المقالات الدينية

العشر الأواخر من رمضان

المتدبر في آيات الصّيام في القرآن الكريم يجد تقاربا كبيرا بين رمضان وحياة الإنسان، أي كأنّ رمضان تجسيد صغير لحياة الإنسان السّريعة، فيقول الله سبحانه وتعالى: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة/ 184]، فهذه الأيام معدودة يعدّها الإنسان، فبالأمس ينتظر هلاله، وما أن يدخل الشّهر إلا وينتصف، وهكذا يبدأ في العدّ التّنازليّ، وهكذا حياة الإنسان من إن يولد إلا ويرى نفسه فتيا، ثمّ مرحلة الشّباب والأربعين، وهكذا يبدأ العدّ التّنازليّ.

وقد درج المتقدمون إلى تقسم رمضان ثلاثا لظاهر رواية سلمان الفارسيّ [ت 33هـ]: وهو شهر أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النّار، وهي وإن كانت ضعيفة السّند، إلا أننا نلتفت إلى المصداق وهو التّقسيم الثّلاثيّ، وهذا يتوافق مع المراحل الثّلاثة الّتي يعيشها الإنسان عادة كما يظهر من قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الرّوم/ 54]، فهنا مراحل الحياة: الضّعف والقوة ثمّ الضّعف، ومع هذا لا يشعر الإنسان بمرورها: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ، قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ} [112 – 113].

وإذا جئنا نتأمل آيات الصّيام أيضا نجدها ذاتها ثلاثا، والعجيب أنّ الله تعالى يختم الثّلث الثّاني ويفتتح الثّلث الأخير بقوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة/ 186]، فهنا يظهر سبحانه القرب الإلهيّ من عباده، وهذا لحكمة أنّ الإنسان إذا قصر في الثّلثين فعنده الثّلث الأخير، وفضله عند من أحسن فيه كبير، ويجسد هذا حياة الإنسان: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} [الزّمر/ 35 – 45].

فالعشر الأخير من رمضان وقفة ختامية لمن أحسن فيها؛ لأنّ المنظور في رمضان هو الله وحده لا شريك له، وليس رمضان ذاته، فرمضان مخلوق زمنيّ لا ينفع ولا يضر، فالمنظور إليه في أول رمضان هو الله المنظور إليه في وسطه وفي آخره، فلا ييأس المرء من روح الله، لأنّ رحمته سبقت غضبه، وعفوه تقدّم على عذابه.

فمن أحسن في أول رمضان فليواصل، ومن قصر فليصلح، ومن أساء فليرجع ولو بقي ساعة من نهاره، كما أنّ الإنسان في عمره كذلك، من أحسن في شبابه فليثبت وليواصل، ومن قصر وأساء فليتب وليرجع وليصلح!!

واشتهر في العشر الأواخر في الأدبيات التّراثيّة الاعتكاف في العشر الأخير أو بعضها، والاعتكاف في القرآن كما أشرتُ في كتابي أيام رمضان كما في قوله تعالى: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة/ 125]، فالمقصود بالعاكفين حسب المشهور عند أهل التّفسير بالمقيمين فيه، أي عكس الزّائرين أو الأفاقيين، وقيل يقصد به الزّائرين الملازمين له لفترة من الزّمن، فعن عطاء [ت 135هـ] في قوله: والعاكفين، قال: من انتابه من الأمصار فأقام عنده، وقال لنا ونحن مجاورون: أنتم من العاكفين، وعن ابن عباس [ت 68هـ] قال: إذا كان جالسا فهو من العاكفين.

أما قوله تعالى: {الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج/ 25]، فالعاكف هنا أهل مكة والباد النّازل بمكة، فهم سواء لا فرق بينهم، وهذه أهم المقاصد التي أرادها الله تعالى في بيوته وفي العبادات وهي تحقيق المساواة بين النّاس، ومنهم من رأى هم سواء حتى في المنازل، لذا ذهب بعض المتقدمين أن جميع دور مكة وقف لا يباع ولا يؤجر، وهذا المذهب شبه انقرض!

أما آية سورة النّور: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ، رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَار} [النّور/ 36 – 37] فلا تدل بحال على الاعتكاف، عدا أنّها تشير  إلى حال بيوت الله تعالى من ملازمة الذّكر  والعبادة فيها.

و يبدو  لي والله أعلم أنّ الاعتكاف المراد به في آيات الصّيام: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة/ 188]، المراد به الملازمة، أي كانوا كثيري الملازمة للمسجد في رمضان، وقد كانت المرأة حينها في عهده عليه الصّلاة والسّلام تشارك الرّجل في المسجد، ولم تمنع أو تعزل بحاجز إلا متأخرا، وقد كانت تصلي في نفس المكان الذي يصلي فيه الرّجال، إلا أنّها تصلي في الخلف.

إلا أنّ الإقبال إلى المسجد في رمضان له جوانبه الجميلة في المراجعة الذّاتيّة والمجتمعيّة، أمّا من حيث المراجعة الذّاتيّة فالإنسان بحاجة إلى فرصة ولو في العام مرة واحدة يراجع فيها ذاته، ويقلب أوراقه، ويجدد علاقته مع الله أولا، ثمّ مع نفسه والنّاس من حوله، ورمضان فرصة كبيرة، والمسجد مكان مناسب للتّفرغ ومراجعة الذّات، ولهذا تناسب خصوصا مع العشر الأخير من الشّهر الفضيل.

وأمّا المراجعة المجتمعيّة فتتمثل في العلاقات الأسريّة والاجتماعيّة في القرية أو المجتمع الواحد، فطبيعة الحياة تورث الأحقاد والكراهية، ويظهر بذلك الحسد والعجب والكبرياء، وينتج عنه الظّلم والقطيعة، بداية من علاقة الفرد بوالديه وأرحامه، إلى زوجه وأولاده، ثمّ جيرانه وأصدقائه وأهل مجتمعه ومن يعمل معه، كلّ هذا يحتاج من الإنسان أن يراجع أوراقه من حيث الفرد بإصلاح العلاقة، وتصفية المياه لتجري بشكل طبيعي بلا كدر يعوقها.

ومن حيث المجموع لينطلق المجتمع إلى إصلاح ذات البين، وليكون في جوهر مجتمع نصح وإصلاح، لا مجتمع فرقة وشقاق وبغضاء، {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات/ 10].

ولا شك أنّ رمضان والاعتكاف في المساجد بملازمتها فرصة في مراجعة الذّات ومراجعة أوراق المجتمع، ويترتب على هذا أيضا مراجعة الجانب الطّبقيّ بين فئات المجتمع، لتتشكل الصّورة المجتمعيّة الجميلة، ويكون ختام الدّورة السّنوية مسكا يستقبل به المسلمون عيدهم وعامهم الجديد.

ملحق رمضان، دائرة الإعلام بوزارة الأوقاف 1439هـ/ 2018م

السابق
مع ليلة القدر
التالي
تأريخيّة مؤسسات المجتمع المدنيّ ودورها في تنميّة المجتمع  (كتاب المجتمع المدنيّ العمانيّ نموذجا)
– تنويه:

عدد من الصور المستخدمة للمقالات مأخوذة من محرك google

اترك تعليقاً