المقالات التأريخية

شجرة البابيّة: من الأخباريّة فالشّيخيّة فالرّشتيّة فالإحقاقيّة والكريم خانيّة والبابيّة ثمّ البهائيّة

صحيفة المثقف – استراليا، الاثنين: 4 ذو الحجة 1445هـ/ 11 يونيو 2024م

في رحلتي إلى شيراز عام 1444هـ/ 2023م مررت صباح يوم الاثنين الثّالث من شوال، يوافقه 24 أبريل على جامع أمامه شجرة كبيرة، فسألني صاحبي الشّيرازيّ: أتعرف هذا المكان، فقلت: لا، فقال هنا كان بيت الباب، أي يقصد السّيّد عليّ محمّد الشّيرازيّ (1266هـ/ 1850م)، وأعلن دعوته بأنّه المهديّ الموعود للتّبشير بمن يظهره الله أي حسين عليّ النّوريّ الملقب ببهاء الله (ت 1309هـ/ 1892م)، وكان ذلك “في السّاعة الثّانية والدّقيقة الحادية عشرة بعد الغروب من اللّيلة الخامسة من جمادى الأولى عام ١٢٦٠ هـ / ٢٣ مايو ١٨٤٤م”[1]، ويرى البهائيون أنّ الحدث كان في “غرفة علويّة من بيت متوسط الحال يسكنه ابن تاجر أقمشة من شيراز، ويقع في حيّ متواضع من أحياء المدينة، وكان الوقت قبيل غروب شمس اليوم الثّاني والعشرين من شهر أيار ١٨٤٤م بساعة، أمّا المشتركان فيه فكانا حضرة الباب، وهو سيّد في الخامسة والعشرين لا تشوب انتسابه إلى العترة الطّاهرة شائبة، والملّا حسين الشّاب أول من يؤمن به، والظّاهر أن لقاءهما قبل ذلك بقليل كان وليد الصّدفة المحضة، أمّا اللقاء نفسه فقد طال حتّى مطلع الفجر، حيث بات صاحب البيت منفرداً بضيفه في الغرفة العلويّة، ولم تكن المدينة النّائمة على علم قليل أو كثير بمضمون ما دار بينهما من حديث”[2]، “واعتبر البابيون والبهائيون من بعدهم هذا اليوم عيد المبعث”[3]، كما اعتبر هذا البيت وبيت بهاء الله في بغدد الّذي أعلن في دعوته مكان حجّهم وزيارتهم، “وكان البيت قائما ويزار قبل قيام الثّورة في إيران 1979م، وبعد نجاحها حرّض بعض رجال الدّين على المكان، وحرّضوا النّاس والبلدية والشّرطة، فاستطاعوا هدمه والبيوت الّتي حوله، وحول إلى مسجد”[4].

ومن المعلوم بعد وفاة السّفير الرّابع أي عليّ بن محمّد السَّمريّ عام 329هـ دخل الإماميّة في غيبة كبرى حتّى اليوم، وبما أنّ الإماميّة يقولون باستمرار النّصّ مع الأئمّة الاثني عشر، دخلوا بعد الغيبة الصّغرى في فترة ما بعد النّصّ، وهنا بدأ يظهر التّيار الفقهيّ وولد عنه التّيار الأصوليّ، وفي أوائل القرن الحاديّ عشر ولد التّيار الأخباريّ مع الميرزا محمّد أمين الإستراباديّ[5] (ت 1023هـ/ 1615م)، والفارق بين الأخباريين والأصوليين في موارد أهمها: “إسقاط دليلي الإجماع والعقل من الأدلّة الأربعة[6] المذكورة في أصول الفقه، والّتي يعتمدها الفقيه في استنباط الأحكام الشّرعيّة، فقد اقتصروا على الكتاب والخبر – السنّة -، وأوجبوا العمل بالأخبار؛ لذلك سمّوا بـالأخباريين والأخبارية، وهم يقدّمون الخبر مهما كانت درجته على الدّليل العقليّ، وحجّتهم في ذلك أنّ الاجتهاد رأي، والرّأي لا يجوز في الدّين، بينما يرى الأصوليون القياس رأيا، ولا يجوّزون الرّأي في العبادة والدّين لذلك رفضوه، وهم يمنعون الاجتهاد في الأحكام الشّرعيّة، ومن تقليد المجتهد، ويقولون بالرّجوع إلى الإمام، وذلك بالرّجوع إلى الأخبار المروية عنه الواردة عن النّبيّ وأهل بيته – عليهم السّلام-، ويرون أنّ ما في الكتب الأربعة[7] التي عليها المدار عند الشّيعة قطعي السّند أو موثوق بصدوره؛ فلا حاجة إلى البحث في سنده؛ لأنّ مؤلفيها قد انتقوا الأخبار، وحذفوا منها ما رواه الضّعفاء والمجروحون، وأثبتوا ما رواه الثّقات فقط، أو قامت القرائن عندهم على صحته … بينما قسّم الأصوليون الأخبار إلى أنواعها المعروفة من صحيح، وحسن، وموثق، وضعيف، وغيرها، وهم يرون أنّ أغلبها غير قطعي السّند، وأنّها مختلفة المراتب، وهي لذلك ظنيّة الدّلالة، فيجب على الفقيه أن يبحث في أسانيد الرّواية عند العمل بها، ولا يجوز له العمل بكلّها والحكم بصحتها؛ إذ لو سلّمنا بأن جامعيها قد انتقوا أحاديثها – كما يقول الأخباريون – فهم قد فعلوا ذلك بحسب اجتهادهم، وهو ممّا يجوز عليه الخطأ، فإذا بان لنا الخطأ برؤية أسانيد الضّعفاء المجروحين فما الّذي يسوّغ لنا تقليدهم، ولمّا كان الأخباريون ينكرون الاجتهاد فقد نفوا الحاجة إلى علم الأصول، زاعمين أنّه من وضع غيرنا”[8] أي الإماميّة.

وكما رأينا “كانت بداية ظهور الأخباريين في مطلع القرن الحادي عشر للهجرة على يد الشّيخ محمّد أمين الاستراباديّ صاحب الفوائد المدنيّة، إلّا أنّها تجدّدت بشدّة في أواخر القرن الثّاني عشر، وقد دارت رحى المعركة بين الفريقين – الأخباريين والأصوليين – في كربلاء بقيادة زعماء الدّين وكبار المراجع … واستمرّ الصّراع الفكريّ قائما بشدّة وشراسة واتّساع في النّصف الأول من القرن الثّالث عشر، فجرت مناقشات طويلة بين الفريقين، وظهرت كتب عديدة في الرّد على الأخباريين. وكانت اللّهجة قاسية، والأسلوب نابيا، وقد تزعم فريق الأخباريين في تلك الفترة الميرزا محمّد النّيشابوريّ المعروف بالأخباريّ (ت 1233هـ/ 1818م)، كما تزعم فريق الأصوليين الشّيخ جعفر كاشف الغطاء النّجفيّ (ت 1228هـ/ 1813م)”[9].

في هذه الفترة ظهرت شخصيّة اقتربت من الأخباريّة في العقائد، ومن الأصوليّة في الفقاهة والأحكام، وإن كان أقرب إلى الأخباريين في الجملة، والّتي سيكون لها تطوّرها وتأثيرها معا، وهي شخصيّة الشّيخ أحمد الإحسائيّ (ت 1241هـ/ 1825م)، وأثار العديد من القضايا في العراق وإيران، منها انفتاحه على الجانب الكشفيّ بشكل أكبر، وتبشيره بقرب ظهور المهديّ، والمبالغة في تقديس الأئمّة الاثني عشر، ووصفهم ببعض صفات الألوهيّة، ووصفهم بالعلل الأربعة في الكون، أي الفاعلة، والصّوريّة، والماديّة، والغائيّة، بجانب المبالغة في تأويلاته الباطنيّة للنّصوص، والقول بالمعاد الهورقليائيّ لا الجسمانيّ يوم القيامة، والهورقليائيّ يعني جسم لطيف بين المادّة والرّوح،  كما يرى المعراج الرّوحانيّ وليس الجسمانيّ، مع إيمانه بالأصول الخمسة عند الإماميّة، وهي التّوحيد والنّبوة والمعاد والإمامة والعدل، ومع هذا عمّ “الخلاف حول آرائه، فكان علماء عصره فريقين أيضا: مؤيّد ومفند، وتطوّرت الخصومة غير الشّريفة حتّى وصل التّطرف ببعض معارضيه أن أعلن تكفيره ونجاسته، وكثرت التّقوّلات حوله، والاعتداءات على كرامته، فحدا ذلك الوضع الشّائن بتلامذته وأتباعه – الّذين كثروا بفاصلة قصيرة – على أن يكيلوا الصّاع صاعين، وتوالت الأحداث البشعة … فخرج الأحسائيّ خائفا يترقب، وفرّ إلى مكّة المكرمة للنّجاة بنفسه وعياله، فوافاه الأجل بالقرب من المدينة عام (١٢٤١هـ / ١٨٢٥م)، ودفن بجوار أئمّته في البقيع”[10].

ثمّ واصل مسيرة الشّيخ الإحسائيّ السّيّد كاظم الرّشتيّ (ت 1259هـ/ 1843م)، وكان من خلص تلاميذه، ، “وقد حرص على اغتنام الفرص في مواسم التّجمع كزيارة عرفة والغدير وعاشوراء وغيرها – حيث ينهال النّاس على كربلاء والنّجف من كلّ حدب وصوب – على نشر أفكار أستاذه الأحسائيّ بشتى الوسائل”[11]، وكانت له مكانة مع آل عثمان وفي الهند والحجاز وإيران، ومن مكانته في إيران أنّ البلاط القاجاريّ في إيران مال “إلى الشّيخيّة بدوافع خفيّة، وضغط لا مباشر على السّلطان محمّد شاه؛ ذلك أنّه كان قد سمل عيون عدد من بني عمومته، وكان من عادة البلاط الإيرانيّ أن يسمل عيون خصومه، ويعمي كلّ من يخاف شرّه، ويخشى فتكه، ليحول بينه وبين العمل على قلب نظام حكمه، ونفي أولئك العميان إلى العراق بدون مؤونة، ومذ بلغ الرّشتيّ نبأ وصولهم وحاجتهم أرسل إليهم واحتضنهم، وقام بلوازمهم كافّة، عطفا عليهم وتقربا إلى الله، ووصلت أنباء ذلك إلى طهران فاستمالت قلوب الكثيرين، وأوجدت له أنصارا من آل قاجار وغيرهم من العاملين في البلاط وخارجه، والّذين لم يرق لهم ما لقيه بنو عمومتهم من أذى واضطهاد، والّذين أعجبوا جدّا بكفالة الرّشتيّ لهم دون أن ينتظر جزاء أو شكورا، وبذلك صار له ذكر حسن، ورصيد حكومي وشعبي، وبعد أن أفرج عن أولئك وسمح لهم بالعودة إلى إيران صاروا ركيزة للأفكار الشّيخيّة في بلاط آل قاجار، وقد ساعدت تلك العوامل مجتمعة على دعم مركز الرّشتيّ، وتوسيع دائرته، ونشر أفكار شيخه الأحسائيّ، وتضخم عدد المنتسبين إليه، والملتقين حوله، إلا أنّ ذلك كلّه لم يصنه من الأذى … فقد تكالبوا عليه، وقر رأيهم على إحضاره في مجلس لمحاكمته واستنطاقه حول معتقداته؛ وهكذا كان، وقد غالطوه للتمويه على العوام، ولم يتورع بعضهم عن اتّهامه بالكفر، وقد تعرّض للاغتيال مرارا، إلّا أنّه ظلّ على شوكته ودعوته حتى توفي عام ١٢٥٩هـ / ١٨٤٣م”[12]، والرّشتيّ لم يخرج عن أفكار شيخه الإحسائيّ، وظلّ مبلغا لأفكاره، ومبشرا بقرب ظهور المهدي، وهناك من نسب أنّ مسألة الرّكن الرّابع بدأت مع كاظم الرّشتيّ، وقيل مع الإحسائيّ[13]، إلّا أنّ غالب الشّيخيّة ينكرون هذا، ويرون أنّها بدأت مع الكرمانيّة كما سيأتي.

كانت إيران في العهد القاجاريّ وما بعده كانت أرضا خصبة للشّيخيّة، رغم ولادة فكرها في النّجف والعراق، ومن إيران هاجرت إلى البصرة والكويت وغيرها من دول المهجر في الخارج، وعموما بعد وفاة الرّشتيّ حدث انقسام في الشّيخيّة، في البداية كان انقساما على الزّعامة ثمّ تحول إلى انقسام فكريّ ودينيّ، ففي بلاط آل عثمان انتقلت إلى ابنه أحمد كاظم الرّشتيّ، إلّا أنّه قتل “وهو خارج من باب الصّحن الحسينيّ بعد تأدية فريضة الصّلاة، وذلك عام ١٢٩٥ هـ / ۱۸۷۸م”[14]، وفي كربلاء انتقلت الشّيخيّة إلى الشّيخ حسن جوهر الحائريّ (ت 1260هـ/ 1844م)، ويعتبر من كبار تلاميذ الشّيخين الإحسائيّ والرّشتيّ، ومؤسّسا للشّيخيّة الإحقاقيّة الكشفيّة، وهي اليوم الشّيخيّة الأغلب في إيران والعراق والبصرة والكويت، وترى نفسها الوريث الحقيقيّ للشّيخين الإحسائيّ والرّشتيّ، والممثل الصّحيح للشّيخيّة، ومن كربلاء انتقلت إلى تبريز في إيران، حيث ارتبطت بالشّيخ محمّد باقر الأسكوئيّ الحائريّ (ت 1301هـ/ 1884م)، ولهذا سميت بالشّيخيّة الأسكوائيّة أو  الأسكوئيّة، ومحمّد باقر كان تلميذا لحسن جوهر، ثمّ انتقلت إلى ابنه موسى بن محمّد باقر الأسكوئيّ الحائريّ (ت 1364هـ/ 1945م)، وقد ألف كتاب “إحقاق الحقّ” فسميت الشّيخيّة الإحقاقيّة، كما سميت بالتّبريزيّة نسبة إلى تبريز، ومن هؤلاء شيخيّة أذربيجان وتسمّى الشّيخيّة ثقة إسلاميّة، وهذه الفرقة لها حضور كبير في الكويت حاليا، ولا تختلف عن الإماميّة إلّا في بعض الاجتهادات، وترفض القول بالرّكن الرّابع، ولها أيضا تأويلات باطنية في بعض اجتهادات أفرادها.

وفي كرمان وسط إيران انتقلت الزّعامة إلى الشّيخ محمّد كريم خان (ت 1288هـ/ 1873م)، وكان تلميذا ومقربا عند الشّيخ كاظم الرّشتيّ، ولا زالت زعامة الشّيخيّة في هذه الأسرة في كرمان حتّى اليوم، وتسمّى بالشّيخيّة الكرمانيّة أو الكريمخانيّة،نسبة إلى كرمان أو كريم خان، كما تسمّى أيضا بالشّيخيّة الرّكنيّة؛ لأنّهم قالوا بالرّكن الرّابع، فعندهم أصول الدّين أربعة: التّوحيد والنّبوة والإمامة والرّكن الرّابع، واختلف في المراد بالرّكن الرّابع، فقيل هو الإنسان الكامل الّذي يكون واسطة بين الشّيعة الإماميّة والإمام الغائب، ولابدّ أن يكون حيّا، وعلاقته بالإمام الغائب بلا واسطة، فكان الشّيخ الإحسائيّ هو الرّكن الرّابع، ثمّ انتقلت إلى كاظم الرّشتيّ، ثمّ إلى محمّد كريم خان، وهكذا انتقلت الزّعامة إلى البصرة عام 1980م، وكان زعيمهم فيها السّيّد عليّ بن عبد الله الموسويّ البصريّ (ت 1436هـ/ 2015م)، وحاليا مع ابنه عبد العالي بن عليّ الموسويّ، ويسمون فيها بالحساويّة نسبة إلى الشّيخ الإحسائيّ، كما يسمون بأولاد عامر؛ لأنّهم ينتشرون في هذه القبيلة، وقيل سمي الرّكن الرّابع من التّولي، أي ولاية أهل البيت، وبغض أعداء أهل البيت، ونسب إليهم خصومهم كمحمّد مهدي الخالصيّ (ت 1343هـ/ 1963م) أي هو الله ظهر في صورة محمّد، ثمّ ظهر في صورة الأئمّة، ثمّ ظهر في صورة الإحسائيّ ومن بعد[15]، ولكن هذا من تأويل الخصوم، وعادة لا يعتدّ به.

وكان قد وفد إلى كرمان الشّيخ محمّد باقر الشّریف الطّباطبائیّ (ت 1319هـ/ 1901م)، ودرس على يدي الشّيخ محمّد كريم خان، وتبنى فكره، إلّا أنّه عارضه لاحقا في الرّكن الرّابع، أو وحدة النّاطق، وصار لها أتباع “في همدان ونائين وجندق”[16]، “وظهرت كفرقة ثالثة، غير أنّها سرعان ما عادت إلى أصلها الأول”[17].

وفي شيراز – كما أسلفنا – تولى الزّعامة السّيّد عليّ محمّد الشّيرازيّ، وكان تلميذا عند الشّيخ كاظم الرّشتيّ رغم صغر سنه، “وكان المولى حسين البشرونيّ أول من آمن به، ولذلك عبّر عنه الباب بباب الباب، واعتبره داعيته الأوّل، وأمره أن يضرب في الأرض مبشرا بالدّعوة الجديدة، فسافر إلى كاشان وقم وطهران و خراسان، وقد قتل في حادثة قلعة الطبرسيّ”[18] عام 1265هـ/ 1849م، “ولمّا اجتمع حوله ثمانية عشر شخصا من المؤمنين به سمّاهم حروف حي؛ فالحاء في الحساب الأبجدي تعادل ثمانية، والياء تساوي عشرة”[19]، وكان من أهم من آمن به ونشرد دعوته قرة العين القزوينيّة (ت 1269هـ/ 1852م)، واسمها “زرين تاج ابنة الحاج ملّا صالح القزوينيّ”[20]، وللدّكتور عليّ الورديّ (ت 1416هـ/ 1995م) كتاب “هكذا قتلوا قرة العين”، وهي أول من كشفت النّقاب، وأبدت وجهها أمام مجموعة من الرّجال في مؤتمر بدشت بين خراسان ومازندران عام 1264هـ/ 1848م، وفيه أعلن نسخ الشّريعة الإسلاميّة، وحقّ المرأة في العمل، والمساواة بين الجنسين، وقد أعلن الباب أنّه “المبشر بالمظهر الإلهيّ الّذي وعدت به الأديان السّماويّة”[21]، ويقال إنّه أبطل الجهاد، وله العديد من الألواح، ومن أهم آثاره الآيات الشّيرازيّة، وتفسير سورة يوسف، إلّا أنّ كتاب البيان يعتبر من أهم كتبه، والّذي قاده إلى الإعدام، وفي أول كتبه وألواحه في كتابه قيّوم الأسماء دعوته الصّريحة في “الاتّصال بالعلم الإلهيّ عن طريق الإمام، إذ لا يمكن لدعوة الباب أن تستقيم بغياب أطروحة العلم الباطنيّ الإلهيّة”[22]، “ثمّ “أعلن عام 1849م أنّه القائم الموعود نفسه، وبعد ذلك بزمن أعلن أنّه ظهور من الظّهورات الإلهيّة”[23]، وقد انتشرت دعوته، ولقت قبولا لدى العديد من الشّباب خصوصا، وامتدت خارج إيران، ثمّ بإعلان الباب “الانفصال عن الدّين الاسلاميّ …. أدّى إلى ضرب سلطة المراجع الدّينيّة كافّة”[24]، ممّا “عمّت المدن الإيرانيّة مواجهات دمويّة، من مثل تلك الّتي حدثت عام ١٨٤٨م في مازندران، وفي عام ١٨٤٩م في قلعة الشّيخ الطّبرسيّ”[25]، واتخذت طابع المواجهات، حيث “هبّ في وجهها العلماء على اختلاف بلادهم واتّجاهاتهم ولغاتهم، وأعلنوا استنكارها بالخطب والتّأليف وبقيّة وسائل الدّعاية والإعلام، ووقفت الحكومتان: الإيرانيّة والعثمانيّة إلى جانبهم، وأفتى المجتهدون بكفر الباب ووجوب قتله، فأعدم بالرّصاص يوم الاثنين، في السّابع والعشرين من شهر شعبان سنة ١٢٦٥هـ / تموز ١٨٤٩م ، كما تدّعيه سجلّات الحكومة الإيرانيّة، أو في السّابع والعشرين من شهر شعبان سنة ١٢٦٦هـ / التّاسع من تموز سنة ١٨٥٠م ، كما تقوله كتب البابيّة”[26]، وبعد إعدامه “لاحقت السّلطات أتباع الحركة البابيّة في كلّ مكان … حتّى إنّه يمكن القول إنّ أغلبهم قد أبيد سنة 1852م، ومن ضمنهم أبرز رموز الحركة [أي] حروف حيّ”[27].

ومع هذا كانت البابيّة تتمدّد في الخفاء، وانقسمت إلى ثلاث اتّجاهات، الفريق الأول البابيّة الخلّص، فهم آمنوا بالباب، ولم يدعوا النّبوّة، وتمسكوا بتعاليمه وألواحه، وأنكروا دعوة الميرزا يحيى نوري المازندرانيّ الملقب بصبح أزل، ودعوة أخيه الميرزا حسين عليّ نوري المازندرانيّ الملقب ببهاء الله، وهذه الفرقة تقلصت مع مرور الوقت، ولا أدري هل أتباع حاليا في إيران وخارجها أم لا، ولمّا سألت عنها في إيران كان الجواب بالنّفي، ولعلّه يوجد بعض الأفراد في الخفاء.

والفريق الثّاني هم البابيّة الأزليّة، نسبة إلى الميرزا يحيى نوري المازندرانيّ (ت 1330هـ/ 1912م)، الملقب بصبح الأزل، وادّعى أنّه خليفة الباب، وبعد وفاته في قبرص حدثت انقسامات فيمن يخلفه، ولا أدري أيضا هل أتباع حاليا في إيران وخارجها أم لا.

والفريق الثّالث هم البهائيّة، وهم أتباع حسين عليّ النّوريّ (ت 1309هـ/ 1892م)، الملقب ببهاء الله، وهو الأخ غير الشّقيق لصبح الأزل، وأصلهم من طهران، وقد أعلن دعوته في بغداد عام 1863م بعد نفيه مع أخيه صبح الأزل، وقد تحدثتُ عنها بإسهاب في كتابي “التّعارف”[28]، وترى البهائيّة أنّ بهاء الله هو الظّهور الإلهيّ الّذي بشر به الباب، ومن أهم كتبهم المقدّسة الإيقان، ثمّ الأقدس، وفي الثّاني نسخ للعديد من الأحكام الإسلاميّة، ولهم نظامهم البهائيّ الخاص، وفي عهد الشّاه كانت لهم حريّة النّشاط والتّبشير في إيران، إلّا أنّه حاليا يمنعون من التّبشير، وتمّ ربطهم بالصّهيونيّة، وغير معترف بهم حاليا في إيران.

بيد أنّ البهائيّة لها انتشار في العالم، ولهم مؤسّساتهم ومحافلهم في العديد من أقطار الأرض، وقد انقسموا أيضا إلى أربعة فرق: “البهائيون العبّاسيون، وهم الغالبيّة، ويرون عبد البهاء عبّاس (ت 1921م) ابن بهاء الله المفسّر الوحيد لتعاليم أبيه، ولمركز العهد والميثاق، ومن بعده ابنه ولي الله شوقي أفنديّ (ت 1957م)، ومن بعده لبيت العدل على سفح جبل الكرمل بحيفا، وتأسّس عام 1963م، وعدد أعضاء بيت العدل تسعة أشخاص، ينتخبون سريا لمدّة خمس سنوات في عيد الرّضوان البهائيّ، ولهم الصّلاحيّة الوحيدة في تفسير النّصوص البهائية، والإجابة والتّوجيه فيما يتعلّق بالجامعة البهائيّة، كما لهم سلطة روحيّة؛ والثّانية البهائيّة الموحدون، التّابعة للميرزا محمّد عليّ (ت 1937م)، ويعتبرونه الغصن الأعظم، وولي أمر الله؛ والثّالثة البهائيون الأرثوذكس، ويرفضون أن تكون الولاية بعد شوقي أفنديّ لبيت العدل الأعظم، وإنّما لسكرتيره تشارلز ميسون ريمي (ت 1974م) المسمى أيادي أمر الله؛ والرّابعة فرقة التّربيّة البهائيّة، أو فرقة ريكس كينغ، ويرون أنّ تشارلز ميسون ريمي لم يكن وليّ الأمر وإنّما وصي مؤقت حتى يتقدّم أحد أحفاد بهاء الله الحقيقيين لتولي أمر الدّين البهائيّ، واعتبر ريكس كينغ أيضا نفسه وصيا مؤقتا وأفراد عائلته”[29]، والفرق الثّلاثة الأخيرة إمّا إنّها اندثرت، أو قليلة العدد حاليا عدا الأولى كما أسلفتُ.


[1] آل الطّالقانيّ: محمّد حسن، الشّيخيّة: نشأتها وتطوّرها ومصادر دراستها؛ ط الأميرة، لبنان – بيروت، الطّبعة الأولى، 1428هـ/ 2007م، ص: 49.

[2] ربّاني: شوقي أفندي، القرن البديع؛ ط دار النّشر البهائيّة في البرازيل، ط 2002م، ص: 23.

[3] آل الطّالقانيّ: محمّد حسن، الشّيخيّة: نشأتها وتطوّرها ومصادر دراستها؛ سابق، ص: 49.

[4] لقاء مع البهائي من أصول إيرانيّة ع.ب، مساء الأربعاء 22 ذو القعدة 1445هـ/ 29 مايو 2024م.

[5] ينظر مثلا: الصّدر: محمّد باقر، المعالم الجديدة للأصول؛ ط دار التّعارف للمطبوعات، لبنان – بيروت، الطّبعة الثّالثة، 1401هـ/ 1981م، ص: 43.

[6] أي الكتاب والسّنّة والإجماع والعقل.

[7] أي الكافي للكلينيّ (ت 329هـ/ 940م) ويتضمّن الأصول والفروع والرّوضة، والتّهذيب للطّوسيّ (ت 460هـ/ 1068م)، والاستبصار للطّوسيّ أيضا، ومن لا يحضره الفقيه للصّدوق (ت 381هـ/ 991م).

[8] آل الطّالقانيّ: محمّد حسن، الشّيخيّة: نشأتها وتطوّرها ومصادر دراستها؛ سابق، ص: 33 – 35.

[9] نفسه، ص: 38 – 39.

[10] نفسه، ص: 45 – 46.

[11] نفسه، ص: 46.

[12] نفسه، ص: 47 – 48.

[13] ينظر مثلا: الخالصيّ: محمّد محمّد مهدي، الشّيخيّة والبابيّة أو المفاسد العالميّة؛ ط دار المعارف، العراق – بغداد، طبعة حجريّة قديمة.

[14] آل الطّالقانيّ: محمّد حسن، الشّيخيّة: نشأتها وتطوّرها ومصادر دراستها؛ سابق، ص: 48.

[15] ينظر مثلا: الخالصيّ: محمّد محمّد مهدي، الشّيخيّة والبابيّة أو المفاسد العالميّة؛ سابق، ص: 42.

[16] آل الطّالقانيّ: محمّد حسن، الشّيخيّة: نشأتها وتطوّرها ومصادر دراستها؛ سابق، ص: 49.

[17] نفسه، ص: 49.

[18] آل الطّالقانيّ: محمّد حسن، الشّيخيّة: نشأتها وتطوّرها ومصادر دراستها؛ سابق، ص: 50.

[19] نفسه، ص: 49.

[20] زاهدانيّ: سعيد زاهد، البهائيّة في إيران؛ ترجمة: كمال السّيّد، ط مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلاميّ، لبنان – بيروت، الطّبعة الأولى، 2015م، ص: 156.

[21] زاده: أديب طاهر، ظهور حضرة بهاء الله؛ لا ناشر، لا تأريخ، ص: 7.

[22] عبّاس: قاسم محمّد، الآيات الشّيرازيّة: النّصوص المقدّسة لمؤسّس الحركة البابيّة، ط المدى، لبنان – بيروت، الطّبعة الأولى، 2009، ص: 21.

[23] نفسه، ص: 22.

[24] نفسه، ص: 23.

[25] نفسه، ص: 23.

[26] آل الطّالقانيّ: محمّد حسن، الشّيخيّة: نشأتها وتطوّرها ومصادر دراستها؛ سابق، ص: 51.

[27] عبّاس: قاسم محمّد، الآيات الشّيرازيّة: النّصوص المقدّسة لمؤسّس الحركة البابيّة، سابق، ص: 23.

[28] العبريّ: بدر، التّعارف: تعريف بالذّات ومعرفة للآخر؛ ط الجمعيّة العمانيّة للكتّاب والأدباء، سلطنة عمان – مسقط، والآن ناشرون وموزعون، الأردن – عمّان، الطّبعة الأولى، 2022م، ص: 66 – 72.

[29] نفسه، ص: 71، بتصرّف بسيط.

السابق
الانتصار للقضيّة الفلسطينيّة أم خلق ولاءات خارجيّة
التالي
كتاب “الوهابيّة الرّستميّة” وضجيج وسائل التّواصل الاجتماعيّ
– تنويه:

عدد من الصور المستخدمة للمقالات مأخوذة من محرك google

اترك تعليقاً