جريدة عمان 1443هـ/ 2022م
يُفتتح بعد أيام قليلة العرس الثّقافيّ السّنويّ المتمثل في معرض مسقط للكتاب في دورته السّادسة والعشرين، والّذي توقف العام الماضي لسبب جائحة كورونا، حيث يعتبر معرض مسقط للكتاب من المعارض الشّهيرة في المحيط العربيّ، لما يمثله من حراك ثقافيّ ومعرفيّ، مع الإقبال الكبير، وحضور الكتاب العمانيّ بصورة كبيرة سنويّا.
ولقد كان في العقود السّابقة حضور الكتاب الدّينيّ والتّراثيّ والأدبيّ أكثر بروزا من غيرها من المجالات الأخرى، أمّا في السّنوات الأخيرة برزت الكتابات النّقديّة والتّحليليّة في جميع المجالات، بما في ذلك الفكر والفلسفة والتّأريخ والأدب والسّياسة والاجتماع والتّراث وغيرها، ممّا يمثل نقلة نوعيّة، تجعل من الكتاب العمانيّ مساهما في نشر المعرفة والوعي في المحيط العربيّ والإسلاميّ خصوصا، والإنسانيّ عموما، هذا الحراك يساهم بشكل أكبر في الحفر بشكل رأسيّ في المعرفة، مع نشر الوعي أفقيّا لدى القارئ والباحث والعقل الجمعيّ عموما.
وفي هذا المعرض في دورته الحاليّة توجد نماذج عديدة وجديدة في الوقت نفسه من الإصدارات العمانيّة المعنيّة بهذا الجانب، ولعلّي هنا أشير إلى بعض النّماذج في الفكر والفلسفة للتّمثيل لا للحصر، ومن هذه الكتب مثلا كتاب “هكذا نتطوّر: فلسفة التّطوّر في عالم الإنسان والأفكار والأشياء” للدّكتور معمّر التّوبيّ، وهو كتاب مهم جدّا في فهم نظريّة التّطوّر في عالم الإنسان والأفكار والأشياء، مناقشا الحساسيّة الدّينيّة التّراثيّة للجمع بينها وبين ما استجدّ في النّظريات العلميّة حول هذا الجانب.
كذلك كتابيّ المرحوم صادق جواد سليمان حول “الإنسان والماهيّة: محاورات في الدّين والفلسفة والشّأن الإنسانيّ”، وكتاب “سلامة الفكر بسلامة منهج التّفكير: المقالات والقراءات والحوارات”، وأمّا الكتاب الأول فهو خلاصة تجربة صادق جواد ورؤيته حول الوجود والماهيّة الإنسانيّة، وإسقاط ذلك على الواقع، لهذا ابتدأ ببدايات تجربة صادق جواد مع التّأمل والفكر منذ أربعينيات القرن العشرين من القرن الماضي، والمراجعات الّتي اهتم بها، وأخذت أكثر حياته، وضحى لأجلها وقته وعمره، ثمّ استقرار رؤيته حول المبادئ والقيم والّتي تتمثل في قيم مطلقة وهي الكرامة الإنسانيّة والمساواة والعدل والشّورى، منطلقا إلى القيم المضافة فالأخلاق والعادات والأعراف، وعليها يبني رؤيته في التّعامل مع الأديان والفلسفات المختلفة قديمة وحديثا، كما يظهر الكتاب نزعة صادق جواد نحو الأنسنة والإنسانيّة، وحضور العقل في ذلك، مع بعده العرفانيّ المتمثل في اندماجه مع الكون أجمع، وأنّه لا ينفصل عنه، ولهذا ستصبح رؤيته واضحة في موضوع الدّولة والدّساتير والأمور الإجرائيّة عموما، وهذا ما تطرّق إليه الكتاب أيضا حول الدّولة المدنيّة والدّولة المعاصرة، وحول المجتمع المدنيّ، والدّولة بين ماهيّة الدّساتير وهوّيّة المجتمع، وارتباط الدّولة بالمواطنة، وارتباط المواطنة بحقوق الإنسان، وغيرها من المواضيع الّتي شارك فيها تساؤلا ومشاركة العديد من الشّباب من العالم العربيّ ودول العالم.
وأمّا الكتاب الثّاني فعبارة عن المقالات والقراءات الّتي كتبها صادق جواد في مناسبات مختلفة من 2000 وحتى 2020م، وجمّعها الكاتب العمانيّ سعيد بن سلطان الهاشميّ، مفتتحا الهاشميّ الكتاب بمقدّمته بلسان الرّاحل صادق جواد: “الفكر هو ما نشعر به بوجودنا، ونهتدي به إلى وجود ما حولنا، قريبه وبعيده، ظاهره وباطنه، هو ما ننطلق منه في تعاملنا مع كافّة أمور الحياة، وما نحاول استنباطا به فهم خفايا الوجود، فإن كان فكرا سليما جاء نظرنا وأداؤنا سليما وفق نسقه، وإن كان فكرا معتلّا جاء نظرنا وأداؤنا معتلّا على شاكلته، من هنا ضرورة أن نحرص دوما على سلامة التّفكير، وذلك باجتناب جميع مشوّهات التّفكير، أكانت عضوية الأثر، كمواد السّكر والتّخدير، أو نفسيّة الوقع، كالانفعالات الّتي تخرج المرء عن طور الرّشاد، كما الغضب والغرور والحسد وكراهيّة الآخر ونزعة الانتقام، وكما الخوف والطمع والأثرة المجحفة بحقوق الآخرين”.
ومن الكتب الفكريّة والنّاقدة كتاب الإنسان والمعنى للباحثة والكاتبة إيمان الحوسنيّة، وهو كتاب يحفر في قضيتن مهمتين: الرّوحانيات وفلسفة المعنى، من خلال علم النّفس الحديث، حافرة في أهم ما توصل إليه العلم في هذا المجال، لتقدّم رؤيتها حول جدليّة الدّين والرّوحانيّة وعلاقة ذلك بالطّب النفسيّ، مع معالجة التّطبيقات والإسقاطات المعاصرة، لتنطلق إلى فلسفة المعنى وارتباطها بالحياة.
ومن الكتب النّقديّة الّتي تحفر في التّأريخ العماني كتاب “ميلودراما التّاريخ: سيميائيات البنية السّرديّة والوظيفيّة في النّصوص التّأريحيّة العمانيّة” للدّكتور سعود الزّدجاليّ، والكتاب يناقش المصادر التّأريخيّة العمانيّة، والسّرديات الدّينيّة العجيبة في النّص التّأريخيّ العمانيّ، وصورة الإمام في الخطاب التّأريخيّ العمانيّ من خلال استخدام منهجيّة البنية اللّغويّة والسّيميائيّة في تفكيك الرّواية التّأريخيّة العمانيّةّ.
وقريب من كتاب الزّدجاليّ يأتي كتاب “نظام الحكم في عُمان: من إمامة الانتخاب إلى السّلطنة الوراثيّة” للدّكتور محمّد اليحيائيّ، وهو كتاب يحفر في جدليّة التّوريث في نظام الحكم في عُمان من الشّورى وحتّى ولاية العهد، مناقشا النّظريّة الإباضيّة الأولى حول الشّورى، ومدى تطوّر النّظريّة من إمامة الانتخاب إلى السّلطنة الوراثيّة، ومن الاختيار المفتوح إلى الاختيار المغلق.
كذلك يأتي في نفس هذا المساق كتاب “الأوروبيون في مدونات التّراث العمانيّ: 1498 – 1950م] للدّكتور ناصر السّعدي، والكتاب يحفر في الرّؤية العكسيّة أي رؤية العمانيين للأوروبيين، حيث اعتاد العديد في البحث عن الرّؤية الغربيّة للشّرق ومنها عُمان، والباحث هنا يقرأ الرؤية العكسيّة سواء في الجانب السّياسيّ أو الجوانب الاجتماعيّة الأخرى، ولا يقتصر عند الوصف فحسب؛ بل يبحر في التّحليل والتّفكيك والنّقد.
ومن الكتب النّاقدة والمساهمة في نشر الوعي الجمعي كتاب “العقل: الطّريق إلى الحكمة وصناعة الأفكار” للدّكتور زكريا المحرميّ، وقد ناقش المؤلف ماهيّة العقل، وعلاقته بخلق الأفكار والذّكاء والخيال والوعي، ومدى تأثير العاطفة والحدس والإلهام والشّك والفضول المعرفيّ ومخالطة النّاس وتحدّيات الحياة، والتّفكير الفلسفي، كما تطرق إلى السّلطات المؤثرة على العقل والوعي، خاتما كتابه بقواعد الحكمة الأربعين المتعلّقة بمباحث العقل ودوره في صناعة الوعي.
ونجد البروفيسور العمانيّ حيدر أحمد اللّواتيّ يقدّم كتابه العلميّ والفيزيائيّ “عجائب العلوم” ليبحر في مواضع علميّة تثير الخيال البشريّ، متطرقا إلى بعض النّظريّات الفيزيائيّة كالنّظريّة النّسبيّة الخاصّة والعامّة عن أنشتاين مثلا، والكتاب ليس توثيقا فحسب، بل يقدّم المؤلف رؤيته في ذلك، محاولا تقديمها بصورة مبسّطة وسهلة مفهوما بعيدا عن التّعقيدات الفيزيائيّة والرّياضيّة.
أيضا من الكتب المهمّة في الجانب العلميّ كتاب “كائن: فهم أفضل لضخامة التّعقيد” ليحيى عبيد، والكتاب يصبّ في انتصار العلم على الخرافة، وفي تطوّره، متمثلا في مناقشته وباء الطّاعون من الإغريق وحتّى العصر الحديث، وتمكن العلم في مكافحته، والكتاب كما يرى المؤلف في لقاء معه في صالون قرّاء المعرفة هو محاولة لكسر الحقائق العلميّة الجامدة، بحيث يقدّم هذه الحقائق العلميّة بلغة أدبيّة جاذبة وواضحة.
ومن الكتب المهمّة والنّاقدة كتاب “سراة الوادي المقدّس”، حيث يقدّم رؤية تحليليّة للتّصوّف في عُمان في المذاهب الثّلاثة: الإباضيّة والسّنيّة والشّيعة الإماميّة، وشارك فيه العديد من الباحثين العمانيين، وأعدّه الباحثان سعيد بن سلطان الهاشميّ، وأمامة اللّواتيّة.
وأيضا من الكتب النّاقدة والمحلّلة والّتي صدرت قريبا كتاب: “وما كفر سليمان ولكنّ الشّياطين كفروا: تجليات المعنى ودلالات الخطاب” للدّكتور سليمان بن سالم الحسينيّ، وهو كتاب يعمل مراجعة لجدليات متكررة اجتماعيّا ودينيّا، محاولا قراءتها من خلال العلوم الحديثة، مراجعا لبعض الأدبيات التّراثيّة، كالحسد والعين والسّحر والجنّ والوسوسة وغيرها.
وعموما هناك العديد من النّتاج الفكري والفلسفيّ والنّقدي يصعب حصره في هذا اللّقاء، ولا تقل أهميّة عمّا ذكر، مثل كتاب “المغالطة المنطقيّة بين التّحقق والتّوهم: مداخل مفهوميّة وسياقات استدلاليّة تحت الضّوء” للأستاذ الباحث أحمد التّميميّ، حيث يقدّم المغالطات المنطقيّة بصورة علميّة واستدلاليّة مهمّة، وكتاب “خارج الأسوار: أوراق في الدّراسات الثّقافيّة”، والّذي قام بتحريره الدّكتور مبارك الجابريّ، وهو أول دراسة تتناول مشروع الدّراسات الثّقافيّة في عمان، حيث شارك فيه أقلام ثقافيّة عربيّة مهمّة، لذا يشكل إضافة مهمّة ليس للمكتبة العمانيّة فحسب؛ بل للمكتبة العربيّة عموما، لقلّة الدّراسات العربيّة المتخصصة في هذا الجانب.
وما ذكرته آنفا من باب التّمثيل الّذي بذاته يبشر بتدافع فكري ونقدي وفلسفي يساهم فيه الباحث والكاتب العمانيّ ليشكل إضافة معرفيّة مهمّة في هذا الشّأن، تساهم في رقي العقل العربيّ، ونشر الوعي بصورة أكبر محليّا وعربيّا وعالميّا، حيث لم نعد نقتصر عند الدّراسات الاحتفائيّة والوصفيّة، بقدر ما تتّسع الدّراسات النّقديّة في مساحتها، وتتنوّع في مجالاتها ومباحثها، ولا تقتصر عند مجالات معينة، أو يحدّها خطوط ضيقة.
هذا التّدافع الجميل في المساحة الموجودة الآن من الإبداع وحريّة إبداء الرّأي الآخر؛ يجعل القراءات تتّسع بصورة أكبر في المستقبل، راجيا أن لا تقتصر هذه المساحات الإبداعيّة في حدود جغرافيّة معينة، بقدر ما يقدّم لها الدّعم لتهاجر وتعمّ أكبر جزء في الوطن العربيّ والإسلاميّ، كما يمكن ترجمة العديد منها لتوضع في مكانها في إثراء المعرفة الإنسانيّة بصورة أوسع وأكبر.