شرع الله لعباده حج بيته الحرام ليكون مدرسة للإنسانية عامّة، ولهذه الأمة خاصة، مدرسة يفد إليها المسلمون عاما بعد عام؛ ليقطفوا منها المثل العليا، والآداب الرفيعة، {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}.
ولكون الحج عاما للجميع خاصة في زمن سهل فيه الوصول إليه والحمد لله، لتطور وسائل النقل، وعليه نجد من الجمال القرآني أنه علّق الحج بالاستطاعة {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}.
ولم يحدد مفهوم الاستطاعة بل جعلها للتقدير البشري وفق الزمان والمكان، ووفق العرف وتطور وسائل المعيشة، وتدور الاستطاعة سلبا وإيجابا مع مدى لا يتحقق بها ضرر فردي ولا جماعي، ولا ينتج عنها ظلم لأحد أبدا، ولا يترتب عليها إيذاء لحاج أو قاصد.
ولا شك من وسائل إيذاء الناس في الحجِ، الحجُ بدون بطاقة مرخص بها من قبل الجهات المعنية، وذلك لأنّ سنة الله تعالى قضت أن يكون مكان الحج محدودا، والله سبحانه علّمنا أن نسير وفق سننه سبحانه، وأن نسعى لاكتشافها والتقيد بها.
فالبقعة التي يُمارس فيها الحج من طواف وسعي ومبيت في منى ومزدلفة ووقوف في عرفة ورمي في وادي منى هي بقعة محدودة تتسع لعدد معين من البشر.
وعليه فتطبيقا لهذه السنة الكونية قامت الجهات المختصة في أرض الحجاز بوضع جدولة لعدد الحجاج من كل دولة بما يناسب الكثافة السكانية لتلك الدولة ومساحة المشاعر المقدسة، إذ لو زاد العدد عن العدد المعين لتعرض الحجاج المرخص لهم للمشقة الشديدة، ولكان الحج عرضة للاضطرابات، بل وقد يؤدي إلى الوفاة بسبب الزحام الزائد عن الطاقة الاستيعابية للأماكن المقدسة كما هو ملاحظ.
ولئن اشترط العلماء شروطا للحج، وعلى رأسها الزاد والراحلة، فالذي لا مال له لا يكلف بالحج، كما أن الذي لا يستطيع توفير أجر الراحلة من سيارة أو طائرة أو نحوها، فهذا كذلك يسقط الحج عنه، قال تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}.
فلئن كان هذا في الزاد والراحلة، وهما يحملان البعد الفردي، فالذهاب ببطاقة الحج المرخص لها أولى أن تعتبر من شروط الحج لما تحمله من بعدين، الفردي والجماعي.
وذلك لأنّ الذي يذهب بدون ترخيص لا يؤذي نفسه فحسب كفاقد الزاد والراحلة، بل يؤذي حجاج بيت الله الحرام، فالمخيم العماني مثلا يتسع من خلال مرفقاته لعدد معين عليه يكون الترخيص، فزيادة العدد يشكل ضررا على هؤلاء، والقاعدة الشرعية تقول: لا ضرر ولا ضرار.
ولا شك إنّ إيذاء ضيوف الرحمن من الظلم الذي يدخل في قوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}، لأنّ الحج عبادة جماعية، تناسب عددا معينا، والزيادة بدون ترخيص إيذاء لمن لهم الحق القانوني والشرعي، والله تعالى يقول: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا}.
ومن جانب آخر مدرسة الحج – كما رأينا – تعمّق البعد الجماعي، فالإنسان المؤمن لا ينظر إلى نفسه؛ بل ينظر إلى إخوانه من المؤمنين أيضا، فالذي يذهب سنويا لا لخدمة الحجيج، وإنما لحاجات شخصية، أو رغبة في التنفل، عليه أنّ يعلم أنّ هناك من إخوانه من لم يحج الفرض أصلا، ولا يجد بطاقة الحج، فهلا آثر أخاه المؤمن الذي لم يحج على نفسه، فيفتح له المجال ليؤدي شرع الله تعالى، وليبرئ ذمته أمام الله سبحانه، {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
وكما أنّ مدرسة الحج تعمّق البعد الجماعي هي أيضا تعمق بعد البدأ بالأوليات، ففي يوم مزدلفة يؤمر الحاج مثلا بالنوم بعد الوتر، والتقليل من التنفل، لأنّ هناك أعمالا مهمة تنتظر الحاج في يوم النحر أهم من الإكثار في التنفل ليلا، وليؤدي هذه الأعمال على أكمل وجه.
هذه التربية ينبغي أن تكون من سلوكياتنا المهمة في حياتنا، فالتفل بالحج إن كان لا يضر بالآخرين أمر جميل، إلا أنّ هناك من الأعمال التي تتقدم على التنفل بالحج لها أهميتها ومكانتها في المجتمع، فهذا المال الذي يُنفق في التنفل بالحج لماذا لا ينفق في بناء مدرسة قرآنية علمية، أو علاج مريض محتاج، أو بناء بيت لأسرة فقيرة، فهذا أولى في التطبيق، ثم بهذا يفتح المتنفل المجال لغيره ليحج، فنحقق بذلك التكامل الذي أراده الله تعالى وفق السنة الكونية.
جريدة عمان 1434هـ/ 2013م