المقالات التأريخية

الموارنة كاثوليك بلباس شرقيّ

جريدة عمان 1443هـ/ 2022م

يعتبر مجمع خلقدونيّة عام 451م المجمع الفاصل بين الكنيستين الشّرقيّة والغربيّة، والمتجاوز للقضيّة الآريوسيّة والنسطوريّة إلى الكنيسة القائلة بالأقانيم الثّلاثة ذاتها، لينفصل عن الكنيسة الرّسميّة [الغربيّة الكاثوليكيّة] السّريان، والأقباط المصريون، والأرمن، والأحباش، وهو ما يتشكل اليوم في تجمعين كبيرين خصوصا في مصر وروسيا، بعدما ضعفت كنيسة بيزنطة (اسطنبول)، وكذا ضعفت الكنيسة الأرثذوكسيّة في القدس وبلاد الشّام عموما.

هذا الجدل المتمثل في هل للمسيح طبيعة ومشيئة لاهوتيّة واحدة كما في الكنيسة الشّرقيّة، أم له طبيعتان لاهوتيّة وناسوتيّة ومشيئتان كما في الكنيسة الغربيّة، وأمّا جدليّة الرّوح القدس أهي منبثقة من الآب والابن، أم من الآب فقط فهي جدليّة متأخرة تعود إلى القدّيس شارلمان [ت 814م] في القرن التّاسع الميلادي حيث قال إنّه منبثق من الآب والابن، فأضاف الابن، بينما في مجمع نيقيّة عام 325م بيّنوا أنّ الرّوح القدس منبثق من الآب فقط، وخالف شارلمان ذلك، ومشت الكنيسة الغربيّة على رأي شارلمان.

بيد أنّ الكنيستين الشّرقيّة والغربيّة تتفقان في الجانب الطّقسي فيما يتعلق بالأسرار السّبعة، كانوا خلقدونيين أو اللّاخلقدونيين، خلافا للبروتستانت المنبثقة من الكاثوليك في القرن السّادس عشر الميلادي المسيحي عند مارتن لوثر [ت 1546م] وجان كالفن [ت 1564م]، بيد أنّ لوثر لم يرد الخروج عن عباءة الكنيسة الكاثوليكيّة خلافا لكالفن الّذي توسع بشكل أكبر، لهذا كانت الكنيسة الكالفينيّة أكثر تعددا في الغرب اليوم خلافا للوثريّة، وهي تشكل نسبة كبيرة في العقل الغربيّ المسيحيّ خصوصا، فضلا عن انتشارها ومزاحمتها أيضا للكنيسة الشّرقيّة كما في مصر وبلاد الشّام والعراق أيضا.

كما أنّ الكنيستين الشّرقيّة والغربيّة تميلان أيضا إلى الجانب الغنوصيّ والرّمزي في تأويل آيات الكتاب المقدس خصوصا العهد القديم، وربطه بالسّيد المسيح، وهي مدرسة الأسكندريّة القديمة الّتي خرج منها المذهب الغنوصيّ اليهوديّ الآسينيّ في القرن الثّاني قبل ميلاد السّيّد المسيح، وأصبحت الغنوصيّة ملاصقة خصوصا للكنيسة الشّرقيّة مع تأثر الكنيسة الغربيّة بها، خلافا لأنطاكيّة الّتي اقتربت من الفلسفة والمنطق والدّراسات العقليّة، ومن أنطاكيّة كان النّساطرة وامتداهم الشّرقيّ في العراق والبحرين واليمن وعمان مثلا.

الّذي يهمنا في هذا اللّقاء، وبعد هذه المقدّمة التّمهيديّة هو التّشكل الكاثوليكيّ في لباسه الشّرقيّ عموما، والسّريانيّ والعربيّ خصوصا، وهذا تمثل مع الموارنة، والموارنة نسيج ثقافيّ عربيّ مهم ساهم في الحضارة والثّقافة العربيّة لسنين طويلة، وفي العصر الحديث ظهر منهم كتّاب وسياسيون وفنانون كثر، خصوصا في لبنان، وهم أول من أدخل الطّباعة إلى الشّرق.

وحاولت الاقتراب أكثر من هذه الكنيسة من خلال الأب الدّكتور جميل أسكندر [حنّا أسكندر] من لبنان، وهو من رموز المذهب المارونيّ في لبنان والشّرق عموما، كما أنّه أستاذ تأريخ اللّغات القديمة في الجامعة اللّبنانيّة، وعضو مجلس الأبحاث في كليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة بجامعة القدّيس يوسف، ومع حضور هذا المذهب المسيحيّ قديما وحديثا، وارتباطه بالثّقافة العربيّة؛ إلا أنّه لا يزال مجهولا لدى العديد، ومنهم من يخلط بين الموارنة والمورمون، والثّاني مذهب مسيحي جديد تأسّس على يد جوزيف سميث [ت 1844م] في عام 1830م، وهو مذهب انبثق من الخطّ البروتستانتيّ الكالفينيّ الغربيّ، وبينهما فارق كبير جدّا.

والموارنة وإن ارتبطوا بأنطاكيّة في جوّها السّريانيّ؛ إلا أنّهم يرتبطون بالغنوصيّة أيضا، تمثلا في الرّهبنة والتّبتل والتّفسير الرّمزي، وفي الزّواج أقرب إلى الكنيسة الشّرقيّة، “وهناك فرق في الزّواج بين الرّاهب والكاهن، فالرّاهب هو المترهب والمبتعد عن العالم متوحدا، ويسكن في الدّير والبراري، فالزّواج يبطل الرّهبنة، فمن أساس الرّاهب التّبتل، ومنه قول امرؤ القيس [ت 540م]:

تضيء الظّلامَ بالعشاء كأنّها     منارة مُمْسَى راهب متبتّل

وأمّا الكاهن القائم بخدمة المجتمع في الكنيسة فله أن يتزوّج، وكثير من الكهنة في الشّرق متزوّجون، ولديهم عائلات، وأمّا في الغرب اتّخذت الكنيسة الغربيّة قرارا بعدم زواج الكاهن، وقبل ذلك مسموح عندهم، والآن يدرسون موضوع زواجه، ونحن الموارنة كان جميع كهنتنا متزوّجون قديما، ولمّا تأثرنا بالكنيسة الغربيّة أصبح عندنا قسم من الكهنة غير متزوجين”.

ومن الأخطاء اعتقاد أنّ مؤسّس الموارنة القدّيس مارون [ت 410م]؛ لأنّ الموارنة نشأت في أواخر القرن السّابع الميلاديّ “عندما دخل العرب أنطاكية، فانقطعت العلاقة مع بطريرك القسطنطينيّة؛ فاضطر الموارنة إلى انتخاب الرّاهب يوحنّا مارون [ت 707م] أول بطريرك للكنيسة المارونيّة في أنطاكيا، واعتبر الرّوم لخلافهم مع العرب هذا انشقاقا، ومنها حدث صراع كبير بين الرّوم البيزنطيين والموارنة”، “وبانتخاب يوحنّا مارون تأسّست الكنيسة المارونيّة”.

وسبب الخلط أنّ “الحياة الرّهبانيّة [في صورتها الغنوصيّة] كثرت في القرن الثّالث الميلاديّ، وقويت أكثر في القرن الرّابع الميلاديّ، خصوصا بعدما دخل قسطنطين [ت 337م] المسيحيّة بدأ يتدفق النّاس إليها، وبدأت تدخل العادات الوثنيّة في المسيحيّة، لهذا نشطت الحياة الرّهبانيّة في مصر وسوريّة وإيران وتركيا وإيطاليا وغيرها، ومن بين هذه النّشاطات الرّهبانيّة كان نشاط القدّيس مارون، وقد عاش للرّهبانيّة زاهدا متنسكا، وأحبّه النّاس، ولم يكن همّه تأسّيس طائفة أو مذهب، وعلى جنبه تأسّست مدرسة لوستيّة يعيشون الإنجيل، وبعد وفاته تنازع وتقاتل النّاس من ينتزع جثمانه؛ فنشأت أديرة على اسم القدّيس مارون، من بينها دير على ضفاف نهر العاصي قرب حماة اليوم في سوريّة، وكان يوحنّا مارون رئيسا له، وكان فيه ثمانمائة راهبا، وكان رئيسه أسقفا، ثمّ انتخب بطريركا، من هنا بدأ مصطلح الموارنة نسبة إلى هذا الدّير الّذي سمّي تيمنا باسم القدّيس مارون، وكان بين وفاة مارون وظهور المصطلح حوالي أربعمائة سنة”.

وعلاقة الموارنة بالكاثوليك ينطلق من خلال اشتراكهم من الابتداء مع الرّوم الكاثوليك، القائلين إن للمسيح طبيعتان ومشيئتان، “واتّهم الموارنة أنّهم يقولون إنّ له طبيعتان ومشيئة واحدة، ولكن هذا ليس صحيحا”، وإنّما قاله الامبراطور في مجمع خليقدونيّة للتّوفيق بين الفريقين، فقال له طبيعتان ومشيئة واحدة.

والخلاص عند الموارنة مشروط بالعمل، “من هنا يأتي الاعتراف، فهو قول وعمل، وهذا مبنيّ على حريّة اختيار الإنسان ذاته، يقول القدّيس أغسطينوس [ت 430م]: “الله الّذي خلقك بدونك؛ لا يقدر أن يخلّصك بدونك”، فلابدّ من العمل والمجاهدة للوصول إلى الخلاص”.

والنّاس يخلطون بين سر الاعتراف وصكوك الغفران، وارتبطت صكوك الغفران عندما “كان البابا ينني كنيسة القدّيس بطرس [في أروبا]، وهي كنيسة ضخمة جدّا، وتكلّف أموالا ضخمة، وكان البابا بحاجة إلى المال، فباع صكوك الغفران لبناء الكنيسة”، ويرى الدّكتور الأب حنّا أسكندر أنّ “هذا هو المشهور”، ولكن في نظره ليس هذا أصل المسألة، “أصل المسألة سياسيّ بحت، فالبابا حينها ليس مجرد زعيم دينيّ فقط؛ بل كان زعيما سياسيّا أيضا، وهناك من الأمراء من يريد التّحررمن سلطته، فالخطأ هنا أنّ الكنيسة دخلت في السّياسة، والسّياسة لا دين لها، فالسّياسيّ يقتل ويهجّر، والله لا يرضى بذلك، ورجل الدّين لما يصبح سياسيّا يتصرف مثل السّياسيّ”.

وأمّا سر الاعتراف “لم يكن مثل اليوم في بدايته، وفي الرّسالة إلى العبرانيين مفادها بعدما تعرّف على الرّب، وأخطأ من جديد؛ لا مجال للغفران، وكان سابقا لمّا يخطئ يدعونه على باب الكنيسة، ويدوسونه على رقبته لأنّه أخطأ، فنفر كثير من النّاس من الخطيّة، ولم يعودوا إليها، ثمّ سهّلوا الأمر وأنشأوا سر الاعتراف بشكله الحالي، فهذه الصّورة ظرفيّة متأخرة، وأساس سر الاعتراف التّوبة مع الله، وبما أنّ الكاهن له سلطة على الكنيسة، ويمثل الله، فالاعتراف أمام الكاهن نوع من المصالحة بين الإنسان والله، والكاهن ليس مجرد إداريّ في الكنيسة؛ فهو أيضا طبيب روحيّ”.

وأمّا من حيث الفقه فالموارنة كسائر المسيحيين يرون أنّ “المسيح لم يتدخل في القضايا الفقهيّة والشّرعيّة، والمسيحيّة في بدايتها تركت الشّرائع للحكم المدني، فالمسيحيّة في البداية ليست دولة، ولمّا دخلت في الدّولة تداخل الدّين مع الدّولة، لهذا دخلت الشّرائع الرّومانيّة في الشّريعة الكنسيّة في الزّواج وغيره، كما تأثر التّشريع الكنسيّ أيضا بالعهد القديم”، وهم فقها أقرب إلى الشّرق وثقافته، إلا أنّه “لمّا فتحت الكنيسة الغربيّة مجال التّعليم استقبلت طلابنا من الشّرق، وبدأ التّمازج بين الثّقافتين، وخصوصا ما يتعلق بالطّقوس والصّلوات، فحدث التّأثر بالفكر الغربي، مع بقاء الجوهر” أي الشّرقيّ.

وبما أنّ الموارنة أصلهم سريان، حيث “كانت جميع صلواتنا بالسّريانيّة، ولا زال البعض يصلّي بها، لكن في الجملة عرّبت الصّلوات على ذات الوزن واللّحن، ليتمكن الجميع من الصّلاة وفهمها”، فأصبحت الصّلاة والطّقوس بالسّريانيّة والعربيّة.

هذا مجمل ما يمكن قوله وفهمه عن هذا المكوّن العربيّ القديم، والّذي ارتبط بثقافة الشّرق وتعايش معها، وأثر وتأثر بها، ليشكل لونا آخر عريقا في تأريخه، وعظيما في حضوره وتأثيره، كأي لون آخر من ألوان الثّقافة العربيّة، والّتي بها يظهر جمال هذه اللّوحة في أشكالها وألوانها المتعددة.

[المرجع لقاء مع الأب الدّكتور جميل أسكندر من لبنان عن طريق برنامج ZOOM، يوم الأحد 22 شوال 1441هـ/ 14 يونيو 2020م].

السابق
الشّيخ حسن الصّفار والدّائرة الواسعة: قراءة عن قرب
التالي
عليّ الهويرينيّ الحكيم المتسائل
– تنويه:

عدد من الصور المستخدمة للمقالات مأخوذة من محرك google

اترك تعليقاً