جريدة عمان 1444هـ/ 2023م
جاء مصطلح الشّورى في موضعين في القرآن الكريم، موضع جاء في موقع الخبر المراد منه الإنشاء: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الشّورى/ 38]، وموضع في موقع الإنشاء الطّلبيّ: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران/ 159]، والشّورى من التّشاور، وظاهرها مصداق أخلاقيّ لتوسيع مشورة الرّأي في قضيّة ما، إلّا أنّ صادق جواد سليمان [ت 2021م] اعتبرها مبدأ مطلقا لاعتبار “الشّورى الّتي تستبعد الاستبداد”.
وأمّا المجالس البرلمانيّة كفكرة قديمة ارتبطت بالدّيمقراطيّة عند فلاسفة اليونان، وتطوّرت مع الدّولة الحديثة مرتبطة بنظريّة العقد الاجتماعيّ، أو ما يسميه بعضهم بالعقد السّياسيّ، كما عند جون لوك [ت 1704م] “ليؤيّد الحكومة الدّستوريّة أو الملكيّة المقيّدة”، ويماثله جاك روسو [ت 1778م] “فيستخدمها ليؤيّد نظريّة السّيادة الشّعبيّة”، ونظّرها قبلهم توماس هوبز [ت 1679م]، “ويطرح روسو مفهومه للحكم الدّيمقراطيّ المباشر القائم على سيادة الشّعب، ويرفض وجود سلطات تشريعيّة وتنفيذيّة مستقلّة عن الشّعب”.
ويرى صادق جواد “في عصر التّنوير حدثت نقاشات متنوعة في مسألة الحكم، وكان من هؤلاء الفيلسوف الفرنسي مونتسكيو [ت 1755م]، وقد كان من الأرستقراطيين، فلمّا نظر إلى مسألة الحكم فوجد أنّ جمع السّلطات في مكان واحد يؤدي إلى شيء من التّركيز السّلبيّ للسّلطة، فلابدّ من فصل السّلطات، ويوجد بينها قنوات للتّعاون”، لهذا اهتدى العالم بعدا عن الاستبداد إلى فصل السّلطات التّشريعيّة والتّنفيذيّة والقضائيّة، فكان البرلمان سّلطة تّشريعيّة ورقابيّة من الابتداء، لرسم القوانين، ومحاسبة السّلطة التّنفيذية ومتابعتها، وحفظ المال العام، وفق دستور ونظام تعاقديّ واضح.
وتشكل المجتمع المدنيّ في ظلّ الدّولة القطريّة الحديثة على المفارقة بين المجالس البلديّة والمجالس النّيابيّة، فالمجلس البلديّ معنيّ بالخدمات البلديّة من حيث سياساتها، وتنفيذ مرافقها، ومتابعة خططها، فهي أقليميّة محدّدة من الابتداء، على مستوى ولاية أو منطقة أو محافظة، وتكون بالانتخاب أيضا.
وأمّا المجالس النّيابيّة فوضعها أكبر وأدق؛ لأنّها كما أسلفنا سطلة مشرّعة للقوانين، ومراقبة للتّنفيذ، ومتعلّقة بالدّولة القطريّة ككل من حيث الابتداء؛ لأنّها تعاقد ضمنيّ أو دستوريّ بين الشّعب والدّولة هذا من جهة، ومن جهة أخرى اختلف قديما هل المجالس النّيابيّة متعلّقة بالأفراد أو بالأحزاب، ظهر هذا الاختلاف مبكرا في الدّولة العربيّة الحديثة كما في كتاب “البرلمان الأمثل” لرشدي معلوف [ت 1980م]، والّذي خرج في طبعته الأولى عن دار المكشوف ببيروت عام 1943م، ولا يعني ارتباطها بالحزب أنّها غير مرتبطة بالأفراد، ولكن كناحيّة تنظيميّة.
ولمّا قامت الدّولة الحديثة في عُمان عام 1970م في عهد السّلطان الرّاحل قابوس بن سعيد [ت 2020م] لم يكن المجلس النّيابيّ ظاهرا من الابتداء، فغلب المجلس البلدي أو الخدميّ ، مع شيء من التّداخل بينهما في بعض الجوانب الجزئيّة، بداية في المجالس المتخصّصة حسب بعض الوزارات عام 1976م، ثمّ كان المجلس الاستشاريّ في 18 أكتوبر 1981م، منطلقا في الابتداء من الشّراكة بين الحكومة والمواطن، وكما يرى سعود الحارثيّ أنّ أعضاء المجلس الاستشاريّ في الابتداء كانوا “مختارين بالتّعيين، يتقاسمون بين الممثلين للقطاع الحكوميّ من بينهم وكلاء وزارات، وممثلين للمواطن من ذوي الخبرة وأهل الرّأي”.
حيث أنّ المتأمل لهذا المجلس غلب عليه رؤية المجلس البلدي أكثر منه برلمانيّا، لعدم وجود حينها نظام أساسيّ للدّولة حتّى عام 1996م، ولأنّ التّجربة النيابيّة كانت في بداياتها، والتّفكير الجمعيّ ارتبط بالخدمات أكثر منه تشريعا، وهذا أثر في العقل الجمعيّ، ورؤيته حول مجلس الشّورى لاحقا، والّذي تحوّل من المجلس الاستشاريّ إلى مجلس الشّورى عام 1991م، ثمّ أنّه “في عام 2003م كانت أول انتخابات عامّة تجري في السّلطنة بعد استكمال قاعدة النّاخبين وتعميم حقّ الانتخاب”، ثمّ تطوّر إلى مرحلة الأخذ بنظام المجلسين أي مجلس الشّورى ومجلس الدّولة تحت مظلّة مجلس عمان، ومنح مجلس عمان صلاحيّات تشريعيّة ورقابيّة.
ومع هذا التّطوّر التّشريعيّ والرّقابيّ إلّا أنّ العقل الجمعيّ لا زال يراوح مكانه في عدم القدرة على المفارقة بين المجلسين البلديّ والبرلمانيّ (الشّورى)، وكما يرى سعود الحارثيّ أنّه “ما زالت الثّقافة السّائدة لدى المجتمع – مواطنا وعضوا – ترتبط في نظرتها وتقييمها لأداء العضو ومسؤولياته ونشاطه بالقطاع الخدميّ وتحقيق مصالح المواطنين في الولاية الّتي يمثلها العضو … على شكل مشاريع ومرافق، أو معالجة مشاكل وقضايا تخصّ فئة أو فردا من المواطنين … فيتبناها بعض الأعضاء لأعراض دعائيّة وانتخابيّة … والّتي باتت المجالس البلديّة تمثله، [ليبتعد] عن عمله البرلمانيّ الحقيقيّ في مجاله التّشريعيّ والرّقابيّ”.
فالوعي الجمعيّ بحاجة أن يدرك أنّ العمل البرلمانيّ (الشّورى) يقوم وفق فلسفة البرلمان ذاته، إذ أنّه “هو صاحب القرار بحكم ممارسته للسّلطة التّشريعيّة، ودوره في مراقبة الحكومة ومحاسبتها … والمحافظة على المال العام”، ونجاحه كما يرى المركز العربيّ لتطوير حكم القانون والنّزاهة يتمثل في ثلاثة عوامل: أولا: “المحاسبة، فالدّيمقراطيّة لا تستقيم بدون محاسبة، ولا حكم رشيد بدون محاسبة، محاسبة الشّعب لأعضاء البرلمان، ومحاسبة البرلمان للحكومة، ومحاسبة الحكومة للأشخاص المسؤولة عن أدائهم”، وثانيا: “استقلاليّة البرلمان لكي يكون حرّا في ممارسة مهامّه المسؤول عنها تجاه الشّعب”، وثالثا: “النّزاهة في أداء البرلمان”.
وفي نظري إذا ما استثنينا الضّعف التّثفيفي البرلمانيّ، على المستوى الإعلاميّ والدّراسيّ، وما يقوم به المترشحون أنفسهم من دعايات ترويجيّة بعيدة عن العمل البرلمانيّ، غايتهم كسب الرّأي الشّعبيّ فقط، ولأنّ بعضهم حتّى على مستوى وسائل التّواصل يستغل بعض القضايا الدّينيّة أو المجتمعيّة لكسب قاعدة شعبيّة قببل الانتحابات أو حينها؛ هذا ساهم في غرس الرؤيّة السّلبيّة حول المجلس واختصاصه في العقل الجمعيّ.
إذا ما استثنيا هذين العاملين هناك ثلاثة أسباب رئيسة في نظري: الأول مسمّى مجلس الشّورى ذاته، فيه شيء من العموميّة، والّذي يتداخل مع المجلس البلديّ، وإذا كان التّحوّل من المجالس المتخصّصة إلى المجلس الاستشاريّ إلى مجلس الشّورى، فلعلّ الانتقال إلى مصطلح يضفي شيئا من الخصوصيّة البرلمانيّة قد يساهم في تحجيم الرّؤية الضّبابيّة في العقل الجمعيّ.
والثّانيّ كما يرى الحارثيّ أنّ “تصنيف الوزارات والمؤسّسات والمجالس الحكوميّة إلى سياديّة وخدميّة [زادت إشكاليّة ممارسة] المجلس لصلاحيّاته التّشريعيّة والرّقابيّة في ظلّ هذا التّصنيف”، فهذا يمكن ارتباطه بالمجالس البلديّة، إلّا أنّه يصعب ارتباطه بالبرلمان، لكونه مرتبطا بالتّشريع والرّقابة، وهذه الوزارات متداخلة، كما أنّ العديد من الوزارات السّياديّة فيها جوانب خدميّة متعدّدة أيضا.
والثّالث وهو المهم في نظري أي جعل ارتباط الحملة الانتخابيّة لمجلس الشّورى بالولايات لا بعمان ككل، فهذا ممكن تحقّقه في المجلس البلدي، لأنّها إقليميّة من الابتداء، وبما أنّ عمان كباقي دول مجلس الخليج العربيّ ربطت البرلمان بالأفراد لا بالأحزاب، فهذا يعني أن يكون العضو مرتبطا ترشيحه بالدّائرة الأوسع، ممّا يخلق تنافسا أكبر، ويعطي رؤية شموليّة في ربط المترشح ومنافسته على اعتبار الرّؤية البرلمانيّة، وليس على الرّؤية الخدميّة الإقليميّة على مستوى الولاية، مستغلّا حاجة الولاية خدميّا، وليس لتوفر الأدوات البرلمانيّة القادرة على العطاء التّشريعيّ والرّقابيّ فيه، هذا إذا ما استثنينا استغلال بعض المرشحين للجانب القبليّ أو المناطقي.
ويرى العضو السّابق لمجلس الشّورى توفيق اللّواتيّ في لقاء يوتيوبيّ معه أنّه يمكن على الأقل في المرحلة التّصحيحيّة القادمة أن تكون الحملة الانتخابيّة على مستوى المحافظات وليس الولايات، وهي مرحلة انتقاليّة جيّدة، خصوصا حال تفعيل المحافظات اليوم ودعمها، وإن كنت أرى تفكيرا – وقد يكون خاطئا – أن يكون على مستوى عُمان ككل، فمستوى المحافظات يبقي التّفكير الجمعيّ تفكيرا خدميّا لا برلمانيّا، لهذا الانتقال من الولايات إلى عُمان قد يعطي صورة أثر تقدّمية، ومع هذا تبقى فكرة، وأصحاب الاختصاص أعلم بالحال.
*المراجع:
– نظريّات الحكم والدّولة، محمّد مصطفويّ، ط مركز الحضارة، بيروت، 2015م.
– بين الإنسان والماهيّة، صادق جواد، ط روافد، بيروت، 2021م.
– الشّورى والتّطلعات المجتمعيّة، سعود بن عليّ الحارثيّ، لا ناشر، 2016م.
– البرلمان في الدّول العربيّة: رصد وتحليل، ط المركز العربيّ لتطوير حكم القانون والنّزاهة، بيروت، 2007م.