القرآن الكريم في البداية لم يستخدم لفظة التسامح وإنما استخدم لفظة العفو والصفح والتعارف، ولإيضاح البيان أكثر في هذا الجانب، الناس في تعايشهم يدورون في دوائر ثلاثة:
الدائرة الأولى: فئة أخطأت في حق أخرى، فهنا يتناسب مصطلح التسامح لتتنازل عن خطأها وغرورها، أي طلب المسامحة من قبل من أخطأت في حقه.
الدائرة الثانية: فئة أخطأت في حقها فئة أخرى، وهنا يتناسب مصطلح العفو والصفح، كقوله تعالى: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
الدائرة الثالثة: دائرة التجانس بين الفئات الفكرية والسياسية والقبلية والمجتمعية، وهذا يتناسب معها لفظة التفاهم والتعايش والتجانس والتعارف.
والقرآن يؤكد ويقرر طبيعة اختلاف أفكار الناس وتوجهاتهم، وهذا الأساس يجسّده الله سبحانه وتعالى بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} ، فأصل الناس من ذكر وأنثى، وعليه كانت التكاثر الطبيعي، ومع تعدد مؤثرات البيئة والمناخ، وتباعد الناس في أقطار الأرض كان التباين في اللون والجنس واللغة، وهذا الاختلاف في أصله من آيات الله سبحانه كما يقول: {وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ}.
فلا يوجد في حقيقة الحال أفضلية بين البشر من حيث الاختلاف الجنسي واللوني واللغة، فالعرق وإن تعدد إلا أنّه لا قيمة له في التمايز، فليس هناك في القانون الإلهي شريف ووضيع، ونبيل وأدنى منه، فهذه جميعها من صنع البشر، والذين يتعصبون لذاتهم، وهذه هي الحمية الجاهلية التي نهى الله تعالى عنها، ومقتتها جميع الرسالات السماوية.
والعرب كغيرهم وقعوا في الاعتداد بالذات، تبعا للفرس والروم ونحوهم، واختلط ذلك بالفكر الديني الإسلامي، من هنا نجد دخول مصطلحات آل البيت والقرشية والأشراف والسادة إلى الفكر الإسلامي، ودعم ذلك بروايات نسبت إلى الرسول عليه السلام أو الصحابة، مع لف آيات القرآن لتوافق هذه النصوص الآحاد.
كما أن الأدب العربي، والتأريخ كذلك حوى قدرا كبيرا من التعصب الجنسي، فالعدنانية والقحطانية شكلتا دائرة واسعة لانتحال الشعر في تمجيد إحدى الطائفتين، بجانب ما نتج عنهما من حروب وصراع طول التأريخ.
وعليه ندرك الانحراف الكلي عن الخط القرآني، والذي جعل الاختلاف يحمل معنى توحيديا يدل على وجود الله سبحانه وتعالى، والذي أنبت النبات متعدد الاختلاف والألوان من تراب يحمل نفس العناصر والصفات، فكذلك الإنسان أيضا كما قال سبحانه: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا}.
وكما أنه يحمل البعد التوحيدي، في الوقت نفسه يحمل أيضا البعدَ البشري، وهذا ما أشارت إليه آية الحجرات بلفظة: لِتَعَارَفُوا، فالاختلاف وسيلة للتعارف لا التحارب والتباغض واستنقاص من خالفك في الجنس، فهذه طرق الشيطان، يبثها بين العباد، ليعيشوا في حروب وصراع، حيث أنّ من أكبر مخططاته أن يوقع بين العباد العداوة والبغضاء.
وهكذا الحال فيما يتعلق باللون، فالبيض دائما ينظرون إلى السود نظرة دونية، ويعاملونهم تعاملا استنقاصيا، والله تعالى خلق البشر متساوين على اعتبار الكرامة الإنسانية، وهذه الكرامة هي كرامة مطلقة، لا يجوز أن تنحرف أو تربط وتقيد بجوانب جزئية بشرية، فالكفاءة بين البشر مبنية على قدرات الناس ومواهبهم وتفوقهم لا على اعتبار اللون، والأسود إذا كان كفؤا كان مؤهلا أن يسوس البيض، ولا إشكالية في الأمر!!!
وهكذا الحال في اللغة، فاختلاف الألسن من آيات الله سبحانه وتعالى، والدالة على وجوده جل جلاله، نعم هناك بعض اللغات كاللغات السامية لها جذور تأريخية عميقة البعد الزمني، وهناك لغات اكتسبت مكانة بسبب الكتب المنزلة.
والشرفية هنا ليست لذات اللغة بقدر ما لازمها من أبعاد تأريخية ومكانية، واختيار إلهي، وإلا فالأصل جميع اللغات في المكانة سواء، ولا يجوز التفاخر الجاهلي بسبب لغة أو لهجة، وعليه اللغة تفرض نفسها ووجودها بتقدم الناطقين بها علميا وفكريا وحضاريا، فهذه الفرنسية كانت يوما ما لغة العالم، واليوم ضعفت أمام لغة أقل منها قدما وأدبا وهي اللغة الإنجليزية.
فالاعتداد باللغة أمر جميل، ولكن استنقاص الآخرين بسبب اللغة أمر حقير مذموم، والأمم التي لا تتمسك بلغتها، تذوب مباشرة في لغات غيرها، وتصبح كالمعلقة، لا هي تقدمت بلغة غيرها، ولا هي حافظت على هويتها اللغوية.
فاختلاف أجناس الناس وأعراقهم أمر طبيعي، وسنة كونية، تفرض نفسها بنفسها، وهي أداة للتجانس البشري، والتكامل الإنساني، والتعارف بين الأمم، والذي يميز بين الناس هو تقواهم لله تعالى فقط لا غير، وعليه يكون الحساب يوم العرض.
ومن رحمة الله على العباد أنه خلقهم متفاوتين كلٌ حسب قدراتهم العقلية والجسدية، وهذا التفاوت والتباين ضروري لتحقيق سنة التسخير بين البشر وهي سنة كونية اجتماعية قال الله تعالى عنها: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}.
والاختلاف بين البشر في الميول والمواهب عائد إلى ثلاثة أمور أساسية: العقل وقوة الجسم ورغبة الانتاج والإبداع، أما العقل فذلك نتيجة التباين والتفاوت في القدرات العقلية بين البشر، والتدرج في قدرات الفهم والحفظ، وهذا بدوره سيؤثر على الأفراد، وسينوع من نتاجهم وخدمتهم لبعضهم بعضا، فهناك من سيتفوق بعقله ليخدم البشر في مجال معين، وهناك أيضا ممن لم تتهيأ له هذه الظروف العقلية ولكنه أيضا بما عنده من طاقة عقلية سيخدم في مجال آخر المجتمعُ البشري لا يستغني عنه.
وكذلك الحال بالنسبة لقوة الجسم فهناك ممن أعطي قوة بدنية يستطيع بها مزاولة بعض الأعمال التي تخدم البناء المجتمعي، وهناك ممن هو أضعف جسدا أيضا سيحقق البناء من خلال القدرات والمواهب التي يمتلكها، ولو كان معوقا في جسده أو بعض أجزاء الجسم.
كذلك بالنسبة للميول والرغبات هذه ستحقق التنوع المعيشي والإبداعي على مستوى الفكر أو الصناعة وكذا الحراك العملي، فهناك ممن سيهتم بالفلسفة، وهناك ممن سيهتم بعلم الطبيعة والاستقراء، وهناك من رغبته الطب والبحث عن العلاج، وكذلك الجانب العملي سنجد النجار والخباز والخياط، فضلا عن الصناعات والشركات بتعددها.
كلّ هذا يوجد تنوعا بين البشر يكمل بعضهم بعضا كما يقول الشاعر:
النّاس للنّاس من حضر وبادية كلٌّ لكلِّ وإن لم يشعروا خدم
وبهذه الجوانب الثلاث العقلية والجسمية والمواهبية تتشكل الكفاءة بين الناس، وليس على اعتبارات جنسية أو لونية أو قبلية أو مالية، وإلا سيحدث خللا كبيرا في سنن الاجتماع سيؤدي بدوره إلى تخلخل المجتمع البشري، ويصبح أقرب إلى الغابة التي يأكل القوي فيها الضعيف، ويستغل الغني الفقير، ويستعبد فيها النبيل الوضيع.
والله تعالى في كتابه ألغى جميع مظاهر التفرقة على أسس جزئية، وجعل الانطلاق من كرامة الإنسان المطلقة حيث يقول سبحانه: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}.
فكرامة الإنسان هي جوهر التجانس البشري، فلا يجوز أن ينحرف هذا الجوهر لاعتبارات بشرية قاصرة، والكفاءة لا تتعارض مع الكرامة إذا كانت هذه الكفاءة منطلقة من الكرامة ذاتها، على اعتبار الجوانب الثلاث السالف ذكرها لا غير.
وعليه يأمر الله تعالى بالحفاظ عليه عن طريق طرق ثلاث: العدل، والقسط، والشهادة له سبحانه وحده حيث يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}.
وما نراه اليوم من تسلسل في الرياسة أو الوجاهة والمشيخة أو إعطاء الوظائف والمهام لاعتبارات قبلية أو مالية أو أسرية كلّ هذا يولد خللا يصعب علاجه بعدها، وقد يجر إلى فساد كبير بين البشر، فالكفاءة على الأسس الطبيعية في البشر هي الأساس للتفاضل بين الناس، وإعطاء كل ذي حق حقه، وبهذا يتحقق التجانس البشري.
من خلال ما تقدم نخلص أن الخلاف سنة طبيعية بين البشر، وممكن نجمل التسامح إن صح التعبير يعم في القرآن جوانب عديدة منها:
نتحدث اليوم أيها الأخوة عن التسامح من خلال القرآن الكريم، فالتسامح هو الاحترام المتبادل، والاعتراف بالحقوق العالمية للشخص، وبالحريات الأساسيّة للآخرين، وإنّه وحده الكفيل بتحقيق العيش المشترك بين شعوب طابعها التنوع و الاختلاف.
– الجانب العقدي؛ حيث يقرر القرآن الكريم حرية الاعتقاد، وعدم جواز إكراه الآخرين في الدخول في الدين الحق، ولا سبهم وشتمهم وإقصائهم بسبب خلاف المعتقد، يقول تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}.
– حرية العبادة؛ فلكل ملّه حريتها في ممارسة العبادة؛ بل أمر الإسلام بالحفاظ على أماكن العبادة وممارسة الشعائر الدينية، وما أباح الله الحرب إلا لحفظ الدين والعباد وأماكن العبادة، وردّ الظلم والمفسدين إلى العدل وجادّة الحق، يقول الله تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}.
– الدعوة بالحسنى؛ أوجب سبحانه على الدعاة استخدام الأسلوب الحسن، وأن تستخدم الوسائل التي تدخل في دائرة الحكمة والجدال بالتي هي أحسن، يقول سبحانه: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}.
– إقرار التجانس البشري؛ فالإسلام يعترف بتعدد الشعوب والحضارات، واختلاف الأديان والملل والمذاهب والتوجهات، وتباين العادات والتقاليد، ولهذا أوجب مراعاتها، وحرّم الإساءة إليها، وإن كان ثمة نقد فبالأسلوب الحسن، مع الوسيلة بالحسنى، يقول جلّ وعلا: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}.
– العفو والصفح؛ فقد اعتبر الإسلام العفو والصفح من المبادئ العليا، والقيم الرفيعة التي ينبغي أن يتمسك بها المؤمن الحق، ولو مع من أساء إليه، أو مع من خالفه فكرا وسلوكا، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
– الإحسان إلى الناس؛ كذلك قرر الإسلام مبدأ التسامح بمعناه العام مع كافة الناس، مع الوالدين والجيران والصاحب في السفر وابن السبيل، وكافة أبناء المجتمع باختلاف طبقاتهم وتوجهاتهم، يقول سبحانه: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا}.
وبهذا يكون التسامح الذي أراده الله تعالى منهجا للتعايش بين البشر، لأنه يوافق فطرة الله تعالى والتي لا تتغير ولا تتبدل.
جريدة عمان، 1439هـ/ 2017م