المقالات النقدية

قراءة التّأريخ وفق [الماضويّة البشريّة] و[الظّرفيّة التّأريخيّة] و[السّننيّة المجتمعيّة] قراءة في الفيلم الوثائقي “ساحل عُمان” أنموذجا

لكلّ أمّة تأريخ، كان ضاربا في عمق الماضي أم كان حديثا، فكما يفتخر الفرس بأول ملوكهم كورش الكبير [ت 529 ق.م] يفتخر الأمريكيون  بأول رئيس لهم جورج واشنطن [ت 1799م]، فلا يوجد أمّة لا يوجد لها تأريخ، فالإنسان ذاته كفرد من نوعه له تأريخ في عمره القصير.

ولقراءة أيّ تأريخ لا يخرج عن العناصر الثّلاثة: الماضويّة البشريّة المطلقة، والظّرفيّة التّأريخيّة، والسّننيّة الكونيّة المجتمعيّة.

أمّا الماضويّة البشريّة المطلقة، فهو تأريخ بشريّ انتهى بخيره وشرّه، بانتصاراته وإخفاقاته، بتقدّمه وتأخره، بأمنه واستقراره وبتفرقه وحربه وانهزاماته، فيبقى كما هو، ولا يجوز التّلاعب به وتحريفه، وطمس شيء وإظهار شيء آخر، وفي الوقت نفسه ليس تأريخا مقدّسا، فهو تجارب بشريّة تقرأ في جوّها الإنساني، فالاعتزاز به ليس شركا، ونقده ليس كفرا، فهنا لا يصح أدلجته دينيّا، ولا توجيهه سياسيّا، فيحرّف لما يوافق التّوجهات الدّينيّة والمذهبيّة، ويتلاعب به وفق المصالح السّياسيّة، فيحترم كخبر، ولكنه لا يؤله كماضي، لطبيعة البشر تأليه وتقديس الماضي.

وأمّا الظّرفيّة التّأريخيّة، فالتّاريخ حدث ظرفيّ من حيث الجملة، تضمّن أحداثا ظرفيّة من حيث التّفصيل، هذه الأحداث انتهت في نقطة ما، قد يمتدّ أثرها كامتداد الماضي المستمر، وقد ينتهي مع مرور  الزّمن كانتهاء الماضي البسيط، فالتّأريخ لا يصنع الحاضر، ولكن يستلهم منه لصنع الحاضر، لهذا كان العنصر الثّالث وهو السّننيّة الكونيّة المجتمعيّة، فوجود تقدّم في الماضي لا يخرج عن استغلالهم لسنن التّقدّم المجتمعيّ في عصرهم، ووجود تأخر لإهمالهم لسنن التّقدّم، فالأمم المتقدّمة اليوم إمّا أن يكون تأريخها ضاربا في العمق فاستلهمته لصنع حاضرها وفق زمنها الحالي، لا لكون الماضي هو من صنعها كما فعلت الصّين مثلا، أو أنّ تأريخها قريب الحدث، لكنّها صنعت واقعها بسننيته كما فعلت سنغافورة، فالماضي سنني، والحاضر سنني، والّذي يصنع الماضي والحاضر هو السّننيّة وليس الماضويّة، فنجاحنا اليوم يستلهم منه الأجيال المقبلة لنجاحهم، ولكن نجاحنا لا يعني نجاحهم إن لم يستغلوا سنن النّجاح المجتمعي والكونيّ في زمانهم.

ولنأت الآن إلى الفلم الوثائقيّ الّذي عرضته قناة الجزيرة مشكورة بعنوان، ساحل عمان، وذلك يوم الأحد 9 أغسطس 2020م، فهو عمل تشكر عليه، لكن للأسف في نظري غلب عليه الإسقاط السّياسي، وفق الصّراع الحالي، والأصل كما أسلفت أنّ الماضي حدث يستلهم منه للحاضر، وأعظم ما يستلهم منه الوفاق والوحدة والتّقدّم الحضاريّ والمعرفي، لا أن نعيد حرب داحس والغبراء من جديد، لنصنع حرب البسوس والفجار والبعاث في قالب جديد، فيستلهم الماضي في تأجيج الصّراع لا في البناء وتوحيد الصّف وبناء الإنسان والعقول.

فإذا كان صراع الجاهليّة مع قبائل متناحرة، استثمرت أدبها وشعرائها لما يريده ساسة القبائل؛ فإنّ الدّول القطريّة اليوم لا تختلف عن تلك القبائل، إلا أنّها أشمل وأوسع،  فدول الخليج دول قُطْريّة لم تكن بهذه الصّورة قبل مائة عام مثلا، والدّول القطريّة هي دول العالم أجمع، فأروبا بعد سلطة الفاتيكان أصبحت دولا قطريّة، وبلاد ما بين النّهرين كذلك، فزمن الإمبراطوريات التّوسعيّة والاستعماريّة انتهت في زمننا الحالي، والاستعمار اليوم استعمار القوّة والتّأثير أيّا كان، وليس استعمار التّمدد، وهذا لا يعني لا يعود الماضي، ولكننا نتحدّث عن حاضر، فهذه الصّين استعمرت جلّ العالم اقتصاديّا، وأمريكا عسكريّا وإعلاميّا، وهكذا دواليك.

وعليه الدّول القطريّة أصبحت واقعا في ذاته، وأصبحت الأمّة العربيّة ذاتها لا تقل عن اثنتين وعشرين دولة قطريّة، تضمّ هوّيّة تأريخيّة متداخلة، فدول الخليج واليمن والعراق من جهة، وبلاد الشّام من جهة أخرى، ومصر والسّودان من جهة ثالثة، وبلاد المغرب وموريتانيا من جهة رابعة، وباقي القسم الأفريقي من جهة خامسة، فهويّة ماضيها لا ينبغي أن تعوق هوّيّة حاضرها، فإذا كان عقل السّياسي اليوم – للأسف – يفكر بعقل داحس والغبراء، فلا ينبغي للمثقف والكاتب والشّاعر والإعلاميّ أن يكون قطيعا لهؤلاء السّاسة، والعالم اليوم يتحدّث عن الماهيّة الواحدة والأنسنة المشتركة، وما توقفت نازيّة الغرب ولا فاشيتها إلا عندما انفصل المثقفون عن دعمها والوقوف معها، ووقفوا مع الإنسان والبناء، لا مع الفرقة والحروب.

ولو أنّ العقول السّياسيّة اشتغلت بقطرها وتركت الآخر لكان خيرا لها، ولو وقف المثقف مع البناء، ولم يكن دعما لطائفيّة، ولا أداة لسياسة، لما رأينا هذا الخراب والمآسي في الوطن العربي، وآخرها ما كان في لبنان.

ونعود من جديد إلى موضوعنا، فالتّأريخ لا يجوز إنكاره والتّلاعب به حدثا أو مصطلحا، وليس عيبا أن نقر به، ولكن لا يصح أن نقف عنده، أو يؤدلج طائفيّا وسياسيّا، وهو قبل أن يكون وفق هوّيّة واحدة، هو تأريخ أنسانيّ مشترك، يدرّس للأجيال كما هو بما يخدم الإنسان لا بما يحيي فيهم الصّراع والنّزعات الماضويّة.

وبطبيعة الحال الفلم كان رائعا من حيث جودة العمل، وجلالة من شارك فيه وقوّتهم المعرفيّة، بيد هنا أشير إلى بعض الجوانب الّتي تحتاج إلى تصحيح منها مثلا لم تذكر حضارة دلمون، وهي حضارة قديمة شاركت أختها مجان مع اليمن، وتعاقبت حضارات مشتركة بينهم كالآشوريّة والفينيقيّة وغيرها، كذلك السّاحل العماني تأثيره امتدّ إلى شرق آسيا والصّين والهند، أدّى إلى حدوث هجرات متبادلة من القبائل، وهذا التّأثير أقدم من التّأثير في شرق أفريقيا كبعد زمني، كذلك لأولاد فهم بن مالك استقرار في منطقة الإمارات اليوم، ساحل عُمان بالأمس، وكانت لهم هناك صولة وجولة امتدّت إلى سيراف شمالا، كذلك العلاقة العمانيّة كانت قويّة مع الهولنديين فقد “تغلّب الهولنديون على البرتغاليين وتمكنوا من تأسيس وكالات تجاريّة في قشم ومسقط والبحرين والبصرة” [كتاب استراتيجيّة إيران اتجاه دول الخليج العربيّ، من تأليف الدّكتور تاج الدّين جعفر الطّائيّ، ص: 20]، وكذلك فرنسا وقبلها أسبانيا.

كذلك دخول التّدخل السّعوديّ في هذه المنطقة، منذ القرن الثّامن عشر الميلاديّ،  فإذا كان رحمة بن مطر القاسميّ استقل “على أثر انتهاء حكم اليعاربة في عام 1741م، واعترف له الإمام أحمد بن سعيد بالسّيادة والاستقلال في منطقته والقبائل الّتي تدين له بالولاء، واتخذ رحمة رأس الخيمة قاعدة له، ومن هذا الاستقلال دخل في حروب مع العمانيين وتعقّب سفنهم” [كتاب بريطانيا وإمارات السّاحل: دراسة في العلاقات التّعاهديّة، للدّكتور عبد العزيز عبد الغنيّ إبراهيم، ص: 101]، إلا أنّهم لاحقا تحالفوا مع السّعوديين، وكانت فتوى تجيز لهم القرصنة بغض النّظر عن صحتها، بيد أنّهم في عهد سلطان بن صقر “صالح البريطانيين حلفاء إمام عمان، وارتكب بهذا في نظر السّعوديين جرما كبيرا، فعينت السّعودية في ربيع 1808م مطلق المطيري أميرا على البريمي، فنحى الأخير سلطان بن صقر وعيّن عمّه حسين بن علي على القواسم، وزيدت الزّكاة الّتي كان يؤديها إلى الدّرعيّة ثلاثة أضعاف، وأمر مطلق حسينا أن يضع في جميع سفنه راية: الإيمان يضربه به الكفار، وأن يؤدي خمس الغنيمة إلى الدّرعيّة” [المرجع نفسه، ص: ص: 144 – 145]، وهنا اتّجه “السّيد سلطان إلى الانجليز والاتراك يطلب عونهما ضدّ الوهابيين، ولم يقدّم له الإنجليز الإعانة إلا بالنّصائح، ولا الاتراك إلا بالوعود” [المرجع نفسه، ص: 139]، فمع تخوّف البريطانيين بداية من “الوهابيين” إلا أنّهم وجدوها فرصة لاحقا لإضعاف هيمنة العمانيين، فلعبوا على الحبلين كما إن صح التّعبير، فقد “سعت بريطانيا إلى فصل مسقط عن زنجبار، وقطر عن البحرين، وتوسيع حدود أبو ظبي، وتفكيك إمارة الشّارقة، وظهور إمارات جديدة كرأس الخيمة والفجيرة” [تاريخ ساحل عمان السّياسيّ في النّصف الثّاني من القرن التّاسع عشر للّدكتور زهريّ عبد المجيد سمّور، ج2، ص: 23].

فلا يمكن قراءة المرحلة الأخيرة بعيدا عن التّدخل السّعوديّ من داخل الجزيرة نفسها، ومن خارج الجزيرة ومع التّدخل التّركيّ والفارسيّ من جهة، والإنجليزيّ من جهة ثانية، كان التّدخل المصريّ، فدلّت “الوثائق المصريّة أنّ شيوخ الإمارات وعلى الأخص البحرين رحبوا ترحيبا كبيرا بظلّ محمّد عليّ، وذلك أملا في التّخلص ممّا كان يحيق بهم من خطر الإنجليز والفرس وسلطان مسقط، خاصّة أنّه لم يطلب جزية كبيرة خلافا لما يفعل الفرس والسّعوديون” [كتاب تاريخ ساحل عمان السّياسيّ للّدكتور زهريّ عبد المجيد سمّور، ج1، ص: 193 – 194]، وأنّ “السّيد سعيد فكر التّعاون مع محمّد عليّ ليحقق حلمه في ضمّ البحرين إلى عمان مقابل دفع جزية للمساعدة المصريّة” [المرجع نفسه، ص 205].

وفي الأخير لا ننس أنّ فكرة تكّون الإمارات وإلغاء الحماية البريطانيّة عام 1968م كان يضمّ أيضا البحرين وقطر، إلا أنّه لم يحدث اتّفاق إلا في عام 1971م مع ست مشيخات فقط، أي المشيخات الموجودة اليوم عدا رأس الخيمة، والّتي انضمت عام 1972م، بينما انفصلت البحرين وقطر كدولتين مستقلتين.

ما ذكرته آنفا كنماذج بسيطة لتأريخ للأسف أغلبه مظلم في الفترة الأخيرة، تصارعت فيه المشيخات، وسادت فيه الحروب القبليّة والأهليّة، وساسهم فيها الاستعمار، واليوم والحمد لله ارتاحت البلاد والعباد من هذا الصّراع، فقامت الأقطار، وعمّرت البلدان، وشيّدت المدارس والطّرق ونحوها، فعلينا أن نستفيد من أخطاء الماضي كما نستفيد من حسناته، وإنّ العودة إلى مرحلة الصّراع من جديد سيكلّف المنطقة كثيرا في المستقبل.

صحيفة شؤون عمانيّة 1442هـ/ 2020م

السابق
تحويل “آيا صوفيا” وأزمة الخطاب الطّائفي والسّياسي في وسائل التّواصل الاجتماعيّ
التالي
محوريّة “عدم الخلطة” عند العلّامة إبراهيم بن سعيد العبريّ [ت 1975م]
– تنويه:

عدد من الصور المستخدمة للمقالات مأخوذة من محرك google

اترك تعليقاً