدرك الثّقافة القانونيّة الّتي تساعده في التّخلص منه ومقاومته.

وهنا على المجتمع أن يتقبل من وقع في الأمر بعين الأبوة الرّحيمة، وأنّ هؤلاء أبناؤهم، فلمّا يدرك الشّباب سعة تقبل المجتمع ورحمته، يكون أكبر حصن له في التّخلص من هؤلاء، والكشف عليهم.

إنّ القائم بالابتزاز لا يستغل فقط ضعف الشّاب ذكرا أو أنثى، بل يستغل الحالة المغلقة للمجتمع الّذي لا يرحم، ولا يتعامل مع القضيّة من أبوابها الواسعة، فيكون المجتمع أداة ووسيلة تساعده في استغلال الضّحيّة، ولهذا يكثر الابتزاز في المناطق المنغلقة اجتماعيّا.

من هنا نجد القرآن الكريم يعالج العديد من القضايا المجتمعيّة، كما في سور النّور، فيقول مثلا: {وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النّور/ 16]، فعلى المجتمع أن يحتضن الشّباب، ولو وقعوا في الخطيئة، ويكون عونا لهم على الإصلاح، لا عونا على القائم بالابتزاز أن يواصل ابتزازه!!!

وأمّا ما يتعلّق بالجانب الاستخباراتيّ خاصّة بين الدّول؛ عليه أن يدرك خطورة أن يبيع بلده أو وطنه لأجل دريهمات، أو أن يستغل لأي شهوة، وهنا عليه من البداية أن لا يكون بذاته ضحيّة، أو يدرك الوسائل القانونيّة والأمنيّة في مواجهة هذا الابتزاز أو الدّاء!!

وعموما الابتزاز سهل تحققه اليوم، وسهل استغلال وسائل التّواصل الحديثة في ابتزاز الشّباب، خاصّة مع انتشار الفقر، وكثرة البطالة، والحديث عن علاجه وتحقق وسائله يطول، إلا أنّ أهمها كما أسلفنا الوعي التّربويّ، والتّثقيف القانونيّ، وإعطاء الشّاب حقه المعيشّيّ، بتحقيق العدالة المجتمعيّة معه؛ لأنّ الفقر بيئة خصبة للابتزاز، مع انفتاح المجتمع في علاج القضيّة، واحتضان الشّباب!!!

الشّباب والمجتمع المدنيّ

في بداية عصر التّنوير في أروبا ظهر العديد من الفلاسفة ينظرون للمجتمع المدني وفق الشّراك بين المجتمع والسّلطة حسب القانون والدّستور المرتضى بين الجميع، ومن أوائل هؤلاء الفلاسفة المنظرين الفيلسوف الفرنسي الشّهير جان جاك روسو [ت 1778م].

والمجتمع المدنيّ وإن كان تنظيره حديثا إلا أنّه بعيد العمق في التّأريخ، والأجيال البشريّة مارست العديد من صوره، ولعلّ ميثاق المدينة في عهد الرّسول الأكرم – صلّى الله عليه وسلّم – صورة منه، وكذا ميثاق أيليا (القدس) في عهد عمر بن الخطاب [ت 23هـ]، إلا أنّ بصورته الدّستوريّة اقتضاه العصر الحديث، خصوصا بعد الثّورة الصّناعيّة الّتي أحدثت تغيير ا كبيرا في المجتمعات البشريّة، وظهرت السّلطات الثّلاثة: التّشريعيّة والتّنفيذيّة والقضائيّة، مع الفصل بينهما كما عند الفيلسوف الفرنسيّ  مونتيسكيو [ت 1755م].

كما ظهر أهمية الدّستور أو القانون وارتبط بأمرين: تحقيق حريّة الفرد مع غايات الجماعة وحفظ كيانها بحفظ كيان أفرادها، وفق فلسفة الحقوق والواجبات، وهذا لا يتحقق إلا بالأمر الثّاني وهو تحقيق مبدأ العدل والمساواة؛ لأنّ النّاس في الأصل سواسيّة، في المجتمع المدنيّ لا فرق بين أحد وآخر بسبب دين أو لون أو مذهب أو عرق أو جنس، فالعدل وفق قانون عادل يسود بينهم، وهذا ما قرره القرآن الكريم في سورة الشّورى حيث يقول: {وَقُلْ آَمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [الشّورى/ 15]، ففي الآية تحقيق الشّراك المدنيّ – أن صح التّعبير – مع اختلاف الدّين والنّظرة إلى الله تعالى، إلا أنّ العدل مطلب من مطالب التّشريع، لا يرتفع بسبب اختلاف الدّين أو التّوجه أو المذهب {وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ}.

ثمّ يأتي أخيرا تحقيق الشّراك المدنيّ بين المؤسسات الرّسميّة الخدميّة المقننة، والمحققة للمساواة والعدل، وبين فتح مساحة واسعة من الحريات في إشراك المجتمع المدنيّ، للمساهمة في تأسيس جمعيات ترفع من شأن المجتمع المدنيّ، وتعلو من شأنه في هذا المجال، بما يحقق المصلحة العامّة بين الجميع.

وجاء في موقع موضوع على الشّبكة العالميّة تعريف المجتمع المدنيّ بأنّه [مجموعة الأفراد الذين يعيشون معا داخل مجتمع واحد، ولكلّ منهم حريته الشّخصيّة، ولا يحق لأيّ فرد من أفراد المجتمع التّدخل بحرية غيره، أو التّطفل عليها، أو تقييدها، ويعتمد المجتمع المدنيّ على العيش بتسامح بين كافة مكونات المجتمع، والتعامل مع الأفراد بناء على صفاتهم الإنسانيّة فقط، دون النّظر إلى دينهم، أو ثقافتهم، أو لونهم، وبالمقابل يحرص كافة الأفراد داخل المجتمع المدنيّ على التّعاون معا، من أجل تحقيق المصالح العامة والمشتركة للنّهوض بمجتمعهم، والعمل على تطوره، وازدهاره في كافة المجالات الّتي تقوم عليها المجتمعات].

وعليه نجد عند الشّباب اليوم العديد من الطّاقات والمواهب، وساعد على ذلك الانفتاح التّثقيفيّ بين جميع المجتمعات المدنيّة في العالم، عن طريق الإعلام المفتوح خصوصا وسائل التّواصل الاجتماعيّ، أو الدّراسة، أو السّفر، أو القراءة والاطلاع، وفي الوقت نفسه انفتح الشّباب على بعضهم في الدّاخل، وهذا بدورة يحدث نهضة مجتمعيّة في تعزيز هذه الطّاقات والمواهب بما يخدم المجتمع المدنيّ المحليّ، وعدم الاهتمام بها يعني هجرتها إلى مجتمعات تؤمن بها، وفقدان الإبداع والمواهب المحليّة، أو أن تتشكل في الخفاء، ممّا قد تتجه اتجاها سلبيّا في قادم الأيام ومستقبلها.

لهذا يجب تفعيل مثل هذه الطّاقات وتشجيعها، لتتحول من العمل الفرديّ إلى العمل الجماعيّ والمؤسسيّ بما يخدم المجتمع المدنيّ ككل، وبما يحقق المنفعة الجماعيّة في كافّة الأصعدة والمجالات، وفي العلوم الإنسانيّة والتّطبيقيّة والتّجريبيّة.

وعلى المؤسسات ورجال الأعمال دعم هذه الطّاقات والمواهب الشّبابيّة، لما في ذلك من مصلحة كبيرة يعود نفعها على الكلّ، وتساهم في احتضان المجتمع، والتّقدم به مدنيا، مع علاج العديد من سلبياته، وتعزيز القيم المجتمعيّة، وإظهار المواهب المتنوعة!!

ملحق رمضانيات (جريدة الوطن) 1439هـ/ 2018م

السابق
يوم اللّغة العربيّة
التالي
نظريّة الرّق عند عبد الرّحمن الكواكبيّ
– تنويه:

عدد من الصور المستخدمة للمقالات مأخوذة من محرك google

اترك تعليقاً