المقالات النقدية

غزّة من عاطفة التّضامن إلى صدمة التّعقل

جريدة عمان، 14 رمضان 1445هـ/ 25 مارس 2024م

تابعتُ اللّغط الّذي حدث في وسائل التّواصل الاجتماعيّ عقب حديث أحد الأطباء العمانيين الّذين زاروا غزّة للتّطبيب، إلّا أنّه ذكر مشاهد رآها وعايشها وحاورها وزارها أثناء رحلته القصيرة، وهذا جميعه لا يدخل في الاستقصاء أو البحث العلميّ، بل هو أقرب إلى أدب الرّحلات، والّتي يذكر فيها صاحبها بعض مشاهداته، أيّا كانت رحلته لأسباب سياحيّة أو إغاثيّة أو كشفيّة، وليس بالشّريطة أن يتوافق مع هذه المشاهدات، فقد تمثله وقد لا تمثله هو ذاته، إلّا إذا أعقبها برأي يبيّن فيها رؤيته ونقده، فقط يُطلب منه الأمانة في النّقل والتّحري، وأن يذكر الشّيء كما هو، كان موافقا له أو مخالفا، دون توجيه مسبق أو تحريف.

والمتأمل أيضا في أدب الرّحلات لا يمكن في الجملة جعلها قرين المباحث العلميّة، والّتي تلزم مزيدا من البحث والاستقصاء والتّقصي، إلّا إذا كانت من الأساس خطّطت لإجابة عن قضيّة جغرافيّة أو دينيّة أو اجتماعيّة أو سياسيّة أو اقتصاديّة أو ثقافيّة ونحوها، وهذا يتطلّب المكوث قد يكون لسنوات، وقد يتطلّب كسب لغة، ويحتاج إلى مزيد من الصّبر والدّعم، وهذا لا يقلّل من أدب الرّحلات العامّة، وهي الصّورة الغالبة قديما وحديثا، ولكن عند القراءة والتّحليل والنّقد؛ كلّ يجعل في موضعه، دون خلط بينهما، ووضع إلزامات ليس في محلّها الصّحيح.

ثمّ أنّ المتأمل أيضا في الحوارات الّتي أجريت مع الطّبيب العمانيّ، يجدها متداخلة بين رؤيته الإنسانيّة المسبقة، وسَبَقَ الإشارة إليها في مقالتي السّابقة في جريدة عمان، وبعنوان:  “الطّبيب أيمن السّالميّ وإنسانيّة غزّة”، وبين مذكراته الّتي رآها وجالسها وحاور فيها أصحابها، فالأولى كانت تمثل رؤيته، ويحاكم عليها تأييدا ونقدا، والثّانية مذكراته الّتي ينقلها كما رآها هو، فهو ينقل الصّورة كأيّ سائح أو رحالة، لأيّ غرض كان، فلا معنى لهذه الضّجة، ولا معنى للإسقاطات الاتّهاميّة المسبقة، وليس من الأمانة النّقديّة إخضاعه لأحكام مسبقة، وهو حر في تفكيره ورؤيته في الحياة، والفكر يواجه بالفكر لا بالاتّهام والتّنقيص.

ما أسلفتُ الحديث حوله لا يعني أنني ضدّ النّقد، بل هو حالة صحيّة، ولكن هناك فارق دقيق بين النّقد المنهجي، وبين الإقصاء الاجتماعيّ، فما نراه ليس نقدا علميّا إلّا ما ندر، بل هي أحكام مسبقة، تارة أنّه أرسل لأغراض استخباريّة خارجيّة، أو أنّه داعم للصّهيونيّة، أو أنّه طبيب لا يحقّ له الحديث في السّياسة، بينما صفحاتهم مليئة بالحديث فيها، أو أنّ هدفه نشر فكره الإنسانويّ والإساءة إلى الدّين والمقاومة، لهذا تغيب المعرفة النّقديّة في أجواء كهذه، فننتقل من تفكيك ونقد الحدث إلى شخصنة الحدث ذاته، فليتها كانت انطباعات نقديّة، فلا نتحدّث هنا عن الحفر النّقديّ والمعرفيّ، بل كانت – للأسف – تدور بين الشّخصنة، والبحث عن تغريدات وإعجابات مسبقة، وبين الأحكام السّالفة، وهذه من أهم أدواء البحث والنّقد المعرفيّ.

ثمّ طبيعيّ أن نعيش بعد أيّ حالة عاطفيّة حالات من الصّدمة متى ما دخلنا في حالات التّعقل، ففي أجواء كهذه طبيعيّ أن يسود الجوّ العاطفي، ولا يمكن بحال الحديث عن التّعقل، وفي بدايات الأزمة كتبت أيضا في جريدة عمان في مقالة حول “القضيّة الفلسطينيّة ورؤية الشّباب العمانيّ”، وممّا قلته فيها: “هناك الكثير ممّا طرحه الشّباب والشّابّات …، وإن غلب في بعض جوانبها الحالة العاطفيّة والوجدانيّة والحماسيّة أكثر من التّعقّل، فهذا … حالة طبيعيّة للوضع المأساوي الّذي تعيشه غزّة اليوم، في حالة غير أخلاقيّة، وبعيدة جدّا عن المبادئ الإنسانيّة والدّينيّة، ولو كنت في موقفهم لقلتُ مثلهم”.

ونحن اليوم بعد خمسة أشهر من حادثة سبعة أكتوبر طبيعي أن تخفت تلك العاطفة، وهذا ملحوظ حتّى على مستوى وسائل التّواصل، ومع بشاعة ما يحدث في غزّة، إلّا أنّ جذوة التّعاطف لم تكن كالّتي في بدايتها، كما أنّ طول الحرب يعطي شيئا من المراجعات، كانت إيجابيّة أم سلبيّة، كما يعطي شيئا من تعدّد الرّأي في قراءة القضيّة من جديد، وعليه ستختلف الآراء بشكل طبيعيّ، كما يعطي شيئا من الصّدمات أمام الحالة العاطفيّة الطّبيعيّة نتيجة الوضع المأساوي، والإبادة الواضحة في قطاع غزّة، والّتي عاشها الجميع لأشهر وأيام متواصلة.

لهذا لا ينبغي اليوم أيضا أن يغيب الإنسان والحق عند الحديث فكريّا؛ لأنّ السّياسيّ تحرّكه المصالح الآنيّة والظّرفيّة، ويدور وفق المسارات الدّوليّة والقوميّة، والمساحات المتاحة للضّغط وإيقاف الحرب والإبادة، وأمّا المثقف النّاقد يدور حول المبادئ، ليكون ضاغطا في حماية الإنسان، وأن يكون قلمه وصوته فاعلا لدى جميع الأطراف، لتضع الحرب أوزارها، وتحفظ تلك النّفوس كأيّ نفس أخرى لك حقّ الوجود والتّمتع به.

لهذا الشّقاق وقذف الآخر لا يجدي شيئا وقت الأزمات، وفي القرآن: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46]، كما أنّ تعدّد الرّأي ينبغي أن يستثمر لصالح القضيّة، وللدّفع بها لأجل وقف الإبادة والحرب، ونصرة المظلوم والوقوف معه، على أنّ اتّهام الآخر لأدنى اختلاف، وتصنيفه وتخوينه، هذا يؤدّي إلى انقسامات لا جدوى منها، ولا تخدم القضيّة بحال من الأحوال، لتتحوّل من حرب داخليّة، ضحيّتها أبرياء لا ذنب لهم، إلى حرب خارجيّة ولو على مستوى الألسن والجدل، وكل يخوّن الثّاني، فذاك يمينيّ أخونجيّ، وآخر يساريّ صهيونيّ، فإذا لم يقرّب النّاس الرّخاء، فعلى الأقل تقرّبهم الشّدائد، وجعلهم في دائرة متقاربة لا يعني اتّحاد الآراء، ولكن يجمعهم الغاية والهدف، وهي نصرة المظلوم، وإعانته ورفع الظّلم عنه، والضّغط لوقف الحرب والإبادة اليوم قبل الغد.

السابق
الحلقة الثّالثة عشرة: الصّوم في المسيحيّة البروتستانتيّة الكالفينيّة
التالي
الحلقة الرّابعة عشرة: الصّيام عند شهود يهوه والمورمون
– تنويه:

عدد من الصور المستخدمة للمقالات مأخوذة من محرك google

اترك تعليقاً