المقالات الفكرية

الحقائق والفرضيّات بين علوم الطّبيعة والعلوم الإنسانيّة

جريدة عمان 1445هـ/ 2023م

هناك تمايز واضح اليوم بين علوم الطّبيعة والعلوم الإنسانيّة ليس على مستوى النّتائج فحسب؛ بل حتّى على مستوى الأدوات، لهذا لا يمكن اليوم الخلط بينهما، قد يشتركان فيما يتعلّق بالإنسان من آثار، كما لعلوم الطّبيعة من تأثير واضح في العلوم الإنسانيّة وتشعبها وتطوّرها، ولكن لا يندمجان، بمعنى لا معنى لعبارة الجمع بين العلم الطّبيعي والدّين، أو العلم الطّبيعي والفلسفة، أو بين العلم الطّبيعي ذاته والعلم الشّموليّ؛ لأنّ الثّاني كما يرى بدوي عبد الفتاح محمّد في فلسفة العلوم “بالرّغم من ميلاد العلم يعود إلى ثلاثة قرون مضت؛ إلا أنّه ما يزال حتّى اليوم مصطلحا غامضا تتضارب حوله الآراء، هذا التّضارب لا يعود إلى العلماء بالطّبع؛ بل إلى كثرة الأنشطة الإنسانيّة الّتي تحاول الانتساب إلى العلم…. بمعنى القول إنّ ما يميز العلم عن سائر المعارف الأخرى هو المنهج وليس المحتوى المعرفيّ”، وما يحدث من غموض في مصطلح العلم يتحقّق ذاته في مصطلحيّ الدّين والفلسفة.

وفي جلسة معرفيّة بعنوان “علوم الطّبيعة: حقائق ثابتة أم فرضيّات متغيرة” ألقاها المحاضر في جامعة السّلطان قابوس حيدر أحمد اللّواتيّ يرى هناك فريقان: فريق يخلط بين الحقيقة العلميّة والظّاهرة والتّفسير العلميّ، فيجعل الجميع حقائق، وفريق يقلّل من الحقائق العلميّة فيجعلها لا تتعدّى الفرضيّات، بينما علوم الطّبيعة تضم الحقائق والنّظريّات والفرضيّات العلميّة، وعدم انتقال الدّلائل العلميّة إلى الحقائق العلميّة لا يعني الشّكّ، فهناك مساحة واسعة بين الحقيقة العلميّة والشّكّ، ولا يوجد في علوم الطّبيعة تجارب مشكوك فيها، فإمّا صحيحة أو يضرب بها عرض الحائط، لهذا لابدّ من الممايزة بين نتائج التّجربة والتّفسير العلميّ للتّجربة، قد يُختلف في التّفسير، لكن لا يمكن الاختلاف في التّجربة، مثل السّكريّات المصنعة هل تسبّب مرض السّرطان أم لا؟ لا يوجد خلاف في تجربة السّكريات المصنعة، والكل يرجع إلى ذات التّجربة، ولكن الاختلاف في التّفسير.

لهذا الممايزة بين علوم الطّبيعة والعلوم الإنسانيّة يتمثل في جوانب عديدة، أهمها في نظري المرجعيّة والمعيار ومفردات منهج البحث والنّتائج، فأمّا المرجعيّة فعلوم الطّبيعة معنيّة بما في الطّبيعة، وليست معنيّة بما وراء الطّبيعة كان غيبيّات أو ماورائيات، أو بما فيها ممّا ليس خاضعا للرّصد أو التّجربة، فيرى اللّواتيّ أنّ حقائق علوم الطّبيعة انحصر سابقا فيما يمكن كشفه من خلال الحواس الخمس، مثل تعاقب اللّيل والنّهار والمدّ والجزر والأعاصير، إلّا أنّه في القرون الخمس الماضية تقدّم العلم لدرجة إدراك العلم أنّ الحواس لا تَدرك إلّا قدرا محدودا من الظّواهر الطّبيعيّة، مثلا حاسّة العين تدرك من الضّوء فقط واحدا بالمائة، وبالتّالي هناك عوالم ضخمة لا تدرك بالعين الجارحة،فأصبحت حقائق علوم الطّبيعة لا تُدرك فقط بالحواس الخمس بل بامتدادات هذه الحواس، مثلا التّلسكوب الّذي هو امتداد لحاسّة البصر من حيث البعد، والمجهر الّذي هو امتداد لحاسّة البصر من حيث الحجم، فظهرت حقائق علميّة لا تُدرك بالحواس الخمس وإنّما بامتداداتها مثل الميكروبات والبكتيريا والفيروسات والفطريات الصّغيرة، فتوسعت الحقائق العلميّة، مثلا كرويّة الأرض ودوران الأرض حول الشّمس، ظاهرة الثّقب الأسود، وDNA.

أمّا العلوم الإنسانيّة كانت دينيّة أو تاريخيّة أو فلسفيّة قاريّة أو رياضيّة أوسع مرجعيّا من علوم الطّبيعة كما يرى بدوي عبد الفتاح “أنّ ما نعنيه بالعلم هو العلم الطّبيعيّ أو التّجريبيّ وليس العلم الرّياضيّ أو امتداداته المنطقيّة، رغم الاعتراف الكامل بأنّه لولاه ما حققت العلوم الطّبيعيّة أدنى تقدّم، ولوقفت عند حدود الوصف الكيفيّ البسيط”، لهذا لا معنى لتقييد علوم الطّبيعة بنتائج العلوم الإنسانيّة، كما أنّ علوم الطّبيعة قد لا تدخل في الابتداء في العلوم الإنسانيّة، وإن دخلت فقد تتمايز النّتائج بينهما بشكل طبيعيّ، وقد تتوافق في بعض الأجزاء.

وأمّا المعيار كما يرى اللّواتيّ أنّ المعيار المستخدم في علوم الطّبيعة لإثبات الحقائق العلميّة هي التّجربة، وتتحقّق بالرّصد والمختبر، فمنها ما يمكن رصدها مثل النّجوم والمجرات، ومنها ما يمكن أن تدخل في المختبر كالميكروبات والفيروسات، لهذا في العلم الطّبيعيّ يمايزون بين الظّاهرة الطّبيعيّة والظّاهرة التّأريخيّة، فالأولى يمكن رصدها واختبارها، وأمّا الظّواهر العلميّة التّأريخيّة التّي لا يمكن إعادة تكرارها ورصدها مرة أخرى مثل الانفجار العظيم أو السّلف المشترك عند دارون هي ظواهر علميّة ترصد بالحواس، لكن لا يمكن تحقيقها بالمختبر أو التّجربة لهذا تبقى ظاهرة علميّة لا حقيقة علميّة، كما أنّه لابدّ من التّمييز بين الظّاهرة وأثرها، أحيانا لا يمكن الوصول إلى الظّاهرة لرصدها، ولكن يمكن رصد آثارها، مثل الجاذبيّة الأرضيّة، لهذا من الخطأ اعتبار الجاذبيّة الأرضيّة حقيقة علميّة.

وأمّا المعيار في العلوم الإنسانيّة كانت دينيّة أو تاريخيّة أو فلسفيّة أو رياضيّة فيختلف تماما، لهذا سيدخل مفردات منهج البحث مع المعيار، كما أنّها تتمايز العلوم الإنسانيّة فيما بينها أيضا، فالعلوم الإنسانيّة الدّينيّة تتمايز مع العلوم الإنسانيّة التّأريخيّة، فقد يشتركان في الأخبار التّصوريّة والتّصديقيّة من حيث الابتداء، إلّا أنّهما يتمايزان من حيث البعد الماورائيّ في الخبر من حيث التّصديق، ومن حيث مفردات البحث كالأسطورة والخرافة والواقع، كما أنّ العلوم الإنسانيّة التّأريخيّة الخبريّة والرّوائيّة تتمايز مع العلوم الإنسانيّة التّأريخيّة القائمة على ماديّات الآثار والنّقوش، وهكذا في العلوم الإنسانيّة الفلسفيّة تتمايز العلوم  الفلسفيّة التّجريبيّة عن العلوم  الفلسفيّة الإغريقيّة والقاريّة، سواء من حيث المعيار، أو من حيث مفردات منهج البحث.

ومن هذه المفردات مثلا نظريّة الشّكّ، فالشّكّ ومساحته في العلوم الطّبيعيّة يختلف عن العلوم الإنسانيّة، كما أنّ مساحة وجوده تتباين ذاتها في العلوم الإنسانيّة، فالشّكّ عند اللّاهوتيين يختلف عن الشّكّ عند الرّياضيين، كما قد يختلف عند الفلاسفة، فلا يوجد شكّ في علوم الطّبيعة، فإمّا أن ترتفع الظّاهرة العلميّة إلى حدّ الحقيقة العلميّة، ولكن لا تقبل الشّكّ في الأدلّة ولا النّتائج فهي واحدة، بيد أنّ التّفسيرات تختلف، بينما في العلوم الإنسانيّة فالشّكّ وراد بقوّة، لأنّ الخبر بذاته قائم على الشّكّ، أي الصّدق والكذب من خلال الواقع، ثمّ إنّ مساحة الشّك تضيق عند اللّاهوتي خصوصا فيما يتعلّق بالمقدّس، فهو غير وارد فيه، بيد أنّ معيار رفضه هنا ماورائيّ غير قابل للتّجربة، وإنّما قائم على الخبر التّأريخيّ، ويرون أنّ الخبر لا يخالف الواقع وإن كان الواقع متقدّما ظاهريّا، كما سيضيق عند اللّاهوتيين أنفسهم فيمن يتوسع في القطعيّ وتضييق دائرة الظّنيّ، وهذا ما يرفضه الفلاسفة، فالأصل في الأخبار الشّكّ، والانتقال منها إلى القطع قائم على الأدلة العقليّة والطّبيعيّة، وعند التّجريبيين يتوقفون عند الأدلّة القائمة على تحقّق التّجربة، فيستندون إلى أدلّة علوم الطّبيعة، بيد أنّ  علوم الطّبيعة ترفض الشّكّ من حيث الابتداء، والّذي لا يخضع للرّصد والتّجربة ليست معنيّة به كما أسلفنا.

ولهذا من الطّبيعيّ أن تتمايز العلوم الطّبيعيّة والعلوم الإنسانيّة في النّتائج، وكما يرى اللّواتيّ أنّ من شروط النّظريّة العلميّة أن تكون قادرة على تفسير الظّاهرة العلميّة، وأن تكون قادرة على التّنبؤ لظواهر علميّة غير مكتشفة، مثلا النّظريّة النّسبيّة لمّا فسّرت الجاذبيّة الأرضيّة تنبأت بتنبؤات غير متوقعة مثل الضّوء عندما يمر عند الأجسام الكبيرة كالشّمس ينحني ولا يمر طوليّا، وحدّدت درجة الانحناء، وتنبأت كذلك بالثقب الأسود، والتّنبؤ بالأمواج الثّقاليّة.

وأمّا العلوم الإنسانيّة فقد تكون غير معنيّة بالتّنبوء، كما أنّ النّتائج قد تكون مبنيّة على أدلّة ماورائيّة أو خبريّة أو عقليّة أو رياضيّة غير خاضعة للتّجربة، لهذا قد تكون أصل القضيّة سالبة أو حتّى كاذبة، وتفسيراتها متباينة ومتناقضة، وهذا يتمايز كليّا مع العلوم الطّبيعيّة، لهذا لا حاجة اليوم في البحث عن المعاجز والتّكلف في إثبات الماورائيّات والماضويّات من خلال العلوم الطّبيعيّة، وفي الوقت ذاته تترك العلوم الطّبيعيّة لتتحرك في أوسع مساحات البحث والكشف والسّير بعيدا عن المعوقات اللّاهوتيّة والسّياسيّة والاجتماعيّة، وعن الاستغلال الاقتصاديّ الرّأسماليّ والسّياسيّ، وتوجيهها بطرق غير أخلاقيّة، خصوصا فيما يتعلّق بالأمراض وأدوات الحروب وتدمير الإنسان والحياة، فهناك من المشترك الأخلاقيّ والأثري بين العلوم الطّبيعيّة والعلوم الإنسانيّة، ولكن في الوقت نفسه منهجيّا ومعرفيّا كلّ علم يدرس وفق أدواته ومعياره ونتائجه.

السابق
الإباضيّون ومصر: التّعايش الدّينيّ والمذهبيّ
التالي
قانون الحماية الاجتماعيّة والعدل الاجتماعيّ
– تنويه:

عدد من الصور المستخدمة للمقالات مأخوذة من محرك google

اترك تعليقاً