صحيفة قبس الأخباريّة 1444هـ/ 2023م
إذا وضعنا مقارنة بسيطة بين المذاهب الإسلاميّة والمذاهب المسيحيّة مثلا لن نجد ذلك الخلاف اللّاهوتيّ الكبير بين المذاهب الإسلاميّة، إذا ما استثنينا بعض الاتّجاهات الباطنيّة، والّتي لها رؤيتها في بعض الجوانب اللّاهوتيّة والطّقسيّة الّتي لا تتوافق مع الرّؤية التّقليديّة من حيث الابتداء، وهذه في جملتها قليلة العدد، ومسالمة بشكل كبير، وليست تبشيريّة.
بعد الانقسام السّياسيّ بعد مرحلة السّقيفة، وتشكل مدرسة الشّورى المقابلة للوراثة في ثلاث اتّجاهات رئيسة: الشّورى المطلقة عند الإباضيّة، والشّورى المقيدة بالقرشيّة عند الماتريديّة والأشاعرة وأهل الحديث، والشّورى النّصيّة كان النّصّ جليّا عند الإماميّة والجاروديّة والإسماعيليّة والنّصيريّة، أو خفيّا عند الزّيديّة، إلّا أنّ هذا أقرب إلى التّنظير منه التّطبيق الحرفيّ، والظّرفيّةُ الزّمكانيّة من حيث التّأثير والمصلحة مؤثرة على النّظريّة ذاتها، فالإمامة الإباضيّة في أكثر مراحلها التّأريخيّة أصبحت أقرب إلى الوراثة في القبيلة أو في البيت الحاكم كما عند اليعاربة، وتأثرت ضمنا بنظريّة التّغلّب، كما أنّ الشّورى المقيدة بالقرشيّة تأثرت بالوراثة منذ فترة مبكرة، وبنظريّة التّغلّب كما في العثمانيّة والدّويلات قبلها، واعتبرت القرشيّة قيدا ظرفيّا لا مطلقا منذ فترة مبكرة كما عند الجوينيّ [ت 478هـ] وابن خلدون [ت 808هـ]، وأصبح الكثير يقول اليوم بظرفيّتها، ولم تعد حاضرة مع تطوّر الفكر السّياسيّ السّنيّ، كذلك الشّورى النّصيّة بالنّصّ الجليّ توقف بعد عصر الغيبة الصّغرى، ممّا اضطر الإماميّة إلى القول بنيابة الفقيه بين موسع ومضيّق، إلى أن جاء الخمينيّ [ت 1989م] واعتبره نائبا مطلقا حتّى في الحكامة وإقامة الحدود، وهكذا الحال في الشّورى المقيدة بالنّصّ الخفيّ في البطنين، فقد تأثرت بالوراثة كما عند الدّولة المتوكليّة باليمن قريبا، هذا جميعه أصبح اليوم في الجملة أقرب إلى التّنظير؛ لأنّ الواقع يفرض ذاته، وبسبب وجود نظريّات كبرى ولدت في الغرب لها هيمنتها الفكرية على العديد من النّظريّات التّراثيّة والفقهيّة حتّى عند المسلمين.
وإذا جئنا إلى الخلاف الكلاميّ (اللّاهوتيّ) بين الخطين الاعتزالي والصّفاتيّ (أهل الحديث) وما بينهما كالأشاعرة، وتشكل المذاهب الكلاميّة من جدليّات القدريّة والجبريّة والجهميّة وحتّى جدليّة خلق القرآن وفق مدارس كبرى: المعتزلة والإباضيّة والشّيعة: زيديّة وإماميّة وإسماعيليّة، وسنيّة: ماتريديّة وأشاعرة وأهل الحديث [الصّفاتيّة – الحنابلة – السّلفيّة مؤخرا]؛ نجد الخلاف بينها لا ثمرة كبرى منه يقود إلى الصّراع والنّزاع، وذكرتُ ذلك في [التّفسر الإنسانيّ لسورة البقرة: مرقون] حيث قلتُ فيه: “الكثير من الخلاف بين المسلمين لا ثمرة له معنويّة واقعا، كالخلاف في الغيبيّات كرؤيّة الله تعالى مثلا، فكلّ الأطراف تدور بين فلكين، الفلك الأول عدم إنكار النّص، والفلك الثّاني البعد عن التّشبيه، فمن نفى الرّؤية لم يرد إنكار الرّوايات للهوى، ولكن جعل النّص القرآنيّ حاكما عليها، وخروجا عن التّشبيه في الوقت نفسه، ومن أثبتها لم يرد جعل الله مجسّما ومحدودا، ولكن وقف مع بعض الآيات الظّاهرة، وبعض الرّوايات، مع تعظيم الفريقين لله سبحانه وتعالى وتنزيهه، ودائرة التّعظيم هي الدّائرة الواسعة الّتي لو اشتغلنا بها ستضيق دائرة الخلاف يوما بعد يوم، وكذا الحال في قضيّة الخروج من النّار، فمشكلة ذلك كالأول، وهو الخلاف بين جعل ظاهر الرّوايات حجّة على المرويات خصوصا، وبين التّعلّق بهذه المرويات، ومع هذا سنجد الفريقين متفقين لا أحد منهم يريد أن يدخل اليأس في قلوب العباد، وأن يضيّق رحمة الله، وفي الوقت نفسه لا يريد أحد منهم فتح الباب للعصاة ليفعلوا ما يشاؤون … والحال نفسه في قضيّة الصّفات، فمن ضيّق لم يرد تعطيل صفات الله تعالى، ومن توسع لم يرد تشبيه الله بخلقه، ومراد الفريقين تعظيم الله تعالى في الوجهين، ومن الصّفات ينطبق على قضيّة خلق القرآن، فمن قال بأنّه مخلوق لم يرد إنكار كلام الله، ولكن خشي أن ينسب الصّوت والحروف والجلد إلى صفات الخالق الأزليّة وغير المحدودة، ومن نفى الخلق خشي أن يجعل صفة الكلام لله تعالى مخلوقة، وكلا الفريقين أخذ بظاهر بعض الآيات”.
وهكذا الحال في الجانب الفقهيّ سنجد المذاهب الفقهيّة التّسعة: الإباضيّة والزّيديّة والجعفريّة والحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة والظّاهريّة والإسماعيليّة متشابهة في كليّات الفقه، ومعظم جزئياته، والخلاف طبيعيّ بسبب الآلة وبعض القواعد، والتّعامل مع النّصّ، والتّأثر الجغرافيّ والمذهبيّ مع النّصّ، إلّا أنّها متقاربة بشكل كبير في أغلب جزئيات الفقة.
إنّ أكبر مشاكلنا الّتي حاولت إحياء الطّائفيّة – لكنّها فشلت في الجملة في نظري – تعود إلى ستة أسباب: التّراث ومحاولة إحيائه، والاستعمار والعولمة، والسّياسة والدّولة القطريّة، والكليّات والحوزات الدّينيّة، والكاسيت وما بعده، والتّبشير.
أمّا المشكلة الأولى: التّراث ومحاولة إحيائه، فهذا تزامن خصوصا مع نهايات القرن التّاسع عشر الميلاديّ وبدايات القرن العشرين، فمع توفر الطّباعة كان إخراج المخطوطات من حيزها الضّيّق إلى عالم جغرافيّ واسع، وأصبحت متاحة في المكتبات العامّة والتّجاريّة، فهذه كانت أقرب إلى خصوصيّات المذاهب الجغرافيّة والزّمانيّة، إلّا أنّها تحوي من الرّؤى الّتي لا يتقبلها حتّى المذهب ذاته، ولكن بدل قراءتها ظرفيّا، ونقدها حتّى من أصحابها، قام أصحابها يبررون لها، ويبحثون عن سوءات المذهب المقابل من خلال تراثه، فهذا ساهم في إحياء الطّائفيّة، وكتبت في هذا مقالة بعنوان: “قصّاصات الكتب الصّفراء” مدرجة في فقه التّطرف.
والمشكلة الثّانية وهي الاستعمار والعولمة، فالآخر قرأ تراثنا بعمق، ولكن قد تكون له مآرب أخرى، استطاع استثمارها سياسيّا كما في داعش والحشد الشّعبيّ والقاعدة، على أنّ العولمة أيضا جعلت المخفيّ ظاهر، والمستور مكشوفا، فلم يعد هناك ما يستدعي إخفاءه، حتّى المذاهب والتّيارات الباطنيّة أصبحت مكشوفة لدى الجميع، ولكن كيف نستثمر العولمة في صالحنا لا في تسخيرها في تأجيج الخلاف والصّراع، ولعلّ هذا يصعب الإجابة عنه الآن، ولكنّي حاولت الإجابة عليه في “لاهوت الرّحمة” من خلال الأنسنة والهويّة والظّرفيّة.
والمشكلة الثّالثة السّياسة والدّولة القطريّة فهذه تزامنت مع تشكل الدّولة القطريّة أولا، وسقوط الاتّجاهات الاشتراكيّة ثانيا، إلّا أنّ تشكلها اقترب من تشكل الهويّة المذهبيّة أكثر منه الهويّة الوطنيّة، وساهم في ذلك الانتعاش البترولي، لتولد الصّحوة كجانب إحيائي مذهب أحاديّ، أكثر منها إحياء إسلاميّا بالصّورة الأوسع، لهذا رأينا في هذه المرحلة ولادة الصّراع المذهبيّ من خلال التّأليف والأشرطة وغيرها، خصوصا ما بعد الثّمانينيّات من القرن العشرين.
والمشكلة الرّابعة الكليّات والحوزات الدّينيّة، فهذه للأسف كانت أقرب إلى المذهبيّة منها التّقارب المذهبيّ، وكانت مناهج مقارنة المذاهب كلاميّا وفقهيّا يدور حول الانتصار للمذهب الّتي تنتمي إليه الجامعة أو الكليّة أو الحوزة، وليس بالمعنى الأكاديمي الحر، فأخرجت مفرزات متعصبة للمذهب، كما أنّها لم تنفتح على القراءات المعاصرة، أو حتّى على الّذين يحملون همّا تجديديّا من داخل المذهب ذاته، إذا ما استثنينا نماذج جيّدة في الدّول المغاربيّة.
والمشكلة الخامسة الكاسيت وما بعده، أي مرحلة الفضائيّات والمواقع الالكترونيّة والبالتوك، وما صاحبها من مجلّات وكتيّبات ونشرات، فهذه وسّعت الخلافات المذهبيّة، وساهمت في انتشارها لشريحة أكبر.
والمشكلة السّادسة وهي التّبشير، على المستوى السّياسي بتوسعة الهويّة المذهبيّة لكسب ولاءات سياسيّة، أو لأجل تصدير ثورة الإسلام السّياسيّ، أو لأجل التّوسع المذهبيّ، ولا أدرى ما الفائدة من التّبشير المذهبيّ، والمجتمعات مؤمنة، مشتركة في الإيمان بالله والنّبوات والطّقوس، إلّا إذا اعتبرنا من يحمل همّ هذا أنّ مذهبه هو الصّورة المجردة للدّين الحقّ، وما خالفه أقرب إلى الهلاك تحت مظلّة الفرقة النّاجية، أو أقرب إلى الكفر كما عند بعض الغلاة، وهذه أزمة تؤثر في الاستقرار الوطنيّ، فمن حقّ الإنسان أن يتمذهب بما يراه، أمّا أن يظل التّفكير الجمعيّ سياسيّا أو دينيّا أو شعبويّا في دائرة التّوسع المذهبيّ، فهذه حالة غير صحيّة، وينبغي أن يستثمر هذا التّفكير في صناعة الإنسان وإحيائه والاهتمام به علميّا واجتماعيّا وإنسانيّا.
على أنني أكْبر جهود المفكرين والنّاقدين الّذين نقطف اليوم ثمرة جهودهم، من منتصف القرن التّاسع عشر، وفي مرحلة الصّحوة وحتّى اليوم، ولا أخصّ أحدا، فتحملوا في ذلك الإيذاء، إلّا أنّ جهدهم الشّخصيّ نرى أثره اليوم ما فشلت فيه العديد من ندوات ومؤامرات التّقريب، حيث نرى الجيل الجديد أكثر وعيا وانفتاحا على الآخر، ليس على المستوى المذهبيّ فحسب؛ بل على المستوى الإنسانيّ، فلا ينبغي أن يفتح المجال لمن يريد إرجاع العقل إلى صراعات مذهبيّة وطائفيّة، حتّى لا تكون فتنة أخرى، بل علينا أن نستمر في صناعة الوعي والجمال والإنسان.