المقالات التأريخية

القهوة والثّورة

جريدة عُمان، الأربعاء 2 ربيع الثّاني 1447هـ/ 24 سبتمبر 2025م

القرن الخامس عشر الميلاديّ هو عصر الالتفاتة إلى القهوة، من غابات كافا في أثيوبيا إلى الموكا اليمنيّة في مخا في جنوب اليمن، وارتبطت بالطّريقة الشّاذليّة مبكرا، ليكتشفها الأوربيّون لاحقا، لتصبح محلّ جدل دينيّ خصوصا في المسيحيّة والإسلام، إلّا أنّ استساغة الشّعوب لشربها غلبت هذه الآراء المتناقضة حولها، وأصبحت لاحقا مشروب العالم، ولم تبق إلّا أقليّة قليلة في المسيحيّة خصوصا تنظر بتوجس إلى شربها كالمورمون، وتعليلهم حاليا حولها أنّ اجتنابها لأسباب صحيّة وليست دينيّة.

استساغة الشّعوب لها جعلتها المشروب العالميّ الأول منافسة للشّاي، وارتبطت بالاقتصاد والموانئ، ومنها ميناء عدن، وأصبح اليمنيّون والعمانيّون ممّن استثمر فيها مبكرا، وفي عُمان ارتبطت بأسطول مراكب القهوة، ومن مسقط وصور خصوصا كانت تصل إلى الهند وفارس وأفريقيا ومنها إلى أوروبا وغيرها، لتدخل القهوة إلى كلّ بيت في العالم، وسوف ينافس الجانب الشّرقيّ من العالم في جودتها كالقهوة السّيلانيّة والفيتناميّة والكولومبيّة وغيرها، واختلفت الثّقافات في طريقة إعدادها وتقديمها، ومقدار البنّ فيها.

كما أنّ القهوة دخلت كلّ مجلس وبيت، بل ودور العبادة، وأماكن العمل، مقابل هذا انتشرت مقاهي القهوة، بدء من أوروبا، لتنافس الحانات والبارات، من مقاهي لندن ثمّ باريس لتعمّ العالم اليوم، فيندر أن تذهب إلى مدينة ولا تجد فيها مقاهي القهوة، هذه المقاهي لم تنحصر عند احتساء مشروب القهوة، بل يجتمع فيها السّياسيّون والفلاسفة والأدباء والمفكّرون، والمهتمون بقضايا الاقتصاد والمجتمع والشّأن الإنسانيّ عموما، وفيها نوقشت ما يدور في العالم وما يحدث فيها من نتاج وأحداث، فخرج من المقاهي مبدعون ومنظّرون وفنّانون ومناضلون أيضا.

يذكر المؤرخ الفرنسيّ جورج لوفيفر (ت: 1959م) في كتابه “قدوم الثّورة الفرنسيّة 1789م” أنّ من الوسائل المحقّقة للثّورة الفرنسيّة كانت مقاهي القهوة، ومنها خرجت “وغذّت مؤلفات الفلاسفة الدّعاية الشّفويّة في الصّالونات والمقاهي الّتي تكاثرت في القرن الثّامن عشر” فكانت ملهمة لتلك الأجيال لتحدث تغييرا جوهريّا ليس في فرنسا فحسب؛ بل في أوروبا ثمّ العالم أجمع، إنّ كثيرا من الفلاسفة والمفكّرين والأدباء خرجت إبداعاتهم الكتابيّة والفكريّة من “مقاهي القهوة”، ليكون لها تأثيرها في المجتمع بشكل أفقيّ أوسع.

كما يذكر حسين حيدر درويش في كتابه “مناضل من عُمان”، أنّ فكرة رابطة تجمع العمانيّين، والّتي أطلق عليها لاحقا اسم الاتّحاد العمانيّ خرجت فكرتها من إحدى مقاهي القهوة والشّاي في كراتشي بباكستان قبل 1952م، يصف هذه اللّحظة بقولة: “كنّا نجتمع كلّ أمسية في إحدى المقاهي الّتي تقع بقلب مدينة كراتشي وتدعى شيزان، وكانت لنا طاولة خاصّة فيها ، يتجه إليها مباشرة كلّ فرد منا حالما تطأ قدماه عتبة المقهى، وكانت أحاديثنا تدور حول مواضيع السّاعة، وعن كلّ ما يذاع أو ينشر عن منطقتنا، وعن المطامع الاستعماريّة والأخطار الّتي تحاك ضدّها، وكان هذا هو حال معظم الشّباب في تلك الفترة من العمر يتطلّع إلى مستقبل أفضل لوطنه، ويحمل آمالاً جسيمة لا حدود لها من الطّموحات والأمنيات الوطنيّة …. كانت اجتماعاتنا اليوميّة في مقهى شيزان بمدينة كراتشي بمثابة مأتم حزن، إذ كان كلّ فرد منا يسرد مآسي وطنه … وكان من الطّبيعيّ أن نتطرّق إلى أوضاع وطننا عُمان من خلال تلك الاجتماعات المتتالية، ولم لا؟ وهي تعاني من الكوارث والويلات [أي حينها في الأربعينات والخمسينات بسبب الانقسام والصّراع الدّاخليّ خصوصا] أضعاف ما تعانيه أوطان تلك الجماعة النازحة”.

لا ننسَ تأثير مقاهي القاهرة وبيروت وبغداد، وفيها اجتمع لعقود أبرز روّاد الأدب والفكر والسّياسة، ومنها خرجت إبداعات لا زالت خالدة، ولها تأثيرها في الوعي الجمعيّ حتّى يومنا هذا، ممّا أحدث ثورات لا أقصد بها الثّورات السّياسيّة بمفهومها الحرفيّ، وإنّما الثّورة بمفهومها التّنويريّ والإصلاحيّ والمعرفيّ، فهي لا تقتصر عند احتساء القهوة، أو شرب الشّاي، بل تحولت إلى ملتقيات ثقافيّة عفويّة، غير مسيّسة ولا مؤدلجة، وأحيانا ترتبط المقاهي برموز معينة، كمقهى الفيشاوي في القاهرة ارتبط بنجيب محفوظ (ت: 2006م)، ومقهى الزّهاوي والرّشيد في بغداد، ارتبط بجميل صدقي الزّهاويّ (ت: 1936م) ومعروف الرّصافيّ (ت: 1945م).

مقاهي القهوة هي الأماكن المعرفيّة والتّنويريّة المفتوحة الّتي لم يستطع حدّها، ولم تقتصر عند لسان الحوار والنّقاش والجدل والسّماع، بل تجاوزت إلى لسان الفنّ والموسيقى، فمن مقاهي الإسكندريّة أوصل سيّد درويش (ت: 1923م) رسالته النّضاليّة عن طريق الموسيقى كدنجي دنجي وقوم يا مصر وبلادي بلادي، وجاء لاحقا أيضا الشّيخ إمام عيسى (ت: 1995م)، حيث ارتبط مقهى الحسين والغوريّة بالشّيخ إمام مع صاحبه أحمد فؤاد نجم (ت: 2013م)، ومن هذه المقاهي كانت أغنية جيفارا مات والبتاع وغيرها.

نجد اليوم تطوّرا في المقاهي أيضا، للتحوّل إلى ملتقيات “صوالين” ثقافيّة وأدبيّة منسّقة مسبقا، ومعلن عنها، بدل الرّتابة “الرّوتين” في المجمعات والغرف الثّقافيّة المعهودة تقليديّا، بيد أنّ القوى النّاعمة في تنويريّة مقاهي القهوة هي اللّقاءات العفويّة والّتي بها يقترب المثقف والفيلسوف والمفكّر والفنّان والأديب وغيرهم أفقيّا من الإنسان، والّتي عادة لا فضاء يحدّها في النّقد والحديث، وتكون أوسع في تجاذب المعرفة، ففي هذه الأجواء يولد التّنوير والإبداع كلّما كان الفضاء رحبا وأوسع للجميع، مع الشّعور بالأمان والأطمئنانة والتّشجيع.

السابق
وهم إسرائيل الكبرى
التالي
تعقيب الأستاذ خليفة الحوسنيّ حول مقالة بدر العبريّ على جريدة عُمان “المقهى والثّورة” بعنوان: المقهى: فلسفة المكان ورحلة الإنسان عبر الزمن
– تنويه:

عدد من الصور المستخدمة للمقالات مأخوذة من محرك google

اترك تعليقاً