جريدة عمان 1444هـ/ 2022م
كثيرا ما تحدث مغالطات في فهم الآخر، هذه المغالطات إمّا قصديّة لأسباب سياسيّة أو دينيّة مذهبيّة، بسبب الاستبداد أو التّعصّب، وإمّا لعدم الخلطة، وقراءة الآخر من الآخر ذاته، واليوم – بحمد الله تعالى – أصبح العالم مفتوحا على الجميع، فقراءة الآخر ليس بتلك الصّعوبة الّتي كانت بالأمس، ولهذا يُعذر السّابقون فيما لا يعذر به كتّاب اليوم ومثقفوهم، والمعنيون بالملل والنّحل والأديان والمذاهب، وأقسام الأديان والمذاهب في الجامعات والكليات، فلا يعقل من قسم الأديان أن تدرّس الأديان والمذاهب الأخرى اليوم مثلا من كتاب الملل والنّحل لأبي الفتح الشّهرستانيّ [ت 548هـ]، والفصل في الملل والأهواء والنّحل لابن حزم الأندلسيّ [ت 456هـ] ونحوها، كما لا يعقل أن يعتمدها الباحث أو الطّالب كمادّة رئيسة في قراءة وفهم الآخر، نعم، يمكن الاستئناس بها، ولكن تصديقها يكون ممّا يراه أتباع الدّين والمذهب نفسه؛ لأنّ هذه الكتب وغيرها – كما أسلفت – كتبت في فترة ليست الخلطة فيها بتلك السّعة، كذلك غالبها قامت على الرّواية، مع طبيعة انطلاقة العديد من المؤلفين مذهبيّا أو دينيّا من حيث الابتداء، لهذا تقرأ في ظرفيّتها المعرفيّة، لا أن تجعل أساسا للمعرفة اليوم في تقاربها وتطوّرها.
ومن هذه المغالطات مثلا ما نراه فيما كتب وقيل عن الزّرادشت قديما، ويكرّر بسببها حديثا، ومنها أنّ الزّرادشت يقولون بتعدّد الآلهة، ويعبدون النّار، ولهذا حاولتُ أن اقترب منهم من خلال زيارتين، الأولى كانت مع الزّرادشت البارسيين، وذلك من خلال زيارة معبد زرادشتيان في شيكاغو بالولايات المتحدة الأمريكيّة عام 2018م، والتقيتُ فيها بالأستاذ هوشدار موبد، ومؤبد تعني العالم عندهم، والثّانية مع الزّرادشت الإيرانيين وكانت قبل أيام مع الدّكتور مهرباك بولادي في يزد بالجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة، ويطلق عليه موبد الكبير أي العالم الكبير، وتعمّدت في اللّقاءين أن أطرح ذات السّؤالين؛ لأنظر في رأي الزّرادشت بشقيهم الإيراني والبارسي.
وعموما خلّد القرآن الكريم الزّرادشت باسم المجوس في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [الحج: 17]، ومن لفظة المجوس سنجد العديد من المغالطات، ففي جامع البيان للطّبريّ [ت 310هـ] مثلا عن قتادة [ت 118هـ] “والـمـجوس: يعبدون الشّمس والقمر والنـّيران”، وبعده السّمرقنديّ [ت 375هـ] في بحر العلوم “والمجوس يعني: عبدة النّيران”، ولهذا شاع بعد ذلك في كلام المفسرين أنّ المجوس هم عبدة النّار، كما عند الفيروز آباديّ [ت 817هـ[ في تفسير القرآن “والمجوس عبدة الشّمس والنّيران”، والشّوكانيّ [ت 1250هـ] في الفتح القدير “والمجوس هم الّذين يعبدون النّار”، ونقل قطب الأئمّة [ت 1332هـ] في هميان الزّاد عنهم “والمجوس عبدة النّار والشّمس والنّهر والنّجوم، وينكحون ذوات المحارم، ويأكلون ميتات البهائم”، ومن المتأخرين الطّاهر ابن عاشور [ت 1393هـ] في التّحرير والتّنوير “فأمّا المجوس فهم أهل دين يثبت إلهين: إلها للخير، وإلها للشّرّ”، “فكان أصل المجوسيّة هم أهل الدّيانة المسماة: الزّروانيّة، وهي تثبت إلهين هما (يَزدَان) و(أهْرُمُن)، قالوا: كان يَزدان منفردا بالوجود الأزليّ، وأنّه كان نُورانيّا، وأنّه بقي كذلك تسعة آلاف وتسعين سنة، ثمّ حدث له خاطر في نفسه: أنّه لو حَدَث له منازع كيف يكون الأمر فنشأ من هذا الخاطر موجود جديد ظلماني سمي (أهْرُمُن) وهو إله الظلمة مطبوعا على الشّرّ والضّرّ”، ونسب إلى الزّرادشتيّة فرقتي المانويّة والمزدكيّة.
لهذا نجد جلّ التّفاسير تنقل عن بعضها، كما نرى ذلك في كتب الكلام والملل والنّحل والتّأريخ، وجعل المتقدّم أصلا يتوقف عنده ويستنسخ مع بعض الزّيادات، وهذا ما رأيناه عند لفظة المجوس، وكأنّها قرينة لعبادة الشّمس والكواكب والنّجوم، بيد أنّ المجوسيّة في الأصل مكوس في الفارسيّة القديمة، يقول مهرباك بولادي “أصل المجوس هنا مكوس، فقلبت الكاف جميا في العربيّة، والمكوس تعني العالم الكبير عند الزّرادشت، أو رمزا للزّرادشت ككل في تلك المرحلة، وبعضهم ينسبون المصطلح إلى الّذين يعبدون الكواكب والنّجوم، أو ممّن يعبد النّور، وعبادتها بالمعنى الحرفيّ خطأ، نعم هناك من يعبدها بمعنى أنّهم يعبدون الله المتصف بكونه نور الأنوار كما عند قدماء الزّرادشت”.
ولهذا يجمع الزّرادشت الإيرانيون والبارسيون على أنّ الزّرادشتيّة لا تقول بمثنويّة الإله، وإنّما هي من الأديان التّوحيديّة، يقول مهرباك بولادي “النّبيّ زرادشت كان موحدا، والدّيانة الزّرادشتيّة ديانة توحيديّة، ويعتقدون بالإله الواحد (أهورامزدا) العالم بكلّ شيء، والقادر على كلّ شيء، واجب الوجود، وهي مطلق في وجوده بلا حدّ، وقد خلق العالم، وخلق كلّ شيء بصفة الخير والحسن، ولا يوجد في العالم صفة الشّر، لكنّ الإنسان في فكره هو من يفعل الخير والشّر، وعن طريق فكره قام بتوصيف ذلك، فينسب الشّر إلى الإنسان وليس إلى الله”، ويقول هوشدار موبد “أنّ النّاس قبل زرادشت كانوا يعبدون النّار والتّربة والزّلازل ونحوها، فجاء زرادشت ونقلهم إلى عبادة الإله الواحد”.
وأمّا ما ذكره ابن عاشور أنّ “أصل المجوسيّة هم أهل الدّيانة المسماة: الزّروانيّة، وهي تثبت إلهين هما (يَزدَان) و(أهْرُمُن)”، ويرى مهرباك بولادي “الإنسان نفسه إمّا أن ينظمّ تحت طائفة الخير أو الشّرّ، والإنسان الخيّر، أي الجامع بين الخير تفكيرا وعملا يسمّى أورمزدي، وعكسه الجامع بين التّفكر السّيء وفعله يسّمى أهريمزدي، أي إنسان شيطانيّ أو سيء، فأهريمزد صفة للإنسان وليس للإله (أهورامزدا)، فالبعض خلط بين صفة الإنسان (أهريمزد) وصفة الإله (أهورامزدا)، فنسبوا إلى الزّرادشتيّة أنّهم يقولون بإله الخير وإله الشّرّ”.
والزّرادشت لا يعبدون الكواكب، وهذا نسب أيضا خطأ إلى الصّابئة المندائيّة، وليس محلّ بحثه هنا، وأشرت إليه في كتابي التّعارف، إلا أنّ ما نسب إلى الزّرادشت – كما رأينا – من عبادة النّور أو النّجوم عنصر النّار كما أسلفنا، يقول مهرباك بولادي ” النّار هي رمز النّور والطّهارة والنّقاء، ويسمّى أهورامزدا نور الأنوار، فهو نور في حقيقته، ويخلق النّور، ويعطي النّور أيضا، فللنّور رمز في السّماء وهي الشّمس، ورمز في الأرض وهي النّار، فنحن لا نعبد النّار، ولكنّها آية كبرى للنّور الإلهيّ، فتقديسنا لها من باب التّشبه بعنصر النّقاء والطّهارة من الأوساخ والنّجاسات المعنويّة لإذابتها، وكونها تشتعل إلى الأعلى لنكون دائما في طريق التّطوّر والرّقيّ والصّعود إلى الله تعالى، والنّار ليست قبلة لنا، وإنّما النّور قبلة لنا، وإذا لم يوجد نور في المكان الّذي نعيشه؛ يهمنا النّور الّذي قي باطننا”، ويقول هوشدار موبد أنّ “النّار هي رمز للنّور، والنّور قبلة لهم، ففي الظّهر مثلا يستقبلون الشّمس، وفي اللّيل يستقبلون الإضاءة أو النّار”، لكنّهم لا يعبدونها.
وما ذكره ابن عاشور أيضا من فرق الزّرادشت المانويّة والمزدكيّة فيرى مهرباك بولادي “لا يوجد في الزّرداشتيّة مذاهب كما في المسيحيّة والإسلام مثلا، وأمّا المانويّة والمزدكيّة وغيرها لا علاقة للزّرادشتيّة بها، نعم استفادوا من بعض الأشياء من الزّرادشتيّة، وأضافوا إليهم هم أشياء أخرى، والبارسيون في الهند من الزّرادشت لا يختلفون عن الزّرادشت الإيرانيين”.
ولهذا نجد في الأدبيات الرّوائيّة كما في موطأ مالك [ت 179هـ] – بعيدا عن ظرفيّة الرّواية – أنّ عمر بن الخطاب [ت 23هـ] ذكر المجوس فقال: “ما أدري كيف أصنع في أمرهم؟ فقال عبد الرّحمن بن عوف [ت 32هـ]: أشهد لسمعت – رسول الله صلّى الله عليه وسلّم -: يقول: سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب”، فكانوا يجعلونهم في منزلة أهل الكتاب؛ للعديد من المشتركات كالإيمان بالله، ووجود كتاب مقدّس لديهم.
والحديث عن الزّرادشتيّة يطول بطبيعة الحال، وما أردت الإشارة إليه أنّ الكثير من المغالطات في الكتب التّراثيّة الإسلاميّة وغيرها اتّجاه الآخر المختلف، ليس على مستوى الأديان فحسب؛ بل حتّى على مستوى المذاهب الإسلاميّة ذاتها، فلا ينبغي اليوم أن تجعل هذه الكتب أصلا لفهم الآخر، ولا ينبغي أن تلقن هكذا للطّالب والمتلقي بعيدا عن روح النّقد والبحث والتّثبت، وعلى أن نتعامل معها وفق ظرفيّتها، لا وفق ظرفيّة زمننا، على أنّها أيضا موروث يعطي أبعاد ظرفيّة فزمن في لفهم الآخر، ولكنّها ليست أصلا لفهم الآخر؛ لأنّ الآخر يفهم ويدرك من الآخر ذاته، لا من غيره أيّا كانت مكانته القدسيّة والعلميّة.