المقالات التأريخية

قراءة حول علاقة الإباضيّة بالخوارج من خلال الظّرفيّة التّأريخيّة

عادة الأحداث التّأريخيّة تموت بموت شخوصها مع استمرار أثرها حسب الحدث، إلا أنّ بذورها قد تكون باقية؛ لأنّ الحدث يذهب وتبقى بعض بذوره، وتتطور، كما تتزاوج مع بذور أخرى لتتشكل على هيئات جديدة منها ما ينفع، ومنها ما يضر.

لهذا أرى ابتداء لمّا نقرأ التّأريخ، أو أيّ حدث ما أن نقرأه من الخارج بعيدا عن أيّ مؤثرات أيدلوجية أو سياسيّة من حيث الغاية، أمّا من حيث الجانب الوجداني بسبب النّشأة أو البيئة أو التّكوّن الدّيني والمذهبي أو الاقتناع العقدي والفكري؛ فهو يؤثر بشكل طبيعي في قراءات الإنسان، ولكن تبقى في حدّها الطّبيعيّ لا أن تتحوّل إلى غايات.

وعليه في قراءة التّأريخ لابدّ ابتداء في نظري أن لا نخرج عن العناصر الثّلاثة: “الماضويّة البشريّة المطلقة، والظّرفيّة التّأريخيّة، والسّننيّة الكونيّة المجتمعيّة.

أمّا الماضويّة البشريّة المطلقة، فهو تأريخ بشريّ انتهى بخيره وشرّه، بانتصاراته وإخفاقاته، بتقدّمه وتأخره، بأمنه واستقراره، وبتفرقه وحربه وانهزاماته، فيبقى كما هو، ولا يجوز التّلاعب به وتحريفه، وطمس شيء وإظهار شيء آخر، وفي الوقت نفسه ليس تأريخا مقدّسا، فهو تجارب بشريّة تقرأ في جوّها الإنساني، فالاعتزاز به ليس شركا، ونقده ليس كفرا، فهنا لا يصح أدلجته دينيّا، ولا توجيهه سياسيّا، فيحرّف لما يوافق التّوجهات الدّينيّة والمذهبيّة، ويتلاعب به وفق المصالح السّياسيّة، فيحترم كخبر، ولكنه لا يؤله كماضي، لطبيعة البشر تأليه وتقديس الماضي.

وأمّا الظّرفيّة التّأريخيّة، فالتّاريخ حدث ظرفيّ من حيث الجملة، تضمّن أحداثا ظرفيّة من حيث التّفصيل، هذه الأحداث انتهت في نقطة ما، قد يمتدّ أثرها كامتداد الماضي المستمر، وقد ينتهي مع مرور الزّمن كانتهاء الماضي البسيط، فالتّأريخ لا يصنع الحاضر، ولكن يستلهم منه لصنع الحاضر، لهذا كان العنصر الثّالث وهو السّننيّة الكونيّة المجتمعيّة، فوجود تقدّم في الماضي لا يخرج عن استغلالهم لسنن التّقدّم المجتمعيّ في عصرهم، ووجود تأخر لإهمالهم لسنن التّقدّم، فالأمم المتقدّمة اليوم إمّا أن يكون تأريخها ضاربا في العمق فاستلهمته لصنع حاضرها وفق زمنها الحالي، لا لكون الماضي هو من صنعها كما فعلت الصّين مثلا، أو أنّ تأريخها قريب الحدث، لكنّها صنعت واقعها بسننيته كما فعلت سنغافورة، فالماضي سنني، والحاضر سنني، والّذي يصنع الماضي والحاضر هو السّننيّة وليس الماضويّة، فنجاحنا اليوم يستلهم منه الأجيال المقبلة لنجاحهم، ولكن نجاحنا لا يعني نجاحهم إن لم يستغلوا سنن النّجاح المجتمعي والكونيّ في زمانهم”.

لهذا لمّا نأت إلى موضوع الخوارج والإباضيّة، فنحن أمام مصطلحين، والمصطلحات أيضا ظرفيّة، تقرأ في سياقها الظّرفي، فقد تكون ابتداء لفظا حسنا ثمّ بمرور الزّمن يكون سلبيّا، والعكس صحيح، وليست المشكلة في المصطلح، ولكن المشكلة في الإسقاطات، مثلا مصطلح الإرهاب استخدمه القرآن بمعنى القوّة العلميّة والصّحيّة والعسكريّة والقانونيّة كما في سورة الأنفال، وهو جانب إيجابي، إلا أنّه أيضا استخدم اليوم  كمصطلح له إيحاء سلبيّ كالفساد والحرابة والبغي، لهذا أسقط على أمّة معينة لدواعي سياسيّة، وعليها بنيت العديد من القراءات والدّراسات المعاصرة.

هنا يأتي السّؤال: من يحدد المصطلح؟ وما الغاية من تحديده؟ هل الغاية هي الإنسان أم لأغراض سياسيّة ومذهبيّة في ظرفيّة زمنيّة ما، فمصطلح الخوارج استخدم أيضا في السّياق الإيجابي في القرآن، كما في سورة براءة: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ}، فالآية تشير إلى مصطلحين: الخروج ومنه كان مصطلح الخوارج، والقعود ومنه مصطلح القعدة، فالأول إيجابي والثّاني سلبي، ومع هذا الإباضيّة يصفهم خصومهم من خارج دائرة الخوارج بالخوارج، في حين يصفهم الخوارج كالنّجدات والأزارقة بالقعدة، وسيأتي بيان ذلك.

الّذي يهمنا الآن أنّ مصطلح الخوارج يتّسع سياسيّا ليرتبط بمطلق السّلب كما في الدّولة الأمويّة، ولا يقتصر عند فئة معينة فقط، حيث العديد ممّن خرج على الدّولة الأمويّة كالحسين بن عليّ [ت 61هـ]، والمختار بن أبي عبيد الثّقفي [ت 67هـ]، وعبد الله بن الزّبير [ت 73هـ]، وزيد بن عليّ زين العابدين [ت 122هـ]، ووقف معه أبو حنيفة النّعمان [ت 150هـ]، وأجاز الخروج على الأمويين، وغيرهم، فالخروج على الدّولة الأمويّة شارك فيه العديد.

هذا المصطلح سيضيق دينيّا في الدّولة العباسيّة ويحصر في قضيّة التّحكيم لثلاثة أسباب في نظري: الأول النّزعة العلويّة الّذي انتهجته الدّولة العباسيّة كبديل عن النّزعة الأمويّة القرشيّة، فهي جمعت بين الجناحين: القرشيّة والعلويّة، والثّاني التّدوين المذهبي والأخباري ابتداء عند أهل الحديث من السّنة ثمّ الأخباريين من الشّيعة، وتأثر كتّاب التّأريخ والسّير بهذه النّزعة المذهبيّة، ثالثا: فشل الدّولة العباسيّة في القضاء على الدّول الّتي تكوّنت من قبل من ينسب إلى الخوارج خصوصا الإباضيّة والصّفريّة كما في عمان والمغرب، ولهذا لما يحدّ هذا المصطلح بغطاء أيدلوجي لاهوتي يصبح محكما يصعب الخروج منه، ويتحوّل من النّسبي الظّرفي إلى المطلق.

ولنأت الآن إلى القراءة التّأريخيّة من حيث النّشأة، وأرى القضيّة تعود إلى أنّ الدّولة كنظام لم تكن ظاهرة في مكّة والمدينة، بل كانت في مناطق في الجزيرة العربيّة مثلا في البحرين واليمن وعُمان، وفي هذه المناطق نشأت حضارات قديمة كدلمون ومجان وحضارة سبأ والأحقاف وغيرها.

مكّة كانت أقرب إلى الزّعامة الدّينيّة ومنذ تزعمها قصي الأصغر أي من بني كلاب كانت أقرب إلى الزّعامة المشيخيّة الوراثيّة، وارتأت أن لا تدخل في صراعات، وأمّا المدينة فكانت أقرب إلى الزّعامات بسبب التّعددية، فلمّا جاء الرّسول الأكرم – صلّى الله عليه وسلّم – أوجد مفهوم الأمّة كما في وثيقة المدينة، وعليه لمّا توفي حدث فراغ، وهذا الفراغ يكمن في فريقين: فريق الشّورى تحت ظلّ الأمّة، وفريق الوراثة تحت اسم الزّعامة أو القببلة الّتي تعوّد عليها.

لهذا سيظهر الصّراع داخل السّقيفة بين تيارين: تيار المهاجرين أي المكيين في الجملة، وتيار الأنصار، ثمّ يضيق تيار المهاجرين ليكون في قريش، ويضعف تيار الأنصار خصوصا بعد اغتيال سعد بن عبادة [ت 14هـ] بدعوى أنّ الجنّ قتلته، ولهذا من يقرأ التّأريخ سيجد النّزعة القرشيّة هي الغالبة لاحقا، فيستبعد الأنصار بشكل تدريجي عن السّاحة حتى ينعدم ذكرهم في الجملة.

وهناك بذور فريق يرى أنّ الأولويّة ليس لجملة قريش، وإنّما الأولويّة للأقرب من النّبيّ كالعباس [ت 32هـ] وعليّ [ت 40هـ] مثلا، وهناك فريق الطّلقاء الّذي لا زال يحمل حنينا إلى الماضي في المشيخة والإمارة، حيث ستتشكل منهم لاحقا بشّقه السّفياني ابتداء ثمّ المرواني لاحقا.

هذا التّشكل سيظهر منه ثلاث مدارس رئيسة لاحقا جميعها تقول بالشّورى من حيث الابتداء: مدرسة الشّورى المطلقة بلا قيد ولو كان عبدا حبشيا، وهذه ستظهر عند الخوارج والإباضيّة، ومدرسة الشّورى تحت قيد القرشيّة وهذه مدرسة أهل الحديث وعموم السّنة، ومدرسة الشّورى تحت قيد النّص الجليّ كما عند الإماميّة والجاروديّة من الزّيديّة والإسماعيليّة والنّصيرية، أو النّص الخفيّ كما عند عموم الزّيديّة.

وبتوريث معاوية [ت 60هـ] الحكم لابنه يزيد [ت 64هـ]، ورجوع ولاية العهد، تضعف الشّورى وتبدأ دولة الوراثة مع مراعاة منطق القرشّية في الدّولة الأمويّة، ومنطق القرشيّة والنّصيّة في الدّولة العباسيّة، إلا أنّ جميعها وراثيّة، وهنا ستصاغ النّصوص الرّوائيّة والدّينيّة.

عموما سنجد في تكوّن الدّولة من بعد السّقيفة أمرين: انتصار قرشيّة المهاجرين، وشيخوخة الدّولة، لهذا في نظري سيبدأ الشّباب بمحاولة التّغيير كأي مجتمع لمّا يشيخ وينتقل إلى الأبويّة المفرطة يظهر الجيل الجديد ورغبته في المشاركة، سنجد هذا مثلا في نهاية حكم عثمان [ت 35هـ] وفي حادثة الجمل [36هـ] وهو ما سيحدث في قضيّة صفّين [37هـ]، حيث الفريق الّذي انفصل عن الإمام عليّ كانوا جملتهم من الشّباب المتحمسين، وكانوا من أنصار الإمام عليّ لكونه إماما أختير عن طريق الشّورى، فلا ينزع بطريق آخر، وما فعله معاوية وعمرو بن العاص من رفع المصاحف والدّعوة إلى التّحكيم رأوه مخالفا لآية الحجرات [آية 9]، فلا تنزع هذه السّلطة لقوم خرجوا عليه، فهؤلاء في نظرهم بغاة يجب قتالهم، والصّلح معهم بالفيء إلى الجماعة، وليس بإسقاط الحاكم، ومن هنا سمّوا بالمحكمة أي بسبب رفضهم للتّحكيم، وقولهم لا حكم إلا لله.

 وكان الإمام عليّ يميل إلى هذا الرّأي، وكان في حال قوّة، ولعلّه رأى الدّماء تسيل، والأمّة في تمزق، فضعف لهذا الحال، فمال إلى التّحكيم، فقال له الأشعث بن قيس [ت 40هـ] ومسعود بن فَدَكي التّميميّ [ت؟] وزيد بن حصين الطّائي [ت ؟]: “النّاس يدعوننا إلى كتاب الله، وأنت تدعوننا إلى السّيف، فلترجعن الأشتر [ت 37هـ] – أي قائد جنده – أو لنفعلنّ بك ما فعلنا بعثمان”، فرضخ لهم.

وهنا ستختلف الرّوايات فقيل اختار عليّ ابن عبّاس [ت 68هـ] للتّحكيم، ورفض هؤلاء ابن عباس، ورشّحوا أبا موسى الأشعريّ [ت 63هـ]، فلمّا كانت النّتيجة انفصلوا عن الإمام عليّ بدعوى: لا حكم إلا لله، فقال عليّ: كلمة حق يراد بها باطل، وقيل من الابتداء رفضوا التّحكيم، وهو الظّاهر فيما يبدو لي، فذهبوا إلى منطقة حروراء ومن هنا يبدأ التّكون الجديد، ولهذا كان المصطلح الثّاني وهو الحروريّة.

وبخروجهم عن الإمام عليّ سمّوا الخوارج، وهذا المصطلح الثّالث الّذي سيتحول من مصطلح ظرفيّ نسبيّ إلى مصطلح مطلق في الدّولة الأمويّة، وإلى مصطلح مذهبيّ في الدّولة العباسيّة، وهو مطلق لاهوتيّ، والثّاني أشّد؛ حيث ستنسج حوله روايات أشدّ بطشا كما سنرى.

هنا سيحدث الخلاف بين بين حرفي الجر (عن) و(على)، فالخوارج يرون أنّهم خرجوا عن فريق عليّ، وبايعوا أبا وهب الرّاسبي [ت 38هـ] إماما لهم، وأرسل إليهم الإمام عليّ ابن عباس لنصحهم فلم يرجعوا، ثمّ قاتلهم في موقعة النّهروان سنة 38هـ، حيث قتل أغلبهم، وهنا يأتي المصطلح الرّابع أهل النّهروان، وهنا في نظري لم يتحولوا إلى مرحلة العنف الجمعي بعد، وإنّما كانت ردة فعل فردية من قبل ثلاثة شباب فقالوا: لنقتل الثّلاثة: عليّا ومعاوية وعمرو بن العاص [ت 43هـ]، وبعد ذلك يختار المسلمون خليفة جديدا، فنفّذوا فكرتهم في فجر السّابع عشر من رمضان لعام 40هـ، فقتل عليّ، وأصيب معاوية في فخذه، ولم يخرج عمرو بن العاص للصّلاة، ويعقّب بيوض بن عمر إبراهيم [ت 1980م] على الحادثة: “فمن أين يقال إذا إنّ عليّا قتله بنو فلان، وإنّما كلّ شيء متعلّق بجريرته … فالقاتل قتل هو أيضا”.

وبمقتل أغلب هؤلاء الشّباب، ومقتل الإمام عليّ بعدهم تنتهي هذه المرحلة في نظري، وهي مرحلة كما رأينا أقرب إلى ثورة الشّباب، وقد يكون الإمام عليّا أقرب إلى الحكمة في تعامله مع فريق معاوية، إلا أنّ هناك خيوطا مخفيّة جرّت إلى قتل هؤلاء مع تعلّقه بهم كما في ظاهر كلامه بوصفهم أخوة له، وليس من فائدة للتّكهن الآن لأنّ التّاريخ كتب لاحقا ولأغراض سياسيّة ومذهبيّة.

وأمّا الرّوايات الأخرى من السّنة والشّيعة فيرون أنّهم خرجوا على عليّ، فلو قيل ذلك لانطبق أيضا على معاوية لأنّه أول من ابتدأ الخروج، ولكن يسع فيه تلك أمّة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم.

فنخلص من المرحلة السّابقة إلى: أنّ الصّراع الّذي حدث لم يكن سببه فقط خروج معاوية على عليّ، وإنّما اقتضاءات لأحداث مسبقة كان للشّباب دور فيها، بداية من مقتل عثمان، وحتى حادثة النّهروان، وأنّ هناك خيوطا مخفية أهملها التّأريخ تعمّدا، وصيغت القضيّة لاحقا لأسباب سياسيّة ثمّ لاهوتيّة.

والآن نأتي إلى المرحلة الثّانية وهي الأهم، حيث ارتبطت من انتقال الخلافة عن طريق الشّورى إلى الغلبة، ومن الاختيار الشّورويّ إلى الوراثة، وهذا الرّابط مع الخوارج في نظري، وإنّما ما حدث في عهد عليّ شماعة استخدمت ضدّ من يخرج على الدّولة.

لهذا بعد مقتل أغلب أهل النّهروان أو المحكمة كانت الزّعامة لأبي بلال مرداس بن حدير [ت 61هـ، إلا أنّ هناك شخصيّة سوف تهذّب هذا الفريق، أي جابر بن زيد العماني [ت 93هـ] ويرون عندها نوعا من الاطمئنانة، خاصّة أنّه قدم من عمان، ومن المعلوم كانت المعارضة تنتشر من بدايات نجد وحتى عمان منذ فترة مبكرة بعد وفاة النّبيّ – صلّى الله عليه وسلّم -، هذا الرّجل خرج من عمان إلى البصرة، مع رحلاته إلى الحجاز، وأخذ العلم عن عائشة [ت 58هـ] وابن عبّاس خصوصا، وكان فقيها معتدلا من كبار علماء التّابعين، وهنا وجد هؤلاء الشّباب ممّن اتّهم بالخوارج ضالّتهم، وقد تهذّبوا بفكر هذا الرّجل، فكانت لجابر بن زيد صلة مبكرة لأبي بلال مرداس بن حدير لدرجة أنّه لا يخرج إلا بإذن جابر، وكذا الأمر كانت له علاقة كبيرة بعبد الله بن أباض [ت 89هـ]، وكانت له مناظرات مع الغلاة اللّذين أحلّوا دماء مخالفيهم، كما أنّ جابر بن زيد كان من رموز مدرسة أهل الرّأي، وكذا أبو عبدالله جعفر الصّادق [ت 148هـ]، وتلميذه على قول أبو حنيفة النّعمان.

فجابر كانت له علاقة حسنة مع السّلطة الأمويّة، وفي الوقت نفسه كان روح المعارضة، وسجن أكثر من مرة، إلا أنّ وجود ثلاثة ولاة مارسوا العنف بقسوة ضدّ من يشم منه المعارضة خصوصا في العراق، وهم زياد بن أبيه [ت 53هـ]، وعبيد الله بن زياد [ت 67هـ] والحجّاج بن يوسف [ت 95هـ]، حتى كانت معركة آسك قرب البصرة 61هـ مع عبيد الله بن زياد إذ ناب عنه القائد عبّاد بن الأخضر [ت 61هـ]، وفيها قتل أبو بلال مرداس بن حدير، هنا في نظري ستبدأ مرحلة العنف والانقسام، حيث ستنقسم المعارضة أي ما تسمى بالخوارج إلى خمسة أقسام: وهي الأزارقة نسبة إلى نافع بن الأزرق [ت 65هـ]، والنّجدات نسبة إلى نجدة بن عامر الحنفيّ [ت 72هـ]، والبيهسيّة نسبة إلى أبي بيهس هيصم بن جابر [ت 94هـ]، وهذه انقرضت بسرعة، وأخيرا الصّفريّة نسبة إلى زياد بن الأصفر [ت ؟]، والإباضيّة نسبة إلى عبد الله بن أباض.

وهنا يبدأ الخلاف في قضيتين: حكم الخروج على الحاكم، وهل دار الحاكم دار شرك أو دار إسلام، فرأى اتباع ابن اباض يجوز الخروج إذا لم يراق دم، ولم يترتب عليها فتنة أكبر، ولا يجوز تشريك الموحد ولو كان حاكما، ولا غنيمة أمواله، ولا سبي ذراريه، ولهذا سمّوا بالقعدة، هذا الفريق نسبوا إلى عبد الله بن أباض، مع أنّ الإمام الرّوحي لهم جابر بن زيد، ولكن لمكانة عبد الله بن أباض السّياسيّة والقبليّة نسب إليه، مع رفض الإباضيّة لهذه التّسميّة حتى في فترة متأخرة، فهنا حدث الخلط.

وأمّا ما يشاع عن الخوارج تشريك عموم المسلمين، وسبي أموالهم فهذه نسبة من خصومهم، فخلافهم مع السلطّة وإعانتها، واستندوا إلى آية العنكبوت {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [آية 121]، وأمّا قضية كفر مرتكب الكبيرة فهذه جدليّة ظهرت كلاميّا لاحقا بمعنى كفر النّعمة أو الكفر الأصغر أي الفسوق، وليس محلّها هنا، لهذا وجب التّنبيه إلى أمرين: الأول: هناك العديد كما أسلفنا ممّن خرج على الدّولة الأمويّة حيث شارك فيه العديد.

ثانيا: ما قيل عن الخوارج ونسب إليهم كان من روايات خصومهم، ولم يحفظ لهم كتاب، وصيغت حولهم روايات تفتح ذاتها مجالا للعنف كرواية: “فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإنّ في قتلهم أجرا لمن قتلهم يوم القيامة”،  “لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد”.

إلا أنّ التّشكل والتنظير السّياسيّ ظهر عند أبي عبيدة مسلم بن أبي كريمة [ت 150هـ]، وكما أنّه منظّر دينيّ هو في الوقت نفسه منظّر سياسيّ، وآراؤه أكثر تجديديّة من جابر بن زيد، فهو جمع بين نشوة المحكمة الأوائل، ورغبتهم في الخروج على الحكم الأمويّ النّاشئ، وبين هدوء جابر بن زيد وأعلميته.

ولهذا تشكل في الفكر الإباضيّ الأول ما يسمى بمسالك الدّين، وهي مسالك سياسيّة في الحقيقة للوصول إلى إقامة دولة من خلال: الكتمان في حال عدم القدرة على الظّهور، والشّراء وهي أقرب إلى العمليات الفدائيّة المعاصرة، حيث لا يقل الشّراة عن أربعين رجلا، يبيعون أنفسهم لله ويشترون مرضاته، ثمّ الدّفاع أي في حال الضّعف وهي أعلى درجة من الكتمان، وأخيرا الظّهور وهي إقامة الدّولة والمجتمع الإباضيّ، وهي أعلى مرحلة في مسالك الدّين، لهذا فكرة المسالك حاضرة في الفكر الإباضيّ السّياسيّ طول التّأريخ، وتحوّلت من جانب سياسيّ إلى جانب عقديّ في أبحاث كتب العقائد في المذهب.

ولهذا استطاع أبو عبيدة الكبير أن ينقل الفكر السّياسيّ الثّائر عند المحكمة الأوائل من حالة الكتمان الّتي سادت في عهد جابر بن زيد إلى حالة الشّراء كما عند أبي حمزة الشّاريّ [ت 130هـ]، ومن ثمّ حالة الدّفاع والظّهور، من خلال تكوين حملة العلم، لهذا ظهرت في عهده ثلاث دول إباضيّة الأولى في اليمن عام 128هـ بقيادة عبد الله بن يحيى بن عمرو الكنديّ [ت 130هـ].

وفي المغرب العربيّ أيضا حيث قام أبو عبيدة بتدريب حملة العلم خمس سنوات حتى رضي عن المستوى الّذي بلغوه، مع كفاحهم السّياسيّ الّذي بدأ سنة 140هـ بقيادة أبي الخطاب عبد الأعلى بن السّمح [ت 144هـ]، وتمكن زميله عبد الرّحمن بن رستم [ت 171هـ] لاحقا من إقامة دولة إباضيّة بالمغرب وهي الدّولة الرّستميّة عام 160هـ، واستمرت حتى عام 296هـ .

وكذا الحال في عمان بقيادة الجلندى بن مسعود [ت 134هـ]، إلا أنّ الجوّ في عمان كان أكثر مواتيا، لعمق الاستقلال السّياسيّ فيها، ولهذا ممكن أن نقول إنّ الإباضيّة نقلوا تجربة الخلافة الرّاشدة خصوصا عند الشّيخين –أبي بكر [ت 13هـ] وعمر [ت 23هـ] – من جانب تطبيقي إلى جانب تنظيريّ وتقعيدي من جهة، وتطبيقيّ من جهة أخرى منذ فترة مبكرة جدّا، وجمعوا بين الفقه العمليّ والفقه السّياسيّ والعقديّ، لهذا تلازما طول التّأريخ الإباضيّ، وأثر في النّظريات والمباحث الفقهيّة الأخرى.

كما أنّه قامت للصّفريّة دولة في المغرب، وظهرت آراء سابقة للخوارج عموما كإنكار الرّجم، وعدم اشتراط خليفة إذا توفر العدل، والنّظرة السّلبيّة المبكرة للرّوايات والإجماع، وقول بعض النّكاريّة النّجاة متعلقة بالإيمان بالله، وعدم اشتراط ما عداه، كما أنّه ظهرت لهم آراء فقهيّة عديدة، مع وجود تشدد في قضايا الولاء والبراء، وتقعيدات مشددة فيها، ومع هذا ظهرت ثورات شبابيّة على طول الخط ابتداء من تلاميذ أبي عبيدة كأبي سعيد عبد الله بن عبد العزيز البصري [ت؟]، وأبي المؤرج عمرو بن محمّد اليمني [ت؟]، وأبي منصور حاتم بن منصور البصري [ت؟]، وعبد الله بن عبّاد المصري [ت؟]، وغيرهم، إلى ثورة النّكار، إلى الصّلت بن مالك [ت 275هـ] إلى يومنا هذا، أغلبها ثورات شبابيّة علميّة وقد تكون سياسيّة.

وعموما لا يتسع المقال لوضع قراءة نقديّة أو وصفيّة للجانب الآخر من الفكر الإباضي، إلا من المهم الإجابة عن هذا السّؤال: هل الإباضيّة خوارج أم لا؟، وباختصار شديد من حيث النّشأة خرج الجميع من المحكمة، والخوارج تهمة من الخارج، ويشتركون في النّشأة، إلا أنّ الإباضيّة تطوّرت ابتداء من مدرسة أهل الرّأي، فالاعتزال، ثمّ حدث التّأثر بالمصادر السّنيّة حتى يمكن أن يقال هو مذهب سنيّ خامس، كما أنّه يقترب كثيرا من المدرسة الزّيديّة.

وعموما كلّ ما ذكرته لا يخرج عن الماضويّة البشريّة المطلقة، والظّرفيّة التّأريخيّة، والسّننيّة الكونيّة المجتمعيّة، فهو نتيجة أحداث في الماضي لها أسبابها واقتضاءاتها، فتقرأ في ظرفيّتها، ولا يجوز أدلجتها لاهوتيّا، ورهن الحاضر بها، لهذا سنجد المدرسة الإباضيّة اليوم ليست المدرسة الإباضيّة الّتي تشكلت قبل ألف وثلاثمائة سنة، وإن كانت من أقدم المدارس الإسلاميّة، إلا أنّها تأثرت وأثرت أيضا كغيرها من المدارس الإسلاميّة، كما أنّها تطوّرت وتهذّبت على مرّ التّأريخ كغيرها، كالنّظرة السّلبيّة إلى بعض الصّحابة حيث تطوّرت إلى التّوقف وسعة السّكوت وترك الأمر لله وحده.

مجلّة الفلق الالكترونيّة، 16/6/2021م.

السابق
الزّيديّة والإباضيّة .. المشترك والمختلف: “النّشأة والتّوحيد والصّلاة نموذجا”
التالي
أبو طالب بن عبد المطلب رؤية في الأدبيات الإباضيّة
– تنويه:

عدد من الصور المستخدمة للمقالات مأخوذة من محرك google

اترك تعليقاً