المقالات النقدية

التّسامح الانتقائي في يوم التّسامح العالميّ

جريدة عمان 1443هـ/ 2022م

في صيف 2019م في شيكاغو بالولايات المتحدة الأمريكيّة، شدتني عبارة وأنا أستمع لورقة الأستاذة رباب كمال من مصر، وهي إعلاميّة في الإذاعة، وكاتبة وناشطة ضّد التّطرف الدّينيّ، حيث قدّمت ورقة بعنوان: “الثّورات النّاعمة وآليات التّغيير المجتمعيّ: قضايا المساواة بين الجنسين، والحريات العقائديّة كركيزة لمواجهة التّعصب” في مؤتمر العرب الأمريكيين السّنوي الثّامن، والّذي بعنوان: “تطلعات لمستقبل الإنسانيّة”، شدّني عبارة من كلامها وهو “التّسامح الانتقائيّ”، ومع تأملي لهذه العبارة أدركت مليا أنّ هناك فارقا بين التّسامح الإنسانيّ والتّسامح الانتقائيّ، والعديد من الدول والأديان والمذاهب تستخدم التّسامح الانتقائيّ لا الإنسانيّ.

وفي عام 1996م اعتمدت الأمم المتحدة السّادس عشر من نوفمبر يوما عالميّا للتّسامح، “وأكدت منظمة اليونسكو على هذا المبدأ في إعلان المبادئ حول التّسامح الّذي صدر في باريس عام 1995م، وأصبحت الأمم المتحدة ترعى هذا اليوم لما له من أهميّة بالغة لدى الشّعوب” [التّسامح والتّعايش، ص: 14].

هذا المبدأ العالميّ ينطلق في ديباجته الأولى من “مسؤوليات الدّول الأعضاء في تنمية وتشجيع احترام حقوق الإنسان وحريّاته الأساسيّة بين النّاس كافّة، بدون أيّ تمييز قائم علي العنصر أو الجنس أو اللّغة أو الأصل الوطنيّ أو الدّين أو أيّ تمييز بسبب عجز أو عوق، وفي مكافحة اللّاتسامح”، ويقرر في مادّته الأولى “أنّ  التّسامح يعني الاحترام والقبول والتّقدير للتّنوع الثّري لثقافات عالمنا، ولأشكال التّعبير، وللصّفات الإنسانيّة لدينا، ويتعزز هذا التّسامح بالمعرفة والانفتاح والاتّصال وحريّة الفكر والضّمير والمعتقد، وأنّه الوئام في سياق الاختلاف، وهو ليس واجبا أخلاقيّا فحسب، وإنّما هو واجب سياسيّ وقانونيّ أيضا”، ويقرر أيضا في ذات المادّة أنّ “التّسامح لا يعني المساواة أو التّنازل أو التّساهل؛ بل التّسامح هو قبل كلّ شئ اتخاذ موقف إيجابي فيه إقرار بحق الآخرين في التّمتع بحقوق الإنسان وحرّياته الأساسيّة المعترف بها عالميّا، ولا يجوز بأيّ حال الاحتجاج بالتّسامح لتبرير المساس بهذه القيم الأساسيّة”، وتقرر أيضا أنّ “المرء حر في التّمسك بمعتقداته، وأنّه يقبل أن يتمسك الآخرون بمعتقداتهم، والتّسامح يعني الإقرار بأنّ البشر المختلفين بطبعهم في مظهرهم وأوضاعهم ولغاتهم وسلوكهم وقيمهم، لهم الحق في العيس بسلام، وفي أن يطابق مظهرهم مخبرهم، وهي تعني أيضا أنّ آراء الفرد لا ينبغي أن تفرض على الغير”.

فالمبدأ العالميّ للتّسامح لا يفصل بين الإنسان والتّسامح، وعليه ليس سلوكا أو سجيّة أو مصداقا عابرا، بقدر ما هو قيمة مضافة مرتبط بماهيّة الإنسان، من حيث كونه إنسانا قبل أن يكون منتميا لانتماءات كسبيّة، كانت وطنيّة أم عرقيّة أم دينيّة أم ثقافيّة، فإذا ربط التّسامح بهذه الهوّيّات خرجنا من التّسامح الإنسانيّ، والذّي أقرته جميع الأمم وفق هذا المبدأ العالميّ للتّسامح، ودخلنا في التّسامح الانتقائيّ، المرتبط بالهوّيّة لا بالماهيّة الإنسانيّة.

ولهذا ندرك اليوم أنّ العديد من الدّول، ممن تحتفي بالتّسامح العالميّ كمادة إعلاميّة مصدرة للخارج، لا كواقع داخليّ يشمل الجميع، هو تسامح في الحقيقة انتقائيّ، ولا يعتبر تسامحا إنسانيّا؛ لأنّ الثّاني واقع داخليّ وقانونيّ، يجعل التّعدديّة الفكريّة والدّينيّة والمذهبيّة والعرقيّة والثّقافيّة حالة طبيعيّة صحيّة، تجد الجميع سواء من حيث الواقع الاجتماعيّ والسّياسيّ، ومن حيث المواطنة والمشاركة، ومن حيث القانون الّذي يحمي الجميع على اعتبار فردانيّتهم وماهيّتهم، فيكاد تنعدم فيه أدوات الاستبداد والعنصريّة والكراهيّة للمختلف أيّا كان اختلافه، وتشعر فيه الأقليات، وأصحاب التّوجهات المختلفة بالانتماء للمواطنة الحقّة الّتي جعلتهم سواء مع غيرهم.

بيد أن التّسامح الانتقائي كما يرى جوكورت [ت 1779م] يجعل “المتعصبين والطّغاة … يعاملون الآخرين كالحيوانات، لا لسبب سوى لأنّهم يتبنون آراء مختلفة عن آرائهم؛ قد نسوا حقيقة أنّهم بشر مثلهم، فليس الدّين سوى ذريعة لمثل هذا النّوع من الطّغيان الّذي ينتج عنه عدم التّسامح مع أيّ فكر لا يتوافق مع فكرنا” [التّسامح شعلة التّنوير، ص: 46].

إنّ التّسامح ارتبط بالإنسان من خلال التّعايش في بقعة ما، وكلاهما مبني على التّعدديّة، وهي حالة إنسانيّة ملازمة للإنسان أيّا كان موقعه ومكانه وجنسه وهوّيّته، والتّعدديّة حالة طبيعيّة من حيث الاختلاف التّكوينيّ كاللّون وشكل الجسم ونوع الجنس، ومن حيث الاختلاف الكسبيّ كاللّغة والدّين والمذهب والانتماء القبليّ والعشائريّ، إلى كونه حالة سننيّة، لأنّ الاختلاف في التّعدديّة ملازمة لبناء الكون، ولا بناء له بدون اختلاف وتعدديّة، إلى كونه حالة جماليّة في الوجود، كجمال الحديقة المختلفة في أشجارها وثمارها، وتسقى بماء واحد، وتنبت في تربة واحدة.

إلا أنّ هذه التّعدديّة [الطّبيعيّة والسّننيّة والجماليّة] انحرفت عن القيم المرتبطة بالإنسان، ودخلت في صراع الهوّيات المرتبطة بالسّلطة من جهة، وبالدّين من جهة أخرى، فلمّا تلازما الدّين والسّلطة حدث تحريف في مصاديق القيم من جهة، وفي الأديان ذاتها من جهة ثانية، فخرجنا من إطار القيم الإنسانيّة، إلى النّفعيات البرجماتيّة لمجموعة قليلة من البشر، باسم الوطن من جهة، وباسم الدّين والمذهب من جهة أخرى.

وما حدث من مراجعات حول التّسامح في عصر الأنوار ليس لكونه متعلقا ابتداء بتلك المرحلة؛ بل لأنّ مراجعات تلك المرحلة ارتبطت بالإنسان وقيمه، وخرج في بدايته من الخطاب اللّاهوتيّ إلى بعده النّاسوتيّ، بعيدا عن الاغتراب الماورائيّ، كما نجد ذلك عند  فولتير [ت 1778م]، إذ يقرر أنّه “يجب أن نعدّ كلّ البشر إخوة لنا، ماذا؟ التّركي أخي، الصّيني أخي، واليهوديّ، والسّياميّ كذلك، أجل بالطّبع، ألسنا جميعا أبناء أب واحد، ومن صنع خالق واحد؟”  [التّسامح شعلة التّنوير، ص: 98]، ويقرر أنّ تعدديّة الأديان في الأصالة طريق للتّعايش بينها، وهو ارتباط وثيق بالتّسامح الإنسانيّ الّذي ترتبط به الأديان، “ولو وجدت في إنكلترة ديانة واحدة فقط لاعترى النّفوس خوف من الاستبداد، ولو وجدت فيها ديانتان فقط لتذابحتا، ولكن يوجد فيها ثلاثون ديانة، وهي تعيش سعيدة متسالمة” [الرّسائل الفلسفيّة، ص: 36 – 37].

والأمر لا يقتصر عند فولتير فحسب، بل شاركه فلاسفة التّنوير والمؤثرون في تلك المرحلة، كما نجده عند دیدرو [ت 1713م]: “أسمح للجميع بالتّفكير كما يشاؤون طالما يسمح لي أن أفكر كما أشاء” [التّسامح شعلة التّنوير، ص: 34]، وعند فريدريك العظيم [ت 1786م]: “لابدّ من تحقيق التّسامح بين جميع الأديان، وعلى الدّولة أن تكفل عدم اعتداء طائفة على الأخرى طالما أنّه متاح للجميع الذّهاب إلى الجنّة كل على النّحو الّذي يتخيره لنفسه” [التّسامح شعلة التّنوير، ص: 34].

بيد أنّ جون لوك [ت 1704م] الّذي أتى بعد مرحلة نهايات الصّراع بين السّلطة والكنيسة، وبدايات تكوّن المجتمع المدنيّ، دخلت قيمة التّسامح عنده في البعد الأخلاقي ضمن العقد الاجتماعيّ، للفصل بين السّلطة الدّينيّة والمدنيّة، ضمن الإطار الأخلاقي والعقلانيّ معا، فيرى “أنّ التّسامح بين أولئك الّذين يعتقدون عقائد مختلفة في أمور الدّين يتّسق تماما مع العهد الجديد الّذي أتى به السّيد المسيح، كما يتماشى مع مقتضيات العقل الإنسانيّ الحق” [التّسامح شعلة التّنوير، ص 26].

وبعد مخاض التّجارب والفلسفات المدنيّة المعاصرة، والّتي نقلت بالإنسان من عالم الصّراع الحيوانيّ، وأعادته إلى حالة التّعايش الإنسانيّ، بعيدا عن الإخفاقات السّياسيّة في بعض المراحل، نجد العالم اجتمع على وثيقة حقوق الإنسان عام 1948م، ليتبعه اليوم المبدأ العالمي للتّسامح، وهو مبدأ لا ينفصل عن وثيقة حقوق الإنسان، بل ناتح من نواتج هذه الوثيقة، الّتي هي أرقى ما توصل إليه العقل الإنسانيّ، وما أفرزته التجارب والفلسفات والثّقافات المختلفة، لتستقر على وثيقة إنسانيّة توافيّة، مرتبطة بذات الإنسان وماهيّته.

إنّ الخطورة الأكبر هو في تحريف مصاديق هذه القيم، وإظهارها في شكلها الدّعائيّ والإعلانيّ، لا في أساسها البنائيّ والإنسانيّ، فتنحرف لأغراض مصالحيّة سياسيّة أم دينيّة أم قبليّة، كما حدث ويحدث في تحريف التّسامح الإنساني إلى التّسامح الانتقائي، فتكون المصاديق حاكمة عليه لا القيمة ذاتها.

مراجع المقالة: التّسامح والتّعايش في جنّة دلمون لصلاح ليوسف الجودر – إعلان مبادئ بشأن التّسامح، جامعة منيوستا، نسخة الكترونيّة – الرّسائل الفلسفيّة لفولتير، ترجمة عادل زعيتر – التّسامح شعلة التّنوير، ترجمة عليّ محمّد القليبيّ.

السابق
المواطنة في ضوء الفردانيّة
التالي
جدليّة مدار السّنّة بين الشّقصيّ ومحمّد رشيد رضا
– تنويه:

عدد من الصور المستخدمة للمقالات مأخوذة من محرك google

اترك تعليقاً