الأربعاء 22 ربيع الأول 1446هـ/ 25 ديسمبر 2024م
ودعت عُمان في أيامها الأخيرة العديد من رموزها الثّقافيّة والفقهيّة والأدبيّة والتّأريخيّة، فقد ودعت السّيّد عبد الله بن حمد البوسعيديّ، وله دور كبير في النّشاط الثّقافيّ المبكر من خلال مركز الفراهيديّ في القاهرة، ودعمه للمؤسّسات الثّقافيّة في عمان، كما ودعت قريبا جدّا الفقيه النّحويّ نبهان بن سيف المعمريّ، من تلاميذ مدرسة الإمام محمّد بن عبد الله الخليليّ (ت 1373هـ)، وودعت قبل أيام أيضا أحد رموز شعر الحداثة في عمان والوطن العربيّ زاهر الغافريّ، حيث ارتبطت قصيدة النّثر به، مع الشّاعرين سما عيسى وسيف الرّحبيّ، كما ودعت عُمان غير هؤلاء الثّلاثة في فترة قريبة جدّا.
وفي ليلة الاثنين الماضي وصلنا خبر وفاة الفقيه الوالي سالم بن حمود المالكيّ، وهو ذاكرة فقهيّة وأدبيّة وتأريخيّة، يحفظ العديد من أبيات النّظم العمانيّ، خصوصا من جوهر النّظام للشّيخ السّالميّ (ت 1332هـ/ 1914م)، ومن كتاب غاية المرام في علمي الأديان والأحكام لجدّه العلّامة عامر بن خميس المالكيّ (ت 1346هـ/ 1928م)، كما أنّه ذاكرة للعديد من أحداث عمان خصوصا في نهايات القرن التّاسع عشر وبدايات القرن العشرين، لما سمعه ممّن عاصرهم عن أحداث جدّه الشّيخ عامر، ودوره السّياسيّ والفقهيّ والاجتماعيّ والأدبيّ في الحراك الّذي حدث في عمان، خصوصا في النّصف الأول من القرن العشرين، كما أنّه ذاكرة لأحداث النّهضة الحديثة في عمان بعد عام 1970م، وللأسف نفقد مثل هذه الشّهادات بموت أصحابها، وإن كان هناك حاليا شيء من الاهتمام المحمود من قبل هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنيّة، في توثيق الذّاكرة الشّفويّة العمانيّة.
وقد ترجمتُ له في مقدّمة كتاب المنبع المورود لعمّه القاضي سعود بن عامر بن خميس المالكيّ (ت 1403هـ/ 1982م) فهو “من مواليد سيح الحيل بولاية وادي بني خالد من المنطقة الشّرقيّة بتأريخ 28 صفر 1354هـ [30 مايو 1935م]، نشأ وترعرع وسط أعمامه، ودرس القرآن على يد والده المعلّم حمود، والشّيخ حمد بن محمّد الحجريّ، ثمّ درس العلوم الفقهيّة على يد عمّه القاضي سعود بن عامر المالكيّ، والشّيخ عليّ بن ناصر الغسينيّ، والشّيخ عليّ بن سالم الحباسيّ الحجريّ، وفي بداية السّبعينات عين نائب والي في وادي بني خالد، ثمّ واليا بولاية دماء والطّائيين، ثمّ بولاية نخل ووادي المعاول، ثمّ ولاية جعلان بني بو حسن، وبعد تقاعده أصبح عضوا بمجلس الشّورى لثلاث مرات متتالية ممثلا عن ولاية وادي بني خالد، سافر إلى دولة تنزانيا في سن مبكرة لزيارة عمّه محمّد بن عامر بن خميس المالكيّ، وأكثر سفراته إلى الأراضي المقدّسة، والشّيخ سالم قمّة في التّواضع وحسن الخلق، بيته مقصد السّائلين، وكعبة المحتاجين، له حافظة قوية، يحفظ من التّأريخ والشّعر الشّيء الكثير، يقدّر طلبة العلم، وصاحب فكاهة ونكتة، وكرم وجود، هو وابنه الشّيخ خميس بن سالم – حفظه الله –”.
تعود معرفتي الشّخصيّة بالشّيخ سالم بن حمود المالكيّ إلى عام 2006م تقريبا، حيث كان لي درس أسبوعيّ في الفقه في جامع “طه” بالموالح الجنوبيّة بولاية السّيب بعد صلاة المغرب، ورأيته حاضرا لإحدى تلك الدّروس، وبعد الدّرس حدث بيننا نقاش طويل في العديد من المسائل الفقهيّة، فقال لي: عندي مخطوطات لجدّي عامر بن خميس، وأريدها أن ترى النّور قبل فراقي من هذه الحياة، فهل تقوم بتحقيقها، حيث وعدني بعضهم وأخذها، ولكن لم يحدث شيء من ذلك، قلتُ له: أنا لست محقّقا ولكن ممكن أطبعها على الجهاز، وأقوم بتصحيحها، ولكن لي شرط واحد، قال: تفضل، قلت له لا أريد أن يتحوّل تصحيحيّ إلى مخطوط آخر، وإنّما تقومون بنشرها، وأنا لا أريد شيئا إلّا هذا، وفعلا أوفى بوعده رحمه الله تعالى.
فقمت ابتداء بحصر تراث جدّه، فوجدتها سبعة كتب رئيسة، أربع منها طبع، الأول “موارد الألطاف بنظم مختصر العدل والإنصاف” وهي أرجوزة في أصول الفقه في ألف ومائتين وخمسين بيتها، طبعتها وزارة التّراث القوميّ والثّقافة عام 1985م، وأعيد إدراجها وتحقيقها من قبل الدّكتور مصطفى باجو، ونشرت مؤخرا في الموسوعة الأصوليّة الإباضيّة المغربيّة؛ لأنّها نظم كتاب العدل والإنصاف لأبي يعقوب الوارجلانيّ (ت 570هـ/ 1174م)، وهو من علماء الإباضيّة من وارجلان بالجزائر، طبعت من قبل وزارة الأوقاف والشّؤون الدّينيّة عام 2022م، والثّانية أرجوزة “غاية التّحقيق في أحكام الانتصار والتّغريق” في أربعمائة واثنين وتسعين بيتا، أدرجها الشّيخ سالم بن حمد الحارثيّ (ت 1427هـ/ 2006م) في كتابه العقود الفضيّة في أصول الإباضيّة، والثّالث “الدّر النّظيم من أجوبة أبي مالك بالمناظيم”، طبعتها وزارة التّراث القوميّ والثّقافة عام 1982م، والرّابع منظومة في الدّماء والجروح نشرت في كتاب الدرّ النّظيم، كما نشر الدّكتور سعيد بن محمّد الهاشميّ بحث “الشّيخ عامر بن خميس حياته وأعماله”، وأصله بحث مقدّم لحوليات الآداب والعلوم الاجتماعيّة بدولة الكويت عام 2009م.
وعلى هذا بدأت في الكتب غير المطبوعة وأولها “غاية المطلوب في الأثر المنسوب” للشّيخ عامر بن خميس، وقد أخبرني الشّيخ سالم بن حمود المالكيّ عن الشّيخ سعيد بن ناصر السّيفيّ أنّ الإمام محمّد بن عبد الله الخليليّ طلب منه الشّيخ عبد الله بن محمّد الرّياميّ والي بهلا وقاضيها بأن يرسل الشّيخ عامر بن خميس لحلّ المشاكل في ولاية بهلا، فامتثل الإمام له، وأرسل معه الشّيخ السّيفيّ، ولمّا وصلا بهلا طلب الشّيخ عامر المخطوطات بالولاية، فقام في النّهار بحلّ المشكلات والفتوى، وفي اللّيل بكتابة غاية المطلوب، وقد أنهى حلّ المشاكل وتأليف الكتاب في وقت واحد، والكتاب على نسق ذكر الآية المتعلّقة بالباب ثمّ الرّواية، ثمّ آثار المسلمين، والمالكيّ معتد بالأثر، وقد أنهيت تصحيحه صبيحة السّبت 12 محرّم 1432هـ/ 18 ديسمبر 2010م، وطبع على نفقة المرحوم سالم بن حمود عن طريق مكتبة الجيل الواعد عام 1433هـ/ 2012م.
والكتاب الثّاني قمت بمحاولة تجميع ما وجدته من فتاوى الشّيخ المالكيّ، ورتبتها حسب أبواب كتب الفقه، وأنهيت تجميعها مساء الاثنين 7 جمادى الآخرة 1435هـ/ 7 أبريل 2014م، وطبعت على نفقة المرحوم سالم بن حمود عن طريق مطبعة النّهضة عام 1436هـ/ 2015م.
والكتاب الثّالث فتاوى الشّيخ القاضي سعود بن عامر بن خميس، وهو عمّ الشّيخ سالم بن حمود، وأصلها مذكرة كتبها تلميذه القاضي سالم بن ناصر بن مسعود المالكيّ، وعنونها باسم “المنبع المورود من أجوبة القاضي سعود”، فاعتمدتها وزدت عليها ما وجدته، وأنهيتها صباح الأربعاء 8 جمادى الآخرة 1440هـ/ 13 فبراير 2019م، وطبعت على نفقة المرحوم سالم بن حمود عن طريق مكتبة مسقط عام 1441هـ/ 2020م.
والكتاب الرّابع كتاب “غاية المرام في علمي الأديان والأحكام”، وهي أرجوزة من بحر الرّجز تزيد على ثمانية وعشرين ألف بيت في الفقه، وبدأت فيها، وأنهيت الجزء الأول، بيد أنّه زاحمتني مشاريع أخرى في التّعايش ونقد التّطرف، ثم الأنسنة، ومشروع المرحوم صادق جواد سليمان (ت 2021م)، وكنت آمل أن أنجزها في حياة الشّيخ سالم بن حمود، وكان يرجو أن تطبع في حياته، وكان كثير السّؤال عنها، لهذا أشعر اليوم بمرارة التّقصير في هذا الأمر، حيث كان المرحوم مرتبط كثيرا بهذه المنظومة، ويكاد يحفظها عن ظهر قلب، لهذا أرجو أن ترى النّور قريبا بعونه تعالى.
وبلا شك أنّ جدّه الشّيخ عامر كان شاعرا أيضا، وله أبيات من غير المنظومات، ولعلّ بعضها محفوظ لم نطلع عليها، ومع هذا ما أدرك حاليا، وكان الشّيخ سالم – رحمه الله – محتفظا بتراثه، وأخرجه مرة لي، فوجدت ما ذكر، وكان آخر عهدي به قبل أقل من شهر، حيث زرته في بيته في بدية قبل أقل من شهر، وكان قد فقد سمعه بالكليّة، ومع هذا كان حاضر البديهة والذّاكرة، فرحمه الله ورضي عنه وغفر له.