البحوث

قراءة في كتاب “محمّد: قراءة حديثة في سيرة رسول النّور والسّلام” لحسين غباش ت 2020م

مقدّم لندوة “الدّكتور حسين غباش حاضر بعد رحيل” من إعداد مكتبة النّدوة العامّة ومكتبة إبرا العامّة في الجمعيّة العمانيّة للكتّاب والأدباء – مسقط، الأربعاء 11 مايو 2022م.

تقدمة

بداية أشكر مكتبة النّدوة العامّة ببهلا على تواصلهم وترشيحهم – حسن ظنّ منهم – للمشاركة في ندوة “الدّكتور حسين غباش حاضر بعد رحيل”، وهو كاتب وباحث إماراتيّ معروف في الوسط العلميّ والمعرفيّ، وباحث في التّأريخ والتّصوّف ونهضة المنطقة، توفي سنة 2020م، فكان طلبهم لعمل قراءة حول كتابه: “محمّد: قراءة حديثة في سيرة رسول النّور والسّلام”، فكانت هذه القراءة البسيطة الدّائرة بين الوصف ومدار الكتاب، وختمتها ببعض الملحوظات النقديّة، والله الموفق.

بدر بن سالم العبريّ

صباح الأربعاء – الموالح الجنوبيّة

9 شوال 1443هـ/ 8 مايو 2022م.

العنوان والغاية من الكتاب ومصادره

عنون حسين غباش كتابه بعنوان: “محمّد: قراءة حديثة في سيرة رسول النّور والسّلام”، حيث أنّ الكتاب صدر في طبعته الأولى في بداية عام 2018م، والمتأمل في الكتابات المعاصرة حول السّيرة النّبوية يجد التّنوع حولها ما بين القراءات المختصرة للسّير والمغازي، أو القراءات الفكريّة والتّربويّة والسّياسيّة والفقهيّة للسّيرة، أو الكتب المهتمة بالنّقد الرّوائيّ لمرويات السّيرة، أو الكتب النّقديّة للسّيرة وهي ليست بذات الكثرة، مع الكتب ذات الخط الانطباعيّ العام حسب منطلقات الكاتب المسبقة، خصوصا الانطباعات ذات الخط المذهبيّ والفكريّ.

والسّؤال: أين نضع كتاب حسن غباش؟ نجد الكاتب ذاته يطرح التّساؤل في مقدّمة الكتاب: “وأول ما يخطر على بال من يفكر في كتابة سيرة جديدة، السّؤال المشروع وهو: لماذا سيرة أخرى؟ وماذا يمكن أن تضيف؟”[1]، معلّلا سبب تفكيره في كتابة سيرة جديدة أنّه “ثمّة أعداد تكاد لا تُحصى من سير النّبيّ محمّد – عليه الصّلاة والسّلام – وبكل لغات العالم، منها من دنا من الحقيقة، ومنها من جانبها”[2].

ويرى أنّ غالب الكتابات المتأخرة عن السّيرة لم تخرج عن “السّير السّرديّة” الّتي لا تقدّم جديدا إضافيّا حولها، ففي نظره أنّ السّير السّرديّة “لا تقدّم قراءة معمّقة للأحداث، وبالتّالي لا يمكنها أن تظهر الدّروس الرّوحيّة والإيمانيّة العميقة، خصوصا دروس التّزكية والحكمة المحمّديّة، وهي جوهر السّيرة، وبالتّالي لا تعطي السّيرة الشّريفة حقّها”[3].

لهذا يرى أنّ كتابات السّير أهملت الجانب الرّوحي المتمثل في السّلوك والتّزكية، وركزت على الجانب الشّكلانيّ والرّوائيّ والتّأريخيّ، لكن المؤلف لم يعط مسحا لكتابات السّير في القرن العشرين، بقدر ما أعطى حكما مطلقا، جعل من قراءته الحديثة للسّيرة غاية يسدّ به هذه الثّغرة من خلال هذا الكتاب.

والسّؤال: هل يمكن أن نضع الكتاب في خانة معرفيّة جديدة في باب التّصوّف والعرفان من خلال تطبيقات السّيرة، أو بمعنى هل قدّم قراءة صوفيّة للسّيرة النّبويّة؟

في نظري – وكما سيأتي – الكتاب لم يخرج أيضا عن دائرة الانطباعات التّربويّة في جملته، فهو تلخيص للسّيرة بأسلوب تربويّ خلا في جملته من القراءات التّصوفيّة الرّمزيّة والسّلوكيّة بالمفهوم الصّوفيّ والعرفانيّ، كما خلا إلا في مواضع قليلة جدّا من الجوانب النقديّة للسّيرة من حيث الرّواية، ومن حيث القراءات التّقليديّة والشّكلانيّة الظّاهراتيّة لروايات السّيرة وما كتب حولها.

والسّؤال الآخر: ما مصادر ومراجع الكتاب؟ نجد المؤلف في مقدّمة الكتاب يشير إلى خمسة مصادر رئيسة أعتمدها [التّسلسل حسب ترتيب المؤلف][4] وهي: سيرة ابن هشام [ت 218هـ] كمرجع رئيس، وهي تهذيب لسيرة ابن اسحاق [ت 151هـ]، والسّيرة الحلبيّة لنور الدّين الحلبيّ [ت 1044هـ]، وصور من حياة الرّسول لأمين دويدار [معاصر]، وزاد المعاد لابن القيّم الجوزيّة [ت 751هـ]، والمغازي للواقديّ [ت 207هـ].

إلا أنّه في فهرس مصادر ومراجع الكتاب أضاف أربعة عشر مرجعا غير ما ذكر، بيد أنّه لم يوثق علميّا في مراجعه للكتاب، عدا إحالات بسيطة إلى سيرة ابن هشام والسّيرة النبويّة لأحمد بن سعود السّيابيّ [معاصر]، والسّيرة النّبويّة للسّباعيّ [ت 1964م]، وهذا الحبيب لأبي بكر الجزائري [ت 2018م]، ومحمّد الإنسان الكامل لمحمّد علويّ المالكيّ [ت 2004م] ونحوها.

إلا أنّ الكتاب لم يخرج عن المصادر الخمسة المشار إليها آنفا، والإحالات إلى ما دونها، مع إعجابه الكبير لأمين دويدار وآرائه في كتابه “صور من حياة الرّسول” حيث يكثر من الاستشهاد به.

البعد الصّوفيّ والعرفانيّ في الكتاب

ابتداء يمكن تقسيم التّصوّف في المدرسة السّنيّة خصوصا، وهي المنتمي إليها المؤلف مذهبيّا، والمدارس الإسلاميّة عموما إلى أربعة أتّجاهات رئيسة: التّصوّف السّلفيّ الأرثذوكسيّ، وهو أقرب إلى تصوّف السّلوك والتّزكية كما عند الحسن البصريّ [ت 110هـ]، ورابعة العدويّة [ت 180هـ]، والجنيد [ت 289هـ]، وعن هذا التّصوّف السّلفيّ الأرثذوكسيّ كتب أبو بكر محمّد بن إسحاق الكلاباذيّ [ت 380هـ] كتابه التّعرف لمذهب أهل التّصوّف، ووضع العديد من خطوطه وصوره[5].

والاتّجاه الثّانيّ التّصوّف السّنيّ الّذي تطوّر مع أبي حامد الغزاليّ [ت 505هـ]، وأخيه أبي الفتوح أحمد بن محمّد الطّوسيّ الغزاليّ [ت 520هـ]، ومحمّد الشّاذليّ التّونسيّ [ت 882هـ]، وهذا الاتّجاه أكثر انفتاحا من التّصوّف السّلفيّ الأرثذوكسيّ، وأكثر تحفظا من التّصوّف الغنوصيّ الفلسفيّ[6].

والاتّجاه الثّالث التّصوّف الغنوصيّ الفلسفيّ، وهو أكثر رمزية وانفتاحا على النّتاج الإنسانيّ وما عند الأديان من غنوصيّة، كما عند الحلاج [ت 309هـ]، وابن عربيّ [ت 638هـ]، وجلال الدّين الرّوميّ [ت 672هـ]،  ونسيمي [ت 837هـ][7].

والاّتجاه الرّابع وهو التّصوّف البدعيّ، أي المقابل للسّنيّ في صورته الأرثذوكسيّة، وينقسم إلى التّصوّف الطّرقيّ، والتّصوّف الشّعبيّ، وهذا يتمازج مع التّصوّف السّنيّ والغنوصيّ الفلسفيّ في بعض الجوانب.

ولمّا نأتي إلى حسين غباش نجده كما يذكر عن نفسه أنّه اهتم بالجانب الصّوفيّ في الفترة الأخيرة من حياته، أي في العقد الأخير من حياته، فيحكي عن نفسه: “حتّى سنين قليلة خلت لم أكن أعرف عن التّصوّف إلا القليل، بيد أنّه كثيرا ما أثار اهتماميّ وشغفي كانت ثمة حاجة داخليّة للتّعرف إلى هذا العلم فكرا وممارسة”[8].

والّذي أثر فيه اكتشافه كتاب “المنقذ من الضّلال” للغزاليّ[9]، كما أنّ لأحمد كفتارو [ت 2004م] تأثيرا عليه، ويصفه بأنّه “الّذي أدخلني إلى عوالم الإسلام المحمديّ، الّذي لم أسمع عنه في الخطاب الدّينيّ المعاصر، إسلام التّزكية والحكمة والحبّ والتّسامح”[10].

لهذا ألف كتابه “التّصوّف مدار السّالكين إلى الله”، وطبع عام 2016م، ويرى أن مدار التّصوّف على السّلوك والتّزكية[11]، لهذا هو أقرب إلى التّصوّف السّلفيّ الأرثذوكسيّ، وهذا يظهر من كتابه هذا، كما سيظهر من كتابه “قراءة حديثة في سيرة رسول النّور والسّلام”، والّذي صدر بعد عامين من صدور الكتاب الأول، أي في عام 2018م، حيث قاده الاهتمام بالتّصوّف السّلفيّ إلى العشق المحمديّ، إلى كتابة هذه السّيرة كقراءة حديثة، وهي أقرب إلى القراءة الصّوفيّة التّقليديّة، لهذا لن نجد فيها العمق الفلسفيّ الغنوصيّ، ولا البعد الرّمزيّ العرفانيّ، ولا الانفتاح السّنيّ السّلوكيّ، بقدر ما نجد فيها أدبيات الصّوفيّة السّلفيّة التّقليديّة كالزّهد والإحسان والهجرة والتّزكيّة والعشق.

لهذا يرى أنّ التّصوّف بهذه الصّورة كامنة في السّيرة النّبويّة، فبها ندرك الإسلام المحمّديّ الّذي حرّف إلى الإسلام المذهبيّ، حيث أنّ الإسلام المذهبيّ تحوّل “عند الكثيريين إلى عبادات وطقوس مفرغة من مضمونها الإيمانيّ، أي من الحكمة والرّوحانيّة، ومن ثمّ أنتجت ما أنتجه من ظواهر التّصدع والشّقاق والسّقوط في العالم العربيّ والإسلاميّ، ونعلم أنّ الإسلام الحقيقيّ هو إسلام القلب”[12]، وهو الإسلام المحمّديّ الّي يقوم على “التّأمل في حياة الرّسول الأكرم، هو تأمل في الإسلام الرّوحيّ المحمّديّ … بحيث أصبحت حياته وأقواله هي الأنوار المشعة للقرآن المكتوب”[13].

هذا الإسلام المحمّديّ لإدراكه – حسب نظر غباش – لابدّ من إعادة القراءة في السّيرة النّبويّة، قراءة روحيّة سلوكيّة عرفانيّة، وليست ظاهراتيّة شكلانيّة، الّتي أبعدت هذه الكتابات النّاس عن الإسلام المحمديّ الموحد للجميع، وجعلتهم يعيشون الإسلام المذهبيّ الّذي قادهم إلى الصّراع والتّفرق والجهل والتّخلف، لهذا يضع في بداية كتابه مقدّمة للمدار الّذي يدور عليه الكتاب، كما سنرى في المبحث المقبل.

مدار جوهر الكتاب

وضع حسين غباش مقدّمة رائعة للكتاب، بيّن فيها أنّها المدار للكتاب، وبها يقدّم القراءة الحديثة للسّيرة، ومدارها التّالي:

أولا: النّزعة الخلقيّة في السّيرة المحمديّة، فيرى أنّ “الخلق العظيم منظومة متكاملة من القيم السّامية كالتّسامح والإحسان، العفو والحلم، وزهد القلب واليدين، والكرم، والإيثار، وكلّ ذلك متوج بالحكمة”[14]، ومن مصاديق ذلك في السّيرة “لمّا عاد جيش الفقراء إلى المدينة منتصرا [في غزوة بدر] ومعهم الأسرى، وأمر الرّسول أتباعه بالإحسان إليهم، ومعاملتهم معاملة طيبة، لا يهانون أو يعذّبون، ولا حتّى يجرحون بكلمة غير لائقة، لقد منع أيّ معاملة لا تليق بإنسانيّتهم”[15]، كذلك [في فتح مكّة قال] سعد بن عبادة [ت 14هـ] ….: “اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة، اليوم أذل الله قريشا، وعندما أخبر الرّسول بما قال سعد غضب من ذلك، وردّ قائلا: بل اليوم يوم المرحمة، يوم تعظّم فيه الكعبة، اليوم يوم أعزّ الله فيه قريشا”[16].

ثانيا: التّجلّي الإلهيّ، حيث “كلّ فعل في الوجود هو تجلّ لإرادة الله، ومن جمال التّأمل في السّيرة وأحداثها رؤية هذا الحضور المباشر للخالق المبعد في مسار السّيرة”[17].

ثالثا: تمازج العقل بالقلب، فيرى “بين العلم العقليّ والمعرفة القلبيّة مسارا إيمانيّا متفاعلا؛ لأنّ العلوم العقليّة هي إدراك عام للكليات، أمّا المعرفة القلبيّة فهي إدراك خاص، إدراك إيمانيّ ذوقيّ كما يقول العارفون في المعنى اللّامحدود”[18]، ومن مصاديق ذلك في السّيرة “كان يشعر [النّبيّ] في هذا الغار الصّغير الموحش، الّذي لا تزيد مساحته على مترين مربعين، بعيدا عن الدّنيا وأهلها، بحالة روحانيّة تشدّه إلى الاستمرار في الذّكر والتّأمل ….. والحال أنّه سيستمر في الخلوة والتّبتل حتّى بعد البعثة، لتشكل جزءا هامّا من حياته الرّبانيّة، وهي من سنن الرّسول المفقودة عند المسلمين”[19].

رابعا: توسيع دائرة الحريّة ورفع الإكراه، فيرى أنّ الله جعل “الإنسان خليفته على الأرض، ولا يمكن لمن كرّمه الله بهذه المهمّة الكبرى أن يجرّده من حرّيّته، والإنسان في الإسلام مخيّر، إذا هو حرّ، فلا خيار لمن لا حريّة له، …. وإذا لا إكراه في الدّين، فبالأحرى أن لا يكون إكراه في كلّ شيء من عبادات وعادات ومعاملات”[20]، ومن مصاديق ذلك قوله: “وعلى ضوء انتشار بعض تعاليم الإسلام ومبادئه … أدرك المسلمون العبيد والفقراء خصوصا أنّ الإسلام لم يأتِ ليحرّرهم من عبوديّة الجهل والشّرك فحسب؛ بل أيضا لينقذهم من كلّ صنوف الظّلم، وعبوديّة الإنسان للإنسان”[21].

كذلك في حادثة الهجرة النّبويّة من مكّة إلى المدينة “بعد الانتهاء من بناء المسجد، وتثبيت مبدأ المؤاخاة؛ انتقل الرّسول إلى خطوة تاريخيّة مهمّة، فصاغ النّبي – صلّى الله عليه وسلّم – وثيقة، عرفت بصحيفة المدينة المنورة، وهي جوهريّا وثيقة دستوريّة تاريخيّة، وضعت الأسس القانونيّة والتّشريعيّة لنظام الحكم في الإسلام، أقرت التّعدديّة، وحرّيّة الأديان والآراء واحترام الآخر، ورفض الإكراه والغلو بكلّ أشكاله، وقد مثلت بالفعل عقدا اجتماعيّا فريدا للمدينة”[22]، “مع تأكيد الوثيقة في مقدّتها أنّ المسلمين من الأنصار والمهاجرين أمّة واحدة …. يحتفظ اليهود بدينهم وكذلك المسلمون”[23].

خامسا: العدل الإلهيّ والإسقاط في الاجتماع البشريّ، حيث يرى أنّ “الدّعوة إلى إعمال العقل تتضمن بالضّرورة دعوة إلى إعمال الإرادة الحرة؛ لأنّ العدل الإلهيّ يشترط أن يكون الإنسان حرّا، أي حرّ الإرادة، ولذلك فالإكراه يتنافى ومبدأ القضاء والقدر؛ لأنّ من هو مكره على فعل ما لا يخضع لمبدأ الثّواب والعقاب؛ لأنّه لم يكن حرّا، وبالتّالي لا يستقيم العدل الإلهيّ نفسه، ولذلك فإنّ الإكراه من أيّ نوع هو مسّ بروح التّعاليم والقيم المحمديّة”[24].

ومن مصاديقه في الاجتماع البشريّ في السّيرة ما ذكره غباش من حال العرب قبل البعثة “هناك نزعة الحرّيّة لدى الإنسان العربيّ … شأنه شأن أصحاب الرّوح النّبيلة في كلّ مكان وزمان، يرفض الاستبداد والظّلم ، وكغيره يتوق إلى العدل والمساواة والحرّيّة”[25]، وفي المدينة المنورة بعد الهجرة “اعتمد [النّبي – صلّى الله عليه وسلّم –] في ممارسة نظام حكمه على أربعة مبادئ إسلاميّة: العدل، الحريّة، المساواة، واحترام التّعدديّة وعلى رأسها الشّورى”[26]، “وكان رسول العدل يمقت الاستبداد والمستبدين مقته للظّلم والشّرك، وبتفويضه الإلهيّ أرشدنا إلى أنّ احترام الرّأي الآخر في زمن السّلم كما في زمن الحرب”[27].

سادسا: تجانس الإسلام مع الفطرة، فيرى “الفطرة هي عقل الوجدان، وهي بطبيعتها مجبولة على حبّ الصّفات الرّبانيّة السّامية، حبّ الخير، والعدل، والحرّيّة، والجمال، والكمال، ومن طبيعتها أيضا أنّا لا تقبل الظّلم، أو الإكراه، والقهر، أو القبيح، ولا تتغذى إلا على المساواة والاحترام والقيم المثلى”[28].

سابعا: الباطل لا يزهق بالسّيف، “بل بالعقل وأدواته، أي بالفكر، والمنطق، وبالجدال بالّتي هي أحسن”[29].

ثامنا: تمايز الإسلام المحمديّ عن الإسلام السّياسيّ والمذهبيّ، لأننا – كما يرى – “نتحدّث عن الإسلام المحمديّ السّمح، لا الإسلام المذهبيّ الضّيّق، أو الإسلام السّياسيّ، بكل فروعه وإشكاله؛ لأنّها تتعارض وجوهر الإسلام المحمّديّ، ولأنّ الإسلام المذهبيّ كونه منغلقا على ذاته، فكرا وممارسة، لا يمكنه بحال بناء حضارة من أهم شروطها الانفتاح والتّسامح”[30].

ومن مصاديق الإسلام المحمديّ ما حدث في الهجرة إلى الحبشة حيث “أنّ الهجرة إلى الحبشة مثلت تجربة دينيّة وثقافيّة متميزة للجميع، فقد أنتجت تلاقحا ثقافيّا بين المسلمين العرب، والمسيحيين الأفارقة، ولا يزال موقف الرّسول الحكيم يغذي مشاعر الأخوّة الإسلاميّة المسيحيّة في أفريقيا”[31]، “وعندما أراد وفد نجران المسيحيون أن يقيموا صلواتهم في المسجد النّبويّ حاول بعض الصّحابة منعهم من ذلك، لكن عندما أبلغ النّبيّ طلبهم للصّلاة؛ وافق وسمح لهم بالصّلاة في مسجده، قائلا: دعوهم يصلّوا”[32].

قراءة الكتاب من الخارج

بعد قراءة الكتاب من الدّاخل، كان ضرورة قراءته من الخارج، وهو ليس نقدا، بقدر ما هو تأمل وتفكيك عام، وبعدما رأينا مقدّمة حسين غباش الرّائعة، وكانت الأصل مدار الكتاب، لكن مع تصفّح الكتاب وتأمله سنجده أقرب إلى سرد السّيرة النبويّة في أسلوب تربويّ تأمليّ، لهذا مصاديق المقدّمة لم تكن حاضرة بذلك الوضوح، كما أنّ جوهر التّصوّف في قراءة النّص أيضا لم يكن له حضور قويّ ولو في التّصوّف السّلفيّ الأرثذوكسيّ، مع حضور العديد من مفردات أدبياته كالزّهد مثلا، لكن كقراءة حديثة لم أجد له بروزا يميزه عن غيره من كتب السّير، وكنت أتمنى لو أنّ المرحوم حسين غباش جعل مقدّمة الكتاب كتابا بذاته أسقط على مدارات المقدّمة مصاديق من السّيرة إثباتا ونقدا، ولكن كلّ خير، وما قدّمه جهد يشكر عليه، وإضافة تضاف إلى حسناته في الدّنيا والآخرة.

كذلك الجانب النّقديّ لروايات السّيرة السّلبيّة لم يكن له بروز في هذه القراءة، كحادثة شق الصدر في طفولة النّبيّ – صلّى الله عليه وسلّم – ونحوها، إلا أنّه في حادثة قتل الأسرى في بدر حاول تقديم رؤية نقديّة له، أنّ المقصود من قوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال/ 67] فيقول: “ومن خلال قراءتنا للآية يتبيّن لنا أنّ الله كان يفضل استمرار القتال لكسر شوكة المشركين أكثر، ومعاقبتهم على تحدّيهم لأمر الله، وليس الانشغال بأخذ الأسرى، يقول تعالى: {حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} أي حتّى تكسر شوكة أعداء الإسلام، وحتّى يكون لهم النّصر الكامل المؤزر على المشركين”[33]، فهو لا يرى الثّخن قتل الأسرى كما هو مشهور، وأنّما الاستمرار في الحرب.

وفي حادثة مقتل بني قريظة عندما “سعد بن معاذ [ت 5هـ] الجريح، الّذي أصيب في معركة الخندق إصابة بالغة، من خيمته القريبة من مسجد الرّسول، وجاؤوا به إلى منطقة بني قريظة ليحكم فيهم، وعندما أخذ التزام الطّرفين بنتائج حكمه، حكم على الرّجال والقادرين على حمل السّلاح منهم بالإعدام، وسبي النّساء وأولادهم، فقال له الرّسول: “لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سابع سماواته” وفعلا نفّذ الحكم في الرّجال، وسبي الباقون”[34]، ومع قسوة هذا الحكم، والّذي قد يتعارض مع منطلقات المؤلف في الرّحمة المحمديّة؛ حاول المؤلف أن يجد مخرجا له، فكان المخرج في عدد من قتل، حيث يقول: “لا يوجد أرقام حقيقيّة حول عدد من قتل، هناك أكثر من عشر روايات حول الموضوع، ومنها الإسرائيليات الموسومة بالتّحريف والكذب، والّتي دست، حتّى في كتب الحديث، وربّما في بعض السّير، فمنهم من قال كانوا ثمانين رجلا، ومنهم من قال أكثر من ثلاثمائة، والرّقم الأصح لدى المسلمين أنّهم كانوا لا يزيدون عن ثلاثة وعشرين رجلا، وهذا يبدو أكثر منطقيّا، خصوصا أنّهم قبل أن ينفذ فيهم الحكم كانوا محبوسين في بيت صغير من بيوت المدينة، الّتي لم تكن تتسع لأكثر من عشرين شخصا”[35].

أيضا هناك تناقض في نظري وقع في روايات السّيرة وذكرها المؤلف، قد تسيء إلى النّبيّ – صلّى الله عليه وسلّم – نفسه، الأولى لمّا اتّفق عمير بن وهب [توفي بعد 20هـ في عهد عمر] مع صفوان بن أميّة [ت 41هـ] على قتل النّبيّ، “وقد ضمن له صفوان أنّه لو كشف أمره أو قتل  سيسدد كلّ ديونه، وسيتكفل بأبنائه، فتمّ الاتّفاق على ذلك، وطلب عمير  من صفوان أن يكتم السّر”[36]، فلمّا دخل على النّبيّ ومع سيفه المسموم حاول عمر بن الخطاب [ت 23هـ] منعه، إلا أنّ الرّسول أمر بإدخاله سائلا له: “فما جاء بك يا عمير؟ فقال: جئت لابني الأسير الّذي بين أيديكم، فقال الرّسول: فما بال السّيف الّذي في عنقك؟ فردّ: قبّحها الله من سيوف وهل أغنت عنّا شيئا، فقال الرّسول: اصدقني، ما الّذي جئت له، فردّ قائلا: ما جئت إلا لذلك، فقال الرّسول – صلّى الله عليه وسلّم –: بل جئت لأمر آخر، لقد جلست مع صفوان بن أميّة في الحجر، فذكرتما أصحاب القليب من قريش، ثمّ قلت: لولا دين عليّ، وعيال عندي؛ لخرجت أقتل محمّدا، فتحمّل لك صفوان دينك، وعيالك على أن تقتلني، والله حائل بيني وبينك”[37]، فهنا تفاجأ عمير، وكاد أن يسقط على الأرض، ثمّ أسلم.

بينما في رواية أخرى في السّنة الرّابعة للهجرة طلب أبو براء من زعماء بني عامر  [ت ؟] من النّبيّ “إرسال مجموعة من حفظة القرآن لدعوة أهل نجد، فقال له الرّسول: إنّي أخشى عليهم أهل نجد، فقال أبو براء: أنا لهم جار، فليدعوا النّاس إلى أمرك، فاختار الرّسول سبعين رجلا من حفظة القرآن ….. ولكن حال وصولهم إلى المنطقة، قام رجل يدعى عامر بن الطّفيل، وحرّض عليهم بعض القبائل، وفعلا طوّفوا في منطقة بئر معونة، وأبيدت المجموعة بأكملها، ولم يبق منهم إلا واحد، وهو عمرو بن أميّة”[38].

سنجد في الرّواية الأولى علم النّبيّ باتّفاق عمير بن وهب مع صفوان بن أميّة، وهو من الغيب، فكان نجاة نفسه، بينما غاب في الرّواية الثّانية، مع أنّه كان ضحيتها ما يقارب سبعين رجلا من ضعفاء قومه، والله وصف أنبياءه على لسان نوح – عليه السّلام -: {وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [هود/ 31].

كما توجد بعض الملحوظات الخارجيّة، أولها أشار المؤلف – رحمه الله – في صفحة (41) أنّ السّامريين من اليهود، وحافظوا على ديانتهم اليهوديّة من الانحرافات الّتي لحقت بها، وهذا خطأ منهجي؛ لأن لفظة اليهوديّة ظهرت بعد السّبيّ البابليّ، وقبلها لم يعرف، ولهذا فئة من بني إسرائيل ممّن لم يتعرضوا للسّبيّ بقوا على اسمهم وأطلق عليهم السّامريون نسبة إلى السامرة عاصمة إسرائيل الشمالية، ويرفضون لفظة اليهوديّة، كما أنّ اليهود لا يعتبرون السّامريين مذهبا يهوديّا، فهذا التّشكل ظهر متأخرا كتشكل منفصل من بني إسرائيل، ولم يخرج أحدهما من الآخر ليشكل مذهبا منفصلا.

كذلك ذكر المؤلف في صفحة (47) أنّ والد سلمان الفارسيّ من منطقة أصفهان، وكان والده مجوسيّا من عبّاد النّار، والزّرادشت في أصفهان أو في مركزهم يزد – حسب علميّ – لا يعبدون النّار، ويرون بوجود إله أو إلهين للخير والشّر، لكنهم لا يعبدون النّار، وإنّما يرون “النّار هي رمز للنّور، والنّور قبلة لهم، ففي الظّهر مثلا يستقبلون الشّمس، وفي اللّيل يستقبلون الإضاءة أو النّار”[39].

كذلك أشار المؤلف في صفحة (31) إلى عبادة العرب للأصنام، وفي صفحة (131) إلى وثنيّة المدينة وهذا يحتاج إلى تحقيق، منها الدّيانات العربيّة في الجزيرة العربيّة، وموضع الأصنام بين التّوسل والوثنيّة، وموقع الدّهريّة في الجزيرة العربيّة، وربط الإسلام والحضارة العربيّة بالبعثة، والتّصوير السّلبي المبالغ له في حضارة العرب قديما، وحصرها في الحجاز، وتضييق لسان العرب، ونحوها ممّا يحتاج إلى قراءات جديدة وناقدة ومنصفة في الوقت ذاته، وعدم الاقتصار على ما ورد في الرّوايات المدونة لاحقا فحسب.

أيضا أشار المؤلف في صفحة (153) إلى أنّ المقصود بالصّابئة في آية {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة/ 62] نقلا عن كونستانس جيورجيو [معاصر] في كتابه “نظرة جديدة في سيرة رسول الله” هم عبدة النّجوم والملائكة، وهذا خطأ منهجيّ وتأريخيّ – في نظري -، لأنّ “الصّابئة منبثقة من اللّغة الآراميّة القديمة، وهي ديانة عرفانيّة غنوصيّة رمزيّة”[40]، وهم موحدون، وما ذكره جيورجيو هم صابئة حران، وهؤلاء ظهروا في أواخر أيام المأمون العباسي [ت 218هـ]، وهذا الخلط الّذي حدث مع ابن تيميّة [ت 728هـ]، واتصوّر صابئة حران سامريين، وهؤلاء لا يعبدون النّجوم والكواكب لهم اهتمام بذلك، وبقراءة النّجوم والكواكب وعلم الفلك والتّنجيم عموما.

ما أسلفت ذكره لا يقلل من أهميّة الكتاب وقيمته، ولكنّها رؤيّة شخصيّة معرفيّة من الخارج لا أكثر، قد تصيب، وقد يكون خطؤها أكبر، ولكنّها تبقى في دائرة المعرفة والبحث، والحمد لله ربّ العالمين.


[1] غباش: حسين، محمّد، قراءة حديثة في سيرة رسول النّور والسّلام؛ ط دار الفارابي، لبنان – بيروت، الطّبعة الأولى، 2018م، ص: 15.

[2] المرجع نفسه، ص: 15.

[3] المرجع نفسه، ص: 16.

[4] ينظر المرجع نفسه، ص: 16.

[5] للمزيد ينظر: الكلاباذيّ: أبو بكر محمّد بن إسحاق، كتاب التّعرف لمذهب أهل التّصوّف؛ تحقيق: محمّد أديب الجابر، ط دار نينوى، الطّبعة الأولى 2021م.

[6] لمعرفة معالم هذا التّصوّف ينظر مثلا: الغزالي: أبو حامد محمّد بن محمّد، إحياء علوم الدّين، ط دار الفكر، لبنان – بيروت، ط 2001م، وكتابه: المنقذ من الضّلال، ط دار الفكر، لبنان – بيروت.

[7] ينظر مثلا: ابن عربي: محي الدّين، الفتوحات المكيّة، ط المجلس الأعلى للثّقافة، مصر/ القاهرة، ط 2013م.

[8] غباش: حسين، محمّد، التّصوّف مدار السّالكين إلى الله؛ ط دار الفارابي، لبنان – بيروت، الطّبعة الأولى، 2016م، ص: 14.

[9] المرجع نفسه، ص: 14.

[10] غباش: حسين، محمّد، قراءة حديثة في سيرة رسول النّور والسّلام؛ مرجع سابق، ص: 13.

[11] ينظر: غباش: حسين، محمّد، التّصوّف مدار السّالكين إلى الله؛ مرجع سابق، ص: 16 – 17.

[12] غباش: حسين، محمّد، قراءة حديثة في سيرة رسول النّور والسّلام؛ مرجع سابق، ص: 18.

[13] المرجع نفسه، ص: 17.

[14] المرجع نفسه، ص: 19.

[15] المرجع نفسه، ص: 187.

[16] المرجع نفسه، ص: 292 – 293.

[17] المرجع نفسه، ص: 20.

[18] المرجع نفسه، ص: 22.

[19] المرجع نفسه، ص: 62 – 63.

[20] المرجع نفسه، ص: 24.

[21] المرجع نفسه، ص: 90 – 91.

[22] المرجع نفسه، ص: 151.

[23] المرجع نفسه، ص: 151.

[24] المرجع نفسه، ص: 24 – 25.

[25] المرجع نفسه، ص: 34.

[26] المرجع نفسه، ص: 155 – 156.

[27] المرجع نفسه، ص: 156.

[28] المرجع نفسه، ص: 25.

[29] المرجع نفسه، ص: 26.

[30] المرجع نفسه، ص: 28.

[31] المرجع نفسه، ص: 108.

[32] المرجع نفسه، ص: 308.

[33] المرجع نفسه، ص: 190.

[34] المرجع نفسه، ص: 254.

[35] المرجع نفسه، ص: 254 – 255.

[36] المرجع نفسه، ص: 194.

[37] المرجع نفسه، ص: 194 – 195.

[38] المرجع نفسه، ص: 222.

[39] العبريّ: بدر بن سالم؛ التّعارف، تعريف بالذّات، ومعرفة بالآخر، ط الجمعيّة العمانيّة للكتّاب والأدباء، والآن ناشرون وموزعون – الأردن، الطّبعة الأولى، 2022م، ص: 22.

[40] المرجع نفسه، ص: 358.

السابق
قراءة وصفيّة في فكر صادق جواد سليمان “قراءة من الدّاخل”
التالي
بحث تنمية إيرادات أموال الزّكاة والصّدقات
– تنويه:

عدد من الصور المستخدمة للمقالات مأخوذة من محرك google

اترك تعليقاً