خلق الله تعالى الأرض، وهيأ لها من العناصر والسّنن التي جعلتها متعددة الموارد، مختلفة النتاج، فهناك المعادن بأنواعها، والمياه بما فيها من ثروات سمكية وغيرها، والبرية وما تحويه من حيوانات متعددة، والغابات بخيراتها، كلّ ذلك يحقق التنوع الغذائي للإنسان، قال تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}.
ومن هذه الجوانب المهمة في الطّبيعة جانب الزّراعة، فهو عنصر مهم، وجانب له قيمته الذاتية، ولا يمكن الاستغناء عنه بحال من الأحوال، إذ جعل الله تعالى عناصر النبات مادة مسخرة لنمو الإنسان وصحته، وفي الوقت نفسه دواء لمرضه، وعلاج لسقمه، بجانب ما يقوم به النبات من تنقية الجو بالأكسجين، وتنقية التّربة، كلّ ذلك يجعل للزراعة قيمة ذاتية، لا يستغني عنها ليس الإنسان فحسب، بل الوجود أجمع، ومع هذا جعلها الله تعالى مسخرة لهذا الإنسان.
ولقد أسهب القرآن الكريم في بيان هذا الاعتبار من جهات متعددة منها:
- بيان وجود الله تعالى ووحدانيته: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ، يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}، وهذا يعود إلى أصل الوجود، فلا يمكن بحال أن يتناسق بدون موجد نسقه، وإلا كان مختل النظام، وفي الوقت نفسه لا يمكن وجوده هكذا لغير غاية وإلا كان عبثا، فلما دل على دقة نظامه، وعظيم غايته؛ أدركنا بذلك أنّ له موجودا، وهذا الموجد هو الله سبحانه وتعالى وحده لا شريك له.
- استثمار الأرض واستغلالها، وتنمية ثقافة الادخار، لأنّ الأيام دول، فالخصب يتبعه قحط وجدب، فضلا عن الأمراض التي تنتشر بين الفينة والأخرى، قال تعالى على لسان يوسف الحكيم عليه الصّلاة والسّلام: {قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ}، وهذه وإن كانت أوحيت إلى يوسف؛ إلا أنها تربية لهذا الإنسان في آلية التعامل مع الأرض من جهتين، الأولى: استثمارها بالطرق المتاحة، والثاني: تنمية ثقافة الادخار.
- استغلال الأرض في الرعي، قال سبحانه: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى، كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى} وهنا تتحقق فائدتان للمجتمع: الأولى الثروة الزراعية بحيث يستفاد من العشب المستهلك أو الذي لا يأكله الإنسان لفائدة اقتصادية أخرى وهي الرعي، الثاني: الثروة الحيوانية المتزامنة مع الثروة الزراعية، ولا قوة بالثانية إلا من خلال قوة الأولى، وكلاهما عنصر مهم في التنويع الاقتصادي، بجانب ما لهما من أهمية في الصّحة البشرية، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ}.
- التنوع الغذائي في الزراعة، حيث يأمر سبحانه باستغلال الأرض في أكبر قدر من الفائدة من حيث المناخ الملائم لنمو النباتات، وذلك لأن عناصر التربة والماء مرتبطة جدا بعناصر المناخ، ومع ذلك متى ما أمكن التنوع واستغلال التطور العلمي فهذا أمر مطلوب، قال سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ، وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}.
- الحفاظ على الجانب المائي لأنه شريان الحياة قال سبحانه: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ}، وعليه أنّ الحفاظ على الثروة المائية معناه قوة الثروة الزراعية، وهذا يتحقق في استغلال الوسائل المعاصرة في صرف المياه، وكذلك في الحفاظ عليها وحسن تصريفها، {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}.
- شكر الله سبحانه وتعالى في نعمة الأرض بالإنفاق وإعطاء الفقير حقه والمسكين وابن السبيل، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآَخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}، وأمر بذلك صراحة ونهى عن الإسراف والتبذير حيث قال: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}.
وعلى العموم القرآن الكريم أسهب كثيرا في الحديث عن الأرض والزراعة وما يتعلق بهما من جوانب، ولا يمكن في هذه العجالة إحصاء ذلك أو على الأقل الإسهاب لضيق المقام.
والناس على طول التأريخ، وظهور البسيطة لهم علاقة بالأرض، وتطور تعاملهم معها باكتشافهم للآلات، وعليه كان الفقهاء المسلمون، ومن هذه الأحكام التي استخلصوها:
أولا: إحياء الأرض الميتة، قال تعالى: {وَآَيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ}، واعتبر الفقهاء أنّ من أحيا أرضا ميتة لا يعلم صاحبها، أو ليست محازة فهي له استنادا إلى التطبيق النبوي على صاحبه عليه أفضل الصّلاة والسلام: من أحيا أرضاً ميتة فهي له، وفي رواية: من أعمر أرضاً ليست لأحد فهو أحق.
يقول ابن حجر: الموات الأرض التي لم تعمر، شبهت العمارة بالحياة، وتعطيلها بفقد الحياة، وإحياء الموات أن يعمد الشخص لأرض لا يعلم تقدم ملك عليها لأحد فيحييها بالسقي أو الزرع أو الغرس أو البناء فتصير بذلك ملكه، سواء كانت فيما قرب من العمران أم بعد، سواء أذن له الإمام في ذلك أم لم يأذن وهذا قول الجمهور.
وطبيعة الحال كلام ابن حجر يقرأ في أوانه قبل التقنين القانوني، أما وأصبح يوجد تقنين فينبغي أن يكون القانون في هذا بداية مرنا يفتح للناس السباق في الزراعة، وإحياء الأراضي، ودعمهم وتشجيعهم، كذلك استغلال الوسائل المعاصرة، بجانب أن يكون عادلا بين الجميع، وفي الوقت نفسه يكون حازما فيمن لا يستثمر أرضه بأن يفتح المجال لغيره؛ لأنّ المصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة، ومصلحة الجماعة قبل مصلحة الأفراد.
ثانيا: تنظيم نظام الأفلاج والرعي والآبار بشكل دقيق، وتوزيع ذلك بشكل مرتب وعادل بين الجميع لتقوية الجانب الزراعي، فضلا عن التشديد في السرف وهدر الماء، مع استغلال الحشائش، وتنظيم حدود الرعي وحدود الزراعة، ودراسة ما يتعلق بذلك من ضمانات وغيرها أسهب حولها الفقهاء، وهي في الحقيقة مادة خصبة للنظام التقنيني المعاصر، وتجربة عملية فريدة استطاع الفقهاء تخليدها لأكثر من ألف عام.
ثالثا: جانب الفلاح نفسه أو المزارع، فإذا كانت الأرض جزء مهم في الزراعة فإن المزارع هو اليد المحركة لهذه الأرض، لذا كانت له أحكامه في الفقه الإسلامي، وله اعتباره في الشريعة الغراء، فله حقه في الأرض، بجانب إن كانت الأرض ميتة فيملكها وفق القانون إن أحياها، ولم يتعدى على حق أحد، مع كفالته إن تعرض لجائحة من المال العام، ودعمه وتشجيعه وتثقيفه زراعيا.
رابعا: النهي عن قطع الأشجار لغير حاجة، والنهي عن تلويثها، مع نظافتها والمحافظة عليها، ومن قام بذلك له أجره فيه حتى لو أكل منها طير، أو استظل بها إنسان.
عموما الزراعة في الفقه مجال خصب واسع، وميدان رحب رفيع، الحديث حوله ذو شجون، وفي الوقت نفسه يطول، والاستفادة منه مهم معاصرا، خاصة وأن الزراعة اليوم أهملت، وهي أداة مهمة للأمن الغذائي، وتحقيق التوازن في ذلك، والاستفادة في التنوع الغذائي بين الدول والأمم، ولكي نأكل مما حرثته أيدينا، وهذا يعطي للأمة استقلالها وتنوع مدخراتها، وفي الوقت نفسه يعطي فرصا أكبر لليد العاملة، ويقضي بذاته على البطالة، لما أودع الله تعالى في الأرض من خيرات تغيب إن لم يعمل الإنسان فيها عقله {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}.
جريدة عمان 1435هـ/ 2015م