جريدة عمان، 25 يونيو 2023م
العيد في الإسلام سواء في الفطر أو الأضحى يدور بين بُعدي سعادة الفرد والجماعة، أمّا الفرد بُعده كذات مستقلّة في المجتمع، ولو كان الفرد طفلا في بدايات حياته، يشعر بحالة سروريّة في هذين اليومين، فيسقط أثر ذلك على بُعد الجماعة، ولهذا كانت الفرحة مصاحبة للعيد منذ الابتداء النبويّ وقبل ذلك في المجتمعات الإنسانيّة، ورغم ارتباط اليومين ظاهريّا بشعيرتي الصّيام والحج، وهاتان لهما بُعد تعبديّ؛ إلّا أنّه لا يرفع الفرح الماديّ، جمعا بين الرّوح والمادّة، فعن عائشة (ت 58هـ) قالت: “إنّ أبا بكر دخل عليها والنّبيّ – صلّى الله عليه وسلّم – عندها في يوم فطر أو أضحى، وعندها جاريتان تغنيان بما تقاولت به الأنصار في يوم حرب بُعاث (يوم في الجاهليّة)، فقال أبو بكر: أمزمار الشّيطان عند رسول الله، فقال النّبيّ: دَعْهما يا أبا بكر؛ فإنّ لكلّ قوم عيدا، وإنّ عيدنا هذا اليوم”، وعن عِياض الأشعريّ (ت ؟) أنّه شهد عيدا بالأنبار فقال: “ما لي أراكم لا تُقلِّسون” – أي لا تضربون بالدّف -.
وكان للمسجد أيضا فسحة في فرح النّاس يوم عيدهم، ومن ذلك ما روته عائشة من رقص الحبشة في المسجد يوم عيد، وأنّ الرّسول – صلَّى الله عليه وسلَّم – دعاها فوضعت رأسها على منكبه، قالت: “فجعلتُ أنظر إليهم حتى كنت أنا الّتي أنصرف عن النّظر إليهم، وأنّ جعفرا وعليّا وزيدا حجلوا – أي قفزوا”، وروي أنّهم يلعبون في المسجد بالدَّرَق – أي التّرس – والحراب.
وارتبط الطّبل عند العمانيين منذ فترة مبكرة، كما يقول السّالميّ [ت 1332هـ] في جوهره:
روى ابنُ محبوبٍ لنا عن صحبهِ بأنّ ضرب الطّبل لا بأس بهِ
وذكر من أسباب ترخيصه استخدامه “كدعاءِ لصلاةِ العيدِ” أي يدعون به إلى الصّلاة يوم العيد لكونها لا أذان لها، كما جسّد به العمانيون فرحتهم من خلال الأهازيج والفرق الشّعبيّة، وأصبحت ملازمة لأعيادهم، وهي حالة طبيعيّة عند جميع الأمم في أعيادها، بل كان الحجّاج إلى فترة قريبة في مِنى يجعلون نصيبا للتّرويح عن النّفس في اليوم العاشر والتّشريق من خلال الفرق الشّعبيّة بأهازيجها وفنّها، وبعضها موثق إلى اليوم في يوتيوب.
هذا البعد السّروري الفرديّ وارتباطه بالجماعة في العيد، وتجسيد ذلك في الزّيارات والعفو والصّفح والأهازيج هو الحالة الطّبيعيّة الّتي يسقط أثرها على جميع الأفراد، فيرتفع من خلاله الأمراض الذّاتيّة والمجتمعيّة، كالسّرف والكبر والحسد والمباهاة والتّكلف، فإن وجد ذلك فالعيد لن يتجاوز ما قاله المتنبي (ت 354هـ):
عيدٌ بِأَيَّةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُ بِما مَضى أَم بِأَمرٍ فيكَ تَجديدُ
وهذه هي الحالة الّتي سوف يعيشها أفراد يرون عيدهم همّا قبله، ووقوعا في ذلّ الدّيْن ومطالبة المدين يحقّه بعده، فلهم أطفال وأسر لا يريدون أن يشعروا أنّهم نشاز في المجتمع، أصحابهم يفرحون بالجديد، وهم يلبسون القديم، ومع هذا قد لا يرحمهم بعضهم، فيطلقون لسانهم تنمرا وغيبة لذويهم وآبائهم، ويرمون سهام البخل عليهم في مجالسهم وتجمعاتهم، ومن في المجتمع من يديه مغلولة عن الإعانة، ولسانهم طويلة في الغيبة والتّنمر.
لقد كان العيد بالأمس جميلا في بساطته، فيلبسون أفضل ثيابهم بلا تكلّف في لبس الجديد، وكان المقتدر يفعل ذلك قبل الفقير، حتّى لا يترفع عليهم ويتباهى بما عنده من فضل، وكان مقتدرهم يتسابق في أنّه يعول أكثر من أسرة، خصوصا ضمن أرحامه والأيتام، فتزداد فرحته بمقدار ما تتسع يده لإدخال البهجة في أكبر عدد في المجتمع، وكان النّاس يحفظون ما لبسوه من جديد يوم فطرهم، ليلبسوه من جديد في عيدهم الأكبر، فلا همّ يؤرقم ويبعدهم عن السّعادة يوم عيدهم.
ولمّا دار الزّمان، وانفتح على النّاس الخير؛ تباهى العديد بما عنده من فضل، ولم يكتفِ مَن عنده في البيت ثوب واحد في عيده، فلليوم الأول ثوبه الجديد، وكذلك اليوم الثّاني، وقد يكون الثّالث أيضا، فأسعدوا بذلك التّجار، فارتفعت الأسعار، فقيمة ثوبين أو ثلاثة بالأمس قد لا يكفي قيمة ثوب واحد متوسط اليوم.
ومع التّضخم المالي، وارتفاع الأسعار، وقلّة الدّخول؛ ضاق حال النّاس، ولولا جمعيّات خيريّة، وإعانات من الدّولة؛ لكان الوضع أشدّ وأنكى، ومع ذلك في المجتمع القانعُ الّذي لا يسأل، والبائس الّذي لا يطلب، لابسا لباس الصّبر ولو عن طريق الدّيْن، ليسعد أسرته، ويدخل الفرح في أحبّ النّاس إليه، فيفرحون يوم عيدهم، وأمّا هو فيفرح ظاهرا، ويقتله الهمّ ليلا، مصاحبا نومه ويقظته كيف يرجع ديْنه، ويبرئ ذمّته.
ولأنّ عيد الأضحى ارتبط بالذّبح والقربان، وكان سنّة واسعة على المقتدر، إن شاء ذبح وتصدّق على المحتاج، وكان النّاس يفرحون بما يصلهم من لحم يوم عيدهم، فلم تكن هذه الشّعيرة تشكل أرقا في المجتمع، ولم يستغلها التّجار للتّكسّب والمبالغة في رفع الأسعار.
وأخبرني كبار السّن أنّهم كانوا في الحارة الواحدة، يشترك المقتدرون في شيء من الأنعام، فيجعلونها صدقة عن الجميع، يأكل من طعامها الكلّ – المقتدر وغيره – بلا تفريق، من هنا كانت فكرة “التّنور” الجماعيّ، فيشعر المقتدر بفرحة الصّدقة، ويشعر غير المقتدر بفرحة الانتماء الجماعيّ وإنسانيّته، كان قانعا عن السّؤال، أو معترّا طالبا، هم والمقتدر سواء في فرحة وشعيرة الأضاحي والقربان يوم عيدهم.
وفي التّطبيق النّبويّ نجد ما يوافق هذا اليسر الاجتماعيّ، فعن جابر بن عبد الله (ت 78هـ) أنّه شهد النّبيّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – يقول في أضحيّته: “هذا عنّي وعمّن لم يضح من أمّتي”، ونجد هذا التّيسير هو الأصل في تشريع القربان في القرآن الكريم، {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الحجّ: 36]، وفي خصوص الهدي {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحجّ: 28].
ولهذا خشي الأوائل منذ فترة مبكرة أن تتحوّل الأضاحيّ إلى عسر وهمّ اجتماعيّ باسم الدّين أو الشّعيرة ذاتها، فيرتفع مقصدها، ويذهب روحها، وتتحوّل من نعمة إلى نقمة، ومن يسر إلى عسر، ومن إعانة إلى استغلال، ومن صدقة وتعاون إلى سرف ومباهاة، فتصبح أقرب إلى المعصية بعدما كانت قربة وطاعة، فنجد في أدبيّاتهم المبكرة ما يصرف النّاس عن ذلك، فيذكر قطب الأئمّة [ت 1332هـ/ 1914م] في الذّهب الخالص [ص: 305]: أنّه “بعث ابن عبّاس عكرمة بدرهمين يشتري لحما، وقال: قل لمن لقيت هذه أضحية ابن عبّاس ليعلموا أنّ الضّحية لا تجب، وضحى بلال بديك يعني أنّها لا تجب”، “واشترى جابر بن زيد فاكهة، فأكل وأطعم الفقراء بعد أن أراد أضحية ولم يجد إلا مهزولا”.
هذه هي الحالة الطّبيعيّة الاجتماعيّة والرّوحيّة من القربان، ولا ينبغي أن تنصرف باسم الفقه إلى حرفيّة طقسيّة تبعد النّاس عن مقاصدها، وتجعلها في أطر ضيّقة يضيق بسببها فئات في المجتمع، ثم إنّ إدراك يسر الشّرائع هو الأصل؛ لأنّ المشرّع في أصله غايته {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185].
وجميل أن نجد في المجتمع من الجمعيّات الخيريّة من تحاول إخراج المجتمع من العسر الاجتماعيّ يوم عيدهم، ولكن الأجمل عندما تكون هناك مراجعات اجتماعيّة وتراثيّة وفقهيّة للعديد من أدبيّات العيد، فليست الغاية المنافسة بين الجمعيّات في جمع أكبر قدر من المال من النّاس باسم الأضاحيّ، ولكن الغاية كيف نستطيع أن نجعل العيد دائما في دائرة اليسر الاجتماعيّ، وليس العسر الاجتماعيّ، محقّقا لمقاصد الوسطيّة، ناشرا للرّحمة والسّعادة والمحبّة، مبعدا المجتمع عن استغلاله باسم حاجات طقوسه وشعائره، فالعيد رحمة ومحبّة، وليس عسرا ومباهاة ومشقة.