المقالات الإجتماعية

الحوكمة والرّقمنة وتحقّق العدالة الاجتماعيّة

جريدة عُمان، الأربعاء 23 ربيع الثّاني 1447هـ/ 15 أكتوبر 2025م

بعد شيوع النّظريّة الاشتراكيّة ظهرت العديد من الأدبيّات المبكّرة في النّصف الأول من القرن العشرين في إعادة طرح مفهوم العدالة الاجتماعيّة من خلال الأدبيّات الإسلاميّة، مثل: “التّكافل الاجتماعيّ في الإسلام” لمحمّد أبو زهرة (ت: 1974م)، “واشتراكيّة الإسلام” لمصطفى السّباعيّ (ت: 1964م)، “والعدالة الاجتماعيّة في الإسلام” لسيّد قطب (ت: 1966م)، “ومن هنا نبدأ” لخالد محمّد خالد (ت: 1996م)، إلّا أنّ مفهوم العدالة الاجتماعيّة مفهوم غير مستقر عليه، بيد أنّ مضامينه قديمة في الأديان والفلسفات الأولى، مثلا: منشيوس (ت: 289ق م) المعلّم الثّاني للفلسفة الكونفوشيّة بعد المعلّم الأول كونفوشيوس (ت: 479 ق م) يربط العدالة الاجتماعيّة بالقلب الرّحيم، أي المدار هو تحقّق الرّحمة في طبقات المجتمع، ويضرب لذلك مثلا “لو أنّ أيّ إنسانٍ رأى فجأة طفلا على وشك السّقوط في بئر، فسيتحرك في داخله شعور بالجزع والتّعاطف، لا طلبا للشّكر والعرفان من أبوي الطّفل، ولا طمعا في مديح جيرانه وأقربائه، ولا لنفوره من سماع صراخ الطّفل، من هنا يمكن القول بأنّ الّذي لا يمتلك قلبا رحيما متعاطفا ليس بإنسان”، وعدم تحقّق هذه الرّحمة يؤدّي في نظره إلى تمدّد دائرة المحرومين، والأصل تضييق هذه الدّائرة، واتّساعها يعني وجود خلل في إدارة المال العام، يظهر هذا “في سنوات الشّدّة والمجاعة كان كبار السّن والضّعفاء يموتون واحدا تلو الآخر في العراء، أمّا الشّباب والأقوياء فكانوا يفرّون بالآلاف في كلّ اتّجاه، وحدث ذلك عندما كانت عنابركم ملأى بالحبوب، ومخازنكم ملأى بالكنوز”، بينما فئة قليلة من المجتمع تستهلك “كميّات كبيرة من الطّعام، والجائعون يُسلبون طعامهم، والمتعبون يُحرمون راحتهم، فتعلو أصوات التّذمّر في كلّ مكان، ويضلّ النّاس في دروب الشّر، وبذلك يتنكّر الحاكم والأمراء لمشيئة السّماء، ويجلبون البؤس على الرّعية، الأطعمة والأشربة تُبدَّد كماء متدفق”.

يرى منشيوس أنّ اتّساع دائرة المحرومين، وتمدّد الفجوة بين طبقات المجتمع؛ يظهر أثره سلبا على المملكة ذاتها، لأنّ قوّتها ليس في فرسانها وأسلحتها، ولكن في شعوبها، ويضرب مثلا بمقولة زينغ تسي – من تلاميذ كونفوشيوس: “احذر، احذر، مثلما تعامل النّاس سوف يعاملونك، ولقد أتيحت الآن الفرصة للنّاس لأن يعاملوا المسؤولين بالمثل، فلا تلومنهم، واعلم أنّك إذا مارست الحكم الرّحيم فلسوف يحبّ النّاس رؤساءهم، ويموتون دفاعا عنهم إذا تطلّب الأمر ذلك”، وخلاصة رؤية منشيوس “إذا أردت أن تظفر بالمملكة فعليك أن تكسب محبّة النّاس؛ وإذا أردت أن تكسب محبّة النّاس، فعليك أن تكسب قلوبهم، وإذا أردت أن تكسب قلوبهم فعليك أن تؤمن لهم ما يحتاجون إليه، ولا تفرض عليهم ما يكرهون، النّاس ينقادون للحاكم الرّحيم مثلما ينساب الماء نحو المنخفضات”.

أما الأديان كما يرى تولستوي (ت: 1910م) جاءت لإقرار المساواة بين البشر، “كلّما يظهر تعليم دينيّ جديد يحوي في تعاليمه المساواة بين البشر”، وفي الإسلام اعتبر البشر المخلوقين من نفس واحدة، متساوين في الكرامة الإنسانيّة، وفي العدالة الاجتماعيّة، وفي الجانب الماديّ نجد النّصّ الأول يحارب كنز المال وإهماله من جهة – أي عدم استثماره – {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التّوبة: 34]، ومن جهة أخرى يدعو إلى دورانه في طبقات المجتمع {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7]؛ لأنّ كنزه ودورانه في فئة معيّنة يرفع العدالة الاجتماعيّة، ويوسع من التّفاوت بين طبقات المجتمع، ممّا يؤدّي إلى تمدّد الشّريحة الدّنيا.

نجد العدالة الاجتماعيّة في الفلسفات والأديان القديمة ترتبط بذاتيّة المساواة، وهو ذاته ما تركز عليه أيضا الفلسفات المعاصرة، كالّذي يقدّمه حاليا مثلا ديفيد ليزلي ميلر أنّ العدالة الاجتماعيّة مرتبطة بالحاجة والاستحقاق والمساواة، وطبيعيّ – في نظري – أن ترتبط المساواة بالعدل، وتحقّق العدالة إجرائيّا ومنها العدالة الاجتماعيّة يربطها جون راولز كما في كتاب “العدالة الاجتماعيّة: مفهوم وتطبيقات (دليل تدريبيّ)” الصّادر عن منتدى البدائل العربيّ للدّراسات “بالحريّات الأساسيّة المتساوية، وبمنظومة اجتماعيّة تقوم على هذا”،  وفي الكتاب ذاته ينقل عن الفيلسوف الهنديّ أمارتيا صن أنّ العدالة الاجتماعيّة تقودنا إلى التّفكير في كيفيّة رفع الظّلم وإنزال العدل.

الّذي يهمني من هذا كلّه الواقع القطريّ للدّولة اليوم خلق شيئا من التّفاوت بين الأقطار والدّول، وأصبحت الثّروات متناثرة لا حسب الفضاء الكونيّ الواسع الّذي يسع النّاس جميعا، ولكن حسب الانتماء القطريّ، ومع هذا العديد من الأقطار مع وفرة الثّروة فيها إلّا أنّها تعاني من تدني العدالة الاجتماعيّة، بينما أقطار أقلّ منها ثروة لكنّها تحاول تضييق التّفاوت بين طبقات المجتمع، وهذا يعود إلى الطّبيعة الأخلاقيّة الحاكمة في الرّغبة لتحقيق العدالة الاجتماعيّة والّتي ربطها منشيوس بالرّحمة، وفي حسن إدارة المال العام كما حدث في سنغافورة وماليزيا، هذا الخلق وحسن الإدارة مربوط بقوانين صارمة في رفع الظّلم وإنزال العدل من جهة، وفي تمكين الكفاءات القادرة في المساهمة في تحقيق ذلك من جهة أخرى.

وهذا ما يقودنا اليوم إلى أهميّة الحوكمة والرّقمنة إجرائيّا في تحقّق العدالة الاجتماعيّة، فالحوكمة حالة إصلاحيّة للمؤسّسات، حيث ترتبط الكفاءة بالرّيادة، والعمل بالشّفافيّة ووضوح الرّؤية، والأداء بالمراقبة والمحاسبة والمساءلة، وحوكمة المؤسّسات يسهم في إصلاح المؤسّسات والدّوائر المرتبطة بالعدالة الاجتماعيّة، ومحاولة تضييق الفجوات في المجتمع، والإسراع في توفير حلول جذريّة وفق مركزيّة الدّولة لمعالجة القضايا الماليّة والإداريّة والوظيفيّة والّتي لها ارتباط بالعدالة الاجتماعيّة.

والرّقمنة تساهم في تسريع الأداء بعد إصلاح المؤسّسات وحوكمتها، واليوم أمنيّا على مستوى الدّولة القطريّة بسبب الرّقمنة أصبح الوصول إلى الحالات الفرديّة، وبيان حالتها الاجتماعيّة والوظيفيّة أمرا سريعا جدّا، فإذا ربطت الرّقمنة بحوكمة المؤسّسات من جهة، وبمدار مركزيّة الدّولة من جهة أخرى؛ سنتمكّن – في نظري – بشكل كبير في الإسراع في تحقيق العدالة الاجتماعيّة، إذا ما توفرت الإرادة، وحسن الإدارة؛ لأنّ عمر الإنسان قصير جدّا، والبطء في العلاج مع سرعة الزّمن يخلق فجوات تتراكم بشكل كبير، ويصعب علاجها، أو على الأقل تحتاج إلى وقت طويل في العلاج والإصلاح، ممّا يترتب عليه ظلم لفئات عديدة في المجتمع، وهذا يصنع خناقا يؤدّي لاحقا إلى اضطرابات اجتماعيّة وسياسيّة وأمنيّة.

السابق
النّوادي الثّقافيّة الأولى في عُمان
التالي
الماضي ليس ملائكيّا
– تنويه:

عدد من الصور المستخدمة للمقالات مأخوذة من محرك google

اترك تعليقاً