نشر في مجلّة شذرات ثقافيّة (مجلّة مصريّة الكترونيّة لصاحبها وائل مجدي)، عدد (8)، السّبت 13 مارس 2021م، ص: ص: 62 – 68.
قبل أن نتطرق إلى كتاب “الفريضة الغائبة” لمحمّد عبد السّلام فرج [ت 1982م]، والمتأمل في خطابه، وخطاب غيره من الشّباب قبله وبعده وفي زمنه، نجد هؤلاء حالة طبيعيّة لتراث كبير جدّا، وتجارب عديدة، وأقوال مأثورة، وإنزالات للنّصوص المقدّسة، حيث نجد حولها ثلاث مدارس:
المدرسة الأولى: المدرسة التّقليديّة أو السّلفية، والّتي شاعت في جميع المدارس الإسلاميّة، خصوصا بعد طباعة وظهور كتب التّراث، والاكتفاء بتحقيقها المنهجي فقط، وبالتّالي ظهور الصّحوة الإسلاميّة، الّتي بنيت على هذا في الغالب، وتبناها السّياسون لإسقاط الحركات اليساريّة في النّصف الثّاني من القرن العشرين الميلادي.
المدرسة الثّانية: المدرسة الإصلاحيّة أو التّجديديّة والّتي ظهرت مع العطار [ت 1835م]، ومن ثم محمّد عبده [ت 1905م] وشيخه الأفغاني [ت 1879م]، وهي مدرسة لم تقدّم رؤية نقديّة، بقدر ما حاولت الملائمة بين الماضي والحاضر، وبين الشّرق والغرب، وهذه المدرسة أيضا سيطرت على الخطاب الرّسمي خصوصا في مصر ابتداء، وكذلك كانت أقرب إلى بعض المراكز العلميّة.
المدرسة الثّالثة: هي المدرسة النّقديّة التّفكيكيّة، الّتي حاولت أن تقدّم منهجيّة جديدة في التّعامل مع التّراث، بمحاولة فصل ما بين المقدّس وغير المقدّس، ثم قراءة التّراث قراءة ظرفيّة كأي تجربة بشريّة، وهذا مع حضورها مبكرا كما عند عليّ عبد الرّازق [ت 1966م] وأبي ريّة [ت 1970م]، إلا أنّ حضورها كان ضعيفا، وبدأت بشكل أكبر في العقدين الأخيرين.
لهذا في الحقيقة لم تتشكل نظريات كبرى في التّعامل مع التّراث، وإعادة صياغة العقل المسلم، بقدر ما كان يدور الخطاب بين المدرستين الأولى والثّانية.
من هنا نجد عبد السّلام فرج وغيره لم يكونوا شططا أو تفردا في المجموع، بقدر ما كان حالة طبيعيّة ساعد في ظهورها أسباب سياسيّة أولها نكسة 1967م، والثّاني معاهدة كامب ديفيد 1978م، وكذلك بعض الخطابات من تفرع من المدرسة الإصلاحيّة والّتي حاولت أسلمة السّياسة كأبي الأعلى المودودي [ت 1979م] وسيّد قطب [ت 1966م]، وكذا ساعدها أمران: الاستبداد السّياسي في العالم العربي، والتّعامل مع الأفكار ليس تدافعا نقديّا بقدر ما يكون كبتا أمنيا، كذلك فقدان المعاهد والجامعات الإسلاميّة القائمة على القراءة النّقديّة من الدّاخل، وتحقيق مبدأ التّدافع المعرفي.
وفي التّأريخ نجد نماذج لمثل هذا كحركة الخوارج مثل الصّفريّة والأزارقة منذ فترة مبكرة كما ينسب إليهم، وكذا حركة المطوّعة في العصر العباسي الأول، وهي حركة مارست العنف تحت ظلّ الحسبة، أو الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر.
كلّ ما قام به عبد السّلام فرج أنّه في كتابه الفريضة الغائبة استلهم هذا الماضي بالنّصوص الّتي يقرأها الجميع، وتقبلت فترة في ظرفيتها، فاستلهم أقوال ابن تيميّة [ت 728هـ]ضدّ التّتّار في بلدة ماردين في العراق، لهذا أتى بهذه النّصوص ووظفها في الدّولة القطريّة، لهذا لمّا ردّ عليه فرج فودة [ت 1992م] في “الحقيقة الغائبة” كان ردّه من داخل التّأريخ ذاته وتناقضاته، عكس محمّد عمارة [ت 2020م] الّذي حاول كعادة الإصلاحين الملائمة والدّفع بالّتي هي أحسن في كتابه “الفريضة الغائبة: عرض وحوار وتقييم”.
الحضور الرّوائي وقراءة الرّواية بالشّكل المطلق كان حاضرا من البداية في الكتاب، مع استلهام لآراء ابن تيميّة كما أسلفنا، لهذا يدخل الكتاب ضمن الحركة السّلفيّة الجهاديّة، خصوصا في تلك الفترة كان انتشار السّلفيّة بشكل كبير، ودعمت ماليا، واستخدمت سياسيّا ضدّ اليساريين ابتداء، ولإسقاط الاتّحاد السّوفييتي لاحقا، لهذا نجد المؤلف في بداية الكتاب ينطلق من روايات منسوبة إلى النّبيّ – صلّى الله عليه وسلّم- منها: “إنّ الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإنّ أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها”، ورواية: “ليبلغنّ الأمر ما بلغ اللّيل والنّهار”.
فالكتاب في داخله يرمز إلى واقع الخطاب الدّيني والّذي يمكن تقسيمه إلى: أولا: الخطاب الرّسمي أو خطاب السّلطة السّياسيّة باسم الدّين، وهذا يختلف من دولة لأخرى حسب المذهب الشّائع فيها، إلا أنّ الوجهة واحدة وهو تبرير عمل السّلطة الحاكمة، والثّاني الخطاب الإصلاحي والمجتمعي العام، أو الخطاب الشّعبي والعفوي، وثالثا: الخطاب الثّنائي النّفعي، وهذا يهدف إلى التّغيير السّياسي، أو على الأقل قيام دولة إسلاميّة تحت ظلّ الخلافة أو الدّولة القطريّة، ولكن ليس عن طريق العنف، أو الصّراع مع السّلطة، وإنّما عن طريق التّربية والتّعليم والأعمال الخيريّة والدّعوة المجتمعيّة، والرّابع: خطاب العنف والجهاد.
لهذا نجد الكتاب لا يلتفت إلى الخطاب الرّسمي أو الخطاب العام، وإنّما يتبنى الخطاب الرّابع ويدافع عنه، ويرد على الخطاب الثّالث، فهما من نفس المدرسة؛ لأنّ الغاية إقامة الخلافة الإسلاميّة، ولكن تختلف السّبل، فيرى الفريق الثّالث أنّ التّغيير يكون من القاعدة، ويرى الفريق الرّابع أنّ التّغيير يكون من الأعلى بإزالة رأس الهرم، لهذا يذكر فرج في مقدّمة الكتاب إنّ علماء الإسلام في العصر الحديث تجاهلوا الجهاد في سبيل الله، رغم علمهم أنّه الطريق الوحيد لإعادة ورفع صرح الإسلام؛ لأنّ طواغيت الأرض لن تزول إلا بقوّة السّيف حسب رأيه.
ولهذا لتحقيق الأمر أثبت كفر الدّولة، وأنّها أظهرت كفرا بواحا بموالاة الكفار، وعدم تطبيق شرع الله مستندا لقول ابن تيمية في الفتاوى: 28/524: “ومعلوم بالاضطرار من دين المسلمين، وباتّفاق جميع المسلمين، أنّ من سوّغ اتّباع غير دين الإسلام، أو اتّباع شريعة غير شريعة محمّد – صلّى الله عليه وسلّم – فهو كافر…”.
لهذا يستدل المؤلف على كفر الدّولة المصرية – وإن لم يذكرها بالاسم – أو ما شابهها من الدّول العربيّة لثلاثة أسباب: الأول: تعلو فيها أحكام الكفر أي تعطيل الشّريعة واستبدالها بالقوانين الغربيّة، والثّاني: ذهاب الأمان للمسلمين، إشارة إلى الاستبداد ضدّ الإسلاميين والتّضييق على أنشطتهم، والثّالث: المتاخمة أو المجاورة أي مع الكفار، لهذا يخلص فرج أنّ حكّام العصر كفار مرتدون وعقوبتهم أشدّ، ويستند إلى نصوص ظاهريّة من القرآن مثلا: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة/ 44]، وبعض الرّوايات كرواية: “من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهليّة”، وقاس الوضع في البلاد العربيّة ببلدة ماردين في العراق، فاصلا بين طائفتين في المجتمع: الأولى الحكام الحاليين مثل التّتار يقاتلون بكفرهم فهم سواء، والثّانية المجتمع أو الشّعب، وهم على قسمين: الأول الموالي للحكومة فيعامل معاملة الكافر، والباقي يعامل معاملة المؤمن قياسا على فتوى ابن تيميّة في أهل ماردين: “كونها مركبة من دار حرب وسلم، يعامل المسلم بما يستحقه وكذا الكافر”، لهذا يرى فرج أنّ إعانة الدّول الّتي لا تحكم بالشّريعة حرام، وأموالهم مستباحة بعد التّخميس، وقتالهم واجب، ولا تجوز موالاتهم، لهذا فهو يكفّر الحكومة ومن يواليها ويناصرها، ويعتبر الدّولة دار حرب لهذا الفريق دون عامّة النّاس، ودماؤهم وأموالهم مستباحة.
وبعد تقرير هذه القاعدة يبدأ بالرّد على الفريق الثّالث، الّذين يرون التّغيير يكون عن طريق القاعدة، حيث يرى أنّ الجمعيات الخيريّة لا تقيم دولة، والعمل في المناصب يقوّي الحاكم الظّالم، ودعوى الدّعوة إلى الله دعوى فاشلة، وحذّر من الاشتغال بالعلم وترك الجهاد.
وعليه يناقش فرج قضايا متعلقة بالحال في هذه الدّول، فيناقش قضيّة الهجرة، فهي تكون من دار الخوف إلى دار الأمن، أو من دار الكفر إلى دار الإيمان، ولهذا القتال يكون في الدّاخل قبل الخارج، والإسلام انتشر بالسّيف أيضا بدليل آية السّيف، ومراتب الجهاد: قتال النّفس، قتال الشّيطان، قتال الكفار والمنافقين، فنحن مطالبون بإقامة الدّولة وليس علينا بالنّتائج، وعلينا البيعة على القتال والموت، وإن كان أسلوب القتال يختلف إلا أنّه لا يسقط، وعليه يجوز الكذب مع هؤلاء، والإغارة، وتبييت المشركين وقتل ذراريهم، والاستعانة بالمشرك، وجواز قطع الأشجار وحرقها، وإبعاد المثبط والفقيه المغرور عن المشاركة في الجيش.
ولست هنا بصدد مناقشة هذه القضايا، فقد ناقشت بعضها في كتابي “فقه التّطرف”، إلا أننا نحن هنا أمام تراث لم يخرج عنه فرج، ولم يستورد أفكارا من الخارج، فعلينا أن نخرج من المدرسة التّقليديّة أو الإصلاحيّة إلى المدرسة التّفكيكيّة، أو يكون لها حضورها في الحوزات والجامعات الدّينيّة على الأقل.
لهذا أرى التّالي أولا: نحن بحاجة إلى توليد نظريات جديدة في التّعامل مع النّص الدّيني الإسلامي وغيره، خصوصا في قضايا الأحكام فيما يتعلّق بالدّولة والنّظام العام، مثلا: هل الأصل في النّص الدّيني النّسبيّة أم الإطلاق، ومتى يكون التّراث والتّأريخ له رمزية القداسة ورمزيّة البشريّة وغيرها، مع حضور الأنسنة في قراءة النّص والتّراث حضورا تأويليّا على الأقل.
ثانيا: الانفتاح على النّظريات النّقديّة المعاصرة، وتشجيع الطّلاب في الحوزات والمراكز الدّينية على الانفتاح لها وتدريسها ونقدها، ليتوّلد تدافع يخدم المجتمع.
ثالثا: مراجعة الخطابات العموميّة مراجعة نقديّة كدار الحرب ودار السّلم، ودار الإسلام ودار الكفر، ودستورنا القرآن، ونظريّة السّلف وغيرها.
رابعا: وجود مراكز إفتائيّة بحثيّة متجددة بعيدا عن نظريّة الشّخوص الملاصقة للجهات الرّسميّة تحت اسم المفتي أو غيره، وكذا الملاصقة للعقل الجمعيّ والشّعبي والتّقرب منه، بقدر ما تكون ملاصقة للمعرفة والبحث واستقلاليّة دراسة الواقع.
خامسا وأخيرا: السّجن والتّعذيب ليس هو الحل ما لم يخرج عن دائرة الفكرة، فالعنف لا يواجه بالعنف، وإنّما بالتّدافع الطّبيعي، فمشكلة الحكومات العربيّة تمسك من الطّرف لا من الوسط، وتتكئ على فئات تحمل ذات بذور التّطرف، إلا أنّ هؤلاء أصدق في بيان وجهتم، وأخلص في نظرتهم، ويرون بذلك القرب من ربّهم، وتقديس ماضويّتهم، وأنّها هي الرّمز الخالد لهم، فمثل هذا يقابل بالتّدافع الطّبيعيّ، لا بالعنف المضادّ؛ لأنّ ضرره أكبر، وشرّه أجل.