المقالات الدينية

الوقف في الإسلام ودوره في تنمية المجتمع المدنيّ

الوقف في حقيقته قديم في التأريخ، فهو وجد مع الحضارات والأمم الأخرى، وعندما نزل القرآن الكريم حث على تحقيق البعد المجتمعي بالنفقة، وحث الإنسان على السعي في الأرض والكسب منها، وأعطى للعقل البشري الحرية في الإبداع المالي والاقتصادي، وفي المقابل نهى عن الظلم وأكل مال الناس بالباطل، واستغلالهم سلبيا لمصالح فردية أو جماعية بغير حق أو عدل.

والقرآن ربط بين البعد العبادي الشمولي بالبعد المجتمعي ومنه بعد الإنفاق، حتى لا تقتصر الشريعة في مفهوم البعض على الصلوات والأذكار، فيتصور الدين محصورا فيها، حيث يقول سبحانه: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ.

والوقف إن لم يرد صراحة في القرآن الكريم إلا أنه يدخل ضمن الصدقات، ودل عليه التطبيق النبوي، ومن ذلك رواية عبد الله بن عمر قال: أصاب عمر أرضًا بخيبر فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أصبت أرضًا بخيبر لم أصبْ قط مالًا أنفس عندي منه، فما تأمرني فيها؟ قال: إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها، فتصدق عمر أنه لا يباع أصلها ولا يوهب ولا يورث في الفقراء والقُربى والرقاب وفي سبيل الله والضيف وابن السبيل، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، أو يطعم صديقًا غير متمول فيه.

والوقف يعرف لغة بالحبس، واصطلاحا بتحبيس الأصل وتسبيل الثمرة، وما يهمنا في هذه المطوية كيف نستطيع أن نفعّل الوقف اليوم في مؤسسات العمل المدني، وقد كان سابقا الوقف عاملا مهما في المال العام والإصلاح المجتمعي من خلال إذابة الفوارق بين طبقات المجتمع، فضلا عن الجانب التعليمي والمعرفي، وتزويج الشباب، وتوفير المسكن وقضاء الديون لذوي الحاجة والمسكنة.

ولا شك أنّ أيّ عمل مجتمعي يشمل الهدف والغاية ثم الوسائل المتاحة وبعدها التقنين وآلية التطبيق.

أمّا مؤسسات العمل المدني والتي يشترك فيها الشعوب مع المؤسسات المدنية الرسمية فتتمثل في الغايات والأهداف التي يمكن أن يحققها الوقف من خلال تسبيل المنفعة ولفترة أطول، لذا فهي عديدة ومتعددة ويمكن أن نضرب بعض النماذج لتقريب الصورة:

أولا: غاية نشر المعرفة والتنوير المعرفي، وهذه بلا شك ستتعدد وسائلها، بداية من الحضانة والطفل وحتى القضاء على الأمية عند كبار  السن، ويدخل في هذا إعانة ذوي الدخل المحدود في مواصلة دراساتهم في الدبلوم والدراسات العليا، كذلك مساعدة ذوي الاحتياجات الخاصة، مع وجود المراكز المعرفية كمراكز حفظ القرآن وتدبره وتعليمه، ومراكز المحاضرات الأدبية والنقدية والعلمية وغيرها، ومراكز الاختراع والبحث العلمي، والجوائز والكراسي العلمية والمعرفية.

ثانيا: غاية المراكز الترفيهية والاستغلالية لأوقات الشباب، ويدخل فيها البرامج الرياضية للفتيات والفتيات، والمسابقات المتعددة والمتنوعة، وهذه بذاتها تساهم في القضاء على العديد من الآفات الشبابية كخطر الإدمان والمخدرات.

ثالثا: غاية الإعانة للفقراء والمساكين والمرضى وابن السبيل، والغارمين في الديون، وهذه يدخل فيها التخفيف والعلاج أيضا، عن طريق الجمعيات المدنية المؤهلة للعمل لا المقتصرة فقط عند العطاء القاصر، حتى لا ينتج جيل متواكل معتمد على غيره.

رابعا: غاية تفريج الكرب عن المساجين، وإرجاعهم إلى أهليهم مع تأهيلهم، وحل مشاكلهم وقضاياهم المختلفة.

خامسا: غاية التثقيف الصحي والاستهلاكي والقضاء على الأمراض المتعددة، والعادات السلبية، من خلال إيجاد مراكز متخصصة عن طريق الوقف نفسية كانت أو صحية.

سادسا: غاية تطوير الناس إداريا وإنتاجيا، وعلاج المشاكل الإدارية التي يعاني منها فئة من الناس، سواء على مستوى الأسرة أم المجتمع بمؤسساته المختلفة.

سابعا: غاية العلاج النفسي، وتنمية العلاقات الاجتماعية، وعلاج القضايا المتعلقة باجتماع الناس كالمسنين والأرحام وقضايا الزواج.

ثامنا: غاية قضايا المرأة والزوجة والأمومة والأطفال وقضاياهم الخاصة.

فإذا فقهنا الغايات المرجوة من الوقف مدنيا هنا سنفقه الوسائل المتاحة وفق قانون مدني منظم، بين العمل المدني المجتمعي العام للجميع، وبين العمل المدني المقنن من قبل المؤسسات الحكومية المنظمة والراعية في الوقت نفسه.

والمهم هنا أمران: الأول إشراك المجتمع وحتى الصغار في البعد المجتمعي ومنه الوقف، لكي يتعودوا عليه، وينشؤوا وفق الجماعة، لا وفق الذات وأنانية الفرد.

والأمر الثاني التشجيع المالي والمعنوي من المجتمع، سواء على المستوى المدني العام من قبل أفراد المجتمع، أو من قبل الحكومة والجهات المختصة النائبة عن عموم الناس في خدمة المجموع.

ولقد تقدّم اليوم العمل المدني في مؤسساته المدنية، من هنا يأتي الجانب التقنيني ليتحول العمل الوقفي من جانب عشوائي يقوم على أشخاص يضعف بكسلهم، إلى عمل مؤسسي مقنن يحفظ للناس أموالهم، ويحقق الغاية لأجيال مستمرة، وبذاته أيضا يتوافق مع المتغيرات الزمانية والمكانية.

وهذا بدوره يحقق للوقف بعده في خدمة المجتمع المدني، ويكون مساهما في الرفع من الجانب الاقتصادي، والإصلاح المجتمعي، وفق عمل مؤسسي منظم ومقنن، وفيه مساحة واسعة من الإبداع والشراك المجتمعي.

جريدة عُمان 1436هـ/ 2017م

السابق
المناضلة العراقية وداد وحرب الجبل الأخضر 1957م
التالي
جيفارا مناضل أم إرهابي؟ قديس أم نبي أم ملحد؟
– تنويه:

عدد من الصور المستخدمة للمقالات مأخوذة من محرك google

اترك تعليقاً