المقالات الإجتماعية

سراج لدعم التّعليم في عمان

جريدة عمان، 16 صفر 1446هـ/ 20 أغسطس 2024م

ارتبطت الشّعوب منذ القدم بالوقف، وأصبح جزءا يعطي ضمانا لاستمراريّة الجوانب الأمنيّة العسكريّة والخدميّة، فكما أنّ هناك أوقافا للعسكر ولوازمهم، توجد كذلك أوقاف مختلفة ومتنوّعة في جوانب خدميّة، من هرمها الأعلى وهو الإنسان عقلا وبدنا، إلى أوقاف الحيوانات والطّيور والقطط وما يتعلّق بالقرى والمدن والزّروع.

هذه الأوقاف أبدع فيها المسلمون قديما، واستفاد من تقنينهم لها الغربيون، ولا زالت عشرات الأوقاف في العالم الإسلامي عمرها قد يتجاوز ألف سنة وأكثر، ومن اهتمامهم بالوقف كان التّعليم ونشر الكتاب والمعرفة قائما عليه، كأوقاف الأزهر والزّيتونة والحرمين الشّريفين وغيرها من المؤسّسات التّعليميّة.

والعمانيون أدركوا أهميّة الوقف في الجانب التّعليميّ منذ فترة مبكرة، مثلا كما في اللّباب المنسوب إلى الشّيخ مهنا بن خلفان البوسعيديّ (ت 1250هـ) “أنّ الإمام سيف بن سلطان اليعربيّ (ت 1123هـ/ 1711م) أوقف تسعة وثلاثين أثرا من مائة فلج دارس بنزوى للطّلاب وفق ثلاثة أقسام: الأول ينفق على طلبة العلم، والثّاني لطّلاب العلوم الأخرى، والثّالث لحفظة القرآن”، كما أوقف بلعرب بن سلطان (ت 1104هـ/ 1692م) حصن جبرين في بهلا ليكون  “مدرسة تخرّج منها الكثير من العلماء مثل الشّيخ خلف بن سنان والشّاعر الحبسيّ”، كما أوقف السّلطان برغش بن سعيد (ت 1305هـ/ 1888م) جميع مطبوعات المكتبة السّلطانيّة لطلّاب العلم.

كما ساهم الأفراد عموما والتّجار العمانيون وسلاطين زنجبار خصوصا في دعم أوقاف وكالة الجاموس في مصر لخدمة المتعلّمين، والّتي أسّسها الشّيخ سعيد بن عبد الله الجادوديّ من تجّار جربة عام 1494م، وسميّت الوكالة “لأنّها تشتغل كوكالة تجاريّة، ريعها يقدّم لخدمة طلبة العلم”، ويقال “إنّ سبب تسميتها بوكالة الجاموس أنّ جلد الجاموس كان أحد السّلع والبضائع الّتي كانت تتاجر فيها هذه الوكالة”، “وتقع الوكالة في الحيّ الطولونيّ قرب جامع أحمد بن طولون” في القاهرة، ويرى الباحث سعيد بن سليمان العيسائيّ في مقالته في مجلّة الثّقافيّة العمانيّة أنّه “يتضح صلة عمان والعمانيين بهذه الوكالة منذ زمن بعيد … وكانت تدرس في حلقات العلم بهذه الوكالة بعض الكتب الدّينيّة لعدد من العلماء الجزائريين والعمانيين، كما قام عدد من سلاطين زنجبار بالتّبرع لنسخ عدد من المخطوطات الدّينيّة لعلماء عمانيين وجزائريين كذلك، ووقفها على طلاب العلم الدّارسين في الأزهر، والقاطنين بهذه الوكالة، ودرس عدد من الطّلبة العمانيين من الرّعيل الأول الّذين ذهبوا إلى الدّراسة في الأزهر في حلقات هذه الوكالة، واستفادوا من مكتبتها”.

وعلى مستوى الأفراد كان دعم وقف التّعليم حاضرا في الوصايا الفرديّة، من ذلك مثلا وصيّة الشّيخ خميس بن سعيد الشّقصيّ (ت ؟) “بسم الله الرّحمن الرّحيم: ليعلم من يقف على كتابي هذا من المسلمين، بأنّي قد أوصيت بجميع كتبي الّتي أخلفها بعد موتي أن يتعلّم منها المتعلّمون من ذرّيتي، وغيرهم من المسلمين، فإذا ذهب المتعلّمون من ذرّيتي وانقرضوا؛ فهي على رأي أهل العلم والصّلاح من الأفاضل، أفاضل أهل زمانهم، وقد أوصيت بنصف أثر ماء من مائي من الميسر من سوني من الرّستاق، يصلح بغلّته ما خرب من هذه الكتب، ويجدّد منه ما رث، وصار مؤبدا إلى يوم القيامة، ونصف هذا الأثر يخرج على نظر الوصي وصيتي والبالغ الحاضر من ورثتي، وما فضل من غلّة هذا نصف أثر الماء يشتري به قرطاس، ويستأجر به على النّسخ وتجليد ما ينسخ من كتب الأثر الّذي في الشّريعة، ويكون زيادة على هذه الكتب المذكورة، وكان تمام كتاب هذه الوصيّة، ضحى الجمعة الشّريفة لثمان ليال بقين من شهر جمادي الآخرة من سنة سبعين وألف سنة من الهجرة النبويّة، كتبته وأثبته على نفسي، الفقير الله خميس بن سعيد بن علي الشّقصيّ بيده”.

لهذا بقي وقف التّعليم حاضرا في العقل الجمعيّ العمانيّ حينا من الزّمن، فنجد العديد من الأوقاف المتعلّقة بالمتعلّمين والكتاتيب والكتب ونسخها، كما نجد العديد من المكتبات حاضرة، حتّى وقت قريب جدّا، كمكتبة السّيّد محمّد بن أحمد البوسعيديّ (ت 2012م) بولاية السّيب والّتي افتتحت عام 1986م، ومكتبة النّدوة ببهلا افتتحت عام 1996م، ومكتبة وقف الحمراء وأصلها مكتبة الشّيخ محسن بن زهران العبريّ (ت 2012م)، ومكتبة الشّيخ سالم بن حمد بن سليمان الحارثيّ (ت 2006م) في المركز الثّقافيّ بولاية إبراء، وغيرها من المكتبات الشّخصيّة والأهليّة.

بيد أنّ الوقف التّعليميّ والعلميّ اليوم أصبح أكثر تفرعا وتعقيدا، ويحتاج إلى قاعدة محكمة، ومؤسّسات معنيّة به، فالوقف في عالمنا العربيّ توقف في صوره التّقليديّة، بينما تطوّر في الغرب بشكل كبير، وكما يذكر عبد الوهاب جودة الحايس في بحثه “الوقف العلميّ واستثماره” أنّ الدّول الغربيّة أدركت “هذه الأهميّة للأوقاف ودورها الفاعل، فنهجت مؤسّساتها التّعليميّة نهج الأوقاف من خلال توفير رؤوس أموال كبيرة خصّصت لدعم أنشطة هذه المؤسّسات العلميّة والبحثيّة؛ فعلى سبيل المثال بلغت قيمة أوقاف جامعة هارفرد الأمريكيّة خلال عام 2008م ( 36.556 مليار دولار)، في الوقت الذي نلحظ فيه زيادة لهذا الدّور الفاعل للوقف في مؤسّسات ومراكز البحث الغربيّة، نجد غياب أو ضعف هذا الدّور في مؤسّسات التّعليم والبحث العلميّ المعاصرة في العالم الإسلاميّ”، “واحتلت جامعه ييل الرّتبة الثانية عالميّا من حيث قيمة الوقف العلميّ وأصوله، إذ حققت أوقاف جامعة بيل نتائج كبيرة نسبيا خلال عام 2008 من العوائد الاستثمارية من 4.5% وأرباح استثمارية بليون دولار، وزادت الأوقاف من 6.6 بليون إلى 22.9 بليون دولار خلال العشر سنوات الأخيرة”.

بيد أنّ غالب مؤسّساتنا التّعليميّة والجامعيّة لا زالت معتمدة على الدّولة الرّيعيّة، ولا زال الوقف في صوره التّقليديّة، بل تراجع في العقل الجمعيّ، وتصوّر أنّ مساهمته في مثل هذه الجوانب أقل أجرا عند الله تعالى، ولم يعد حاضرا في وصاياهم ونفقاتهم بالشّكل الأفقيّ الكبير، لهذا وجود حاضنة كمؤسّسة سراج الوقفيّة في الجانب التّعليميّ ضرورة معرفيّة ونقديّة تأسيسيّة قبل أن تكون ضرورة عمليّة، إذ تعنى بدرجة كبرى في دراسة الوقف في الجانب العلميّ والتّعليميّ بما يتناسب والمرحلة الّتي نعيشها، والتّقدّم الكبير في الجانب الاقتصاديّ ووسائله الوقفيّة، فالتّعليم أساس تقدّم المجتمعات، ولا ينبغي أن يقتصر عند الدّولة الرّيعيّة، فإذا كان كذلك سيكون تقدّمه بمقدار إمكانات هذه الدّول وحسن إدارتها، فإن ضعفت مواردها ضعف وربّما انهار، كما أنّه لا يكون مستقلّا قائما بذاته.

والمتأمل في الجانب العمليّ لمؤسّسة سراج يجد شموليّة في صرفها حسب قدراتها الماليّة، فهناك صرف للطّلبة المعسرين، وفي البحث والابتكار ودعم الموهوبين والمبدعين، وفي دعم الكراسيّ البحثيّة، وفي توفير مرافق دراسيّة وتطويرها، وفي دعم البعثات الدّراسيّة، وبجانب كونها مستقبلة للتّبرعات من الأفراد والتّجار ورجال الأعمال؛ بيد أنّها أيضا تربط ذلك بالاستثمار، ليكون عملا تنظيميّا مؤسّسيّا دائما، مع تشجيعها للمساهمة في السّهم الوقفيّ لشراء العقارات، ومع عمرها الصّغير إلّا أنّها استطاعت أن تخلق جوّا وقفيّا أكثر تنظيما وتقدّما، مع ربطه بالجانب الرّقابيّ، وحضور العقل الشّبابيّ فيها.

وقد تكون بداياتها بسيطة، لكن تحركها وفق رؤية واضحة، وأداة محكمة، ورؤية عقليّة استثماريّة بعيدة المدى؛ يخلق فيها قاعدة عريضة كصورة عمليّة للتّنظيم الوقفيّ ليس في الجانب التّعليميّ فحسب، بل في جوانب أخرى أيضا، وقد تشجع على خلق كفاءات مؤسّسيّة وقفيّة أخرى، في هذا الجانب، أو غيرها من الجوانب، خصوصا وأنّه قد أعلن قريبا عن إنشاء مؤسّسة وقفيّة جامعة، حيث إدارة الوقف في عمان أصابه كغيره من دول العالم العربيّ شيء من التّراجع والتّرهل، مع ضعف كبير في الجانب الاستثماريّ في الوقف، وعدم وجود رؤية واضحة له، مع ضعف الرّقابة والمسائلة، واليوم أصبح الكلّ مدركا لأهميّة هذا الجانب في النّهضة الحديثة والشّراك المجتمعيّ، والعلم أولى ما يعتنى به، ووجود مؤسّسات كسراج خطوة في مجال التّصحيح، كما أنّ اهتمام الجامعات والكليّات، حكوميّة أم أهليّة بتنمية ذاتها وقفيّا؛ طريق حسن لتطوّرها واستقلالها وديمومتها.

من مراجع المقالة بحث لأحمد مهني مصلح حول الوقف العلميّ في عمان، منشور في كتاب الوقف العلمي واستثماره ضمن ندوة الوقف في عمان بين الماضي والحاضر، من قبل مركز الدّراسات والبحوث العمانيّة في جامعة السّلطان قابوس.

السابق
الطّريق إلى الكنيسة الأرمنيّة في أصفهان
التالي
فيلم حياة الماعز والضّجيج حول عُمان
– تنويه:

عدد من الصور المستخدمة للمقالات مأخوذة من محرك google

اترك تعليقاً