تابعتُ عن بعد ما كتبُه أخونا الأستاذ أحمد المسهلي – حفظه الله تعالى – حول مسند الإمام الرّبيع بين حبيب البصري ت (ق2هـ)، وحول شخصية الإمام الرّبيع ذاته، وبداية له الحق المطلق في الحكم على الربيع وعلى مسنده، فهذه دائرة علمية نقدية مفتوحة للجميع، كما أنّ نقد مجموع الإمام زيد (ت122هـ)، وموطأ الإمام مالك (ت179هـ) ومسند الإمام أحمد (ت241هـ)، وصحيح البخاري (ت256هـ) ومسلم (ت261هـ)، والصحاح الأربع، والكافي للكليني (ت329هـ)، وما يحضره الفقيه للشيخ الصدوق (ت381هـ)، وغيرها من المصادر الحديثية مفتوحة أيضا للجميع.
إلا أنّ النّقد يبقى في دائرته المعرفية الشخصية الفردية أو المذهبية، ولا يملك أحدٌ أن يزعم أنّه بنقده هذا وصل إلى الحقيقية الكلية المطلقة، بل هو يدور في دائرة النظريات المعرفية القائمة على الأدلة الذهنية التصورية، وتصديقاتها بالطّبع لا تقوم على التجربة الحسية أو المادية كما في المعارف الطّبيعية.
ولا شك ما قام به الأستاذ أحمد المسهلي من نقد لمسند الربيع حسن جميل، ونقده يواجه بالنقد، البرهان بالبرهان، والحجة بالحجة، والدليل بالدليل، وبهذا تتقدم القافلة النقدية في العالم التراثي الشرقي، وتتضح معالمها وجوانبها.
وعلى العموم قبل أن نعلّق على بعض جوانب ما كتبه الأستاذ أحمد المسهلي لابد من الإشارة إلى التّالي كمنطلقات بديهية تدرك بالعقل والمنطق السليم:
أولا: أنّ المصادر الحديثية عند كافة المذاهب الإسلامية، هي مصادر بشرية بحتة، دوّنت بعد الرسول، وبعد آية الإكمال بزمن ليس بقصير، ومدونوها ورواتها بشر يصيبون ويخطؤون، ولو نزعناها كليا، وجعلناها في خانة التراث المغلق لما نقص من دين الله شيئا، فالرسول عليه السلام مات قبل أن تولد هذه المصادر، وأنزل الله قوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} قبل أن يعرف الناس هذه المصادر ولا أصحابها ولا رواتها.
ثانيا: علم الجرح والتّعديل عند المدرستين: مدرسة أهل الحديث، ومدرسة الشّيعة الإمامية، هو علم بشري مذهبي لا أكثر ولا أقل، فهو يدرس في هذه الأطر، وليس حجة تاريخية، ولا إلزاما كليا، فلو أتينا إلى علم الجرح والتعديل عند المدرسة الأولى التي ينتسب إليها أستاذنا الفاضل المسهلي، نجد من رموزها مثلا:
-شعبة بن الحجاج، أبو بسطام الواسطي ثم البصري (ت 160 هـ ).
– يحيى بن سعيد القطان، أبو سعيد البصري (ت 198 هـ ).
– يحيى بن معين أبو زكريا البغدادي ( ت 233 هـ ).
– علي بن عبد الله المديني أبو الحسن البصري ( ت 234 هـ ).
– إسحاق بن راهويه أبو يعقوب النيسابوري ( ت 239 هـ ).
– أحمد بن حنبل أبو عبد الله المروزي نزيل بغداد ( ت 241 هـ ).
– محمد بن إسماعيل الجعفي أبوعبدالله البخاري ( ت 256 هـ ) صاحب ( الجامع الصحيح).
نجد هؤلاء أقربَ إلى المدرسة الأثرية، والتي تشكلت بعدها المدرسة السنية، ثم سنجد مدرسة ابن حنبل تأثيرها الكبير في مدرسة الجرح والتعديل، وعليه الحكم على أشخاص من خارج هذه المنظومة سيكون للجانب المذهبي أثرا فيه، وأضرب لك مثالين، الأول عمرو بن عبيد المتوفى (143هـ) والمشهور بعدله وثقته، والذي اعترف بذلك المقربون منه ومخالفوه، والخلفاء والعوام، وقد قيل إنه حج أربعين سنة ماشيا، و بعيره يقاد معه، يركبه الفقير والضعيف والمنقطع به، و كان يحيي الليل كله في ركعة، فعل ذلك غير مرة في المسجد الحرام.
ورثاه المنصور بقوله:
صلى الإله عليك من متوسدٍ قبرا مررتُ به على مَرّان
قبرًا تضمن مؤمنا متخشعا صدق الإله و دان بالفرقان
فلو أن هذا الدهر أبقى واحدًا أبقى لنا عمرًا أبا عثمان
وعمرو بن عبيد مشهور بعلمه وثقته، ومع هذا سنجد علماء الجرح والتعديل يجرحونه لخلاف معهم في قضايا فكرية، نحو قول النسائي: ليس بثقة.
وأمثال عمرو بن عبيد كثير، ومليء بها كتب علم الجرح والتعديل.
والمثال الثاني من الرواة أنفسهم وهو الراوي علي بن زيد بن جدعان: جاء في التهذيب: ضعيف الحديث لأنّه كان رافضيا (هامش تهذيب الآثار للطبري، مسند عي بن أبي طالب، تحقيق أحمد شاكر، ص 30.
وإذا جئنا إلى قياس الماضي بالحاضر مثلا لتقريب الصورة حسب نظرية العمران عند ابن خلدون ت (808هـ) كما ذكرتُ هذا في موضع آخر شبيه، نجد أنّ التيار السلفي اليوم أكثر اهتماما بهذا العلم، وأشهرهم اليوم رجلان مثلا:
– الألباني المتوفى (2000م).
– ربيع المدخلي (لا يزال حيا).
والآن لو سألنا هؤلاء عن:
– الشيخ أحمد الخليلي.
– الشيخ سعيد القنوبي.
– الشيخ حسن السقاف.
– الشيخ الكوثري ت (1952م).
– الشيخ القرضاوي.
– الشيخ البوطي ت (2013م) .
– السيد السستاني.
– الشيخ الهرري ت (2008م).
– الشيخ العزي.
لقالوا مبتدعة ضالين، لا يعرفون ما يخرج منهم، إلى آخر تصنيفاتهم … وهؤلاء ثقات في مدارسهم، فقس الماضي بالحاضر.
ولقد سألتُ أحدهم من السلفية، وقلت له لو جاءتك رواية من طريق القرضاوي عن حسن المالكي عن السقاف عن عبد الله الغماري عن الكوثري هل تقبلها، قال: لا، كذاب عن كذاب.
وسألتُ السقاف وقلتُ له: لو أرجعناك إلى عصر ابن حنبل وأنت تتبنى الفكر المعتزلي الآن، هل ستقبل روايتك، فقال لي: أنا لا أقبل علم الجرح والتعديل هكذا.
ومما يدلك على تناقض هذا العلم – في نظري – أمران:
الأول: أنه قائم على الرواة ولو صغار السن، وكما قال بعضهم: تقبل رواية الراوي ما دام مفرقا بين البعرة والبقرة، في حين كانت لهم نظرة سلبية أحيانا حول الفقهاء، بل ومنهم من كفّر بعض الفقهاء كتكفير الإمام أحمد بن حنبل (ت241هـ) لأبي حنيفة ت (150هـ)، وعقد عبدالله بن الإمام أحمد بن حنبل ت (290هـ) في كتاب السنة بابا خاصا سماه: باب في كفر أبي حنيفة، وسماه بعض أهل الحديث بأبي جيفة، ونعتُ الآخرين بأوصاف ليست جيدة سائغ كثيرا في كتب أهل الجرح والتعديل، ونجدها ظاهرة بقوة حتى اليوم مثلا عند الألباني ت (2000م)، مما جعل حسن السّقاف يصنف كتابا مستقلا في قاموس شتائم الألباني، وكذا الحال عند ربيع المدخلي كما في كتابه ضلالات سيد قطب.
بل نجد من علماء الجرح والتعديل من كفّر بعضهم بعضا لخلاف فكري، فهذا البخاري صاحب الصحيح ت (ت256هـ) كفّر بسبب قوله: لفظي بالقرآن مخلوق.
الثاني: التناقض العجيب في الحكم على الشخص، فبعضهم يوثقه وبعضهم يجرحه، وهذا يدل على عدم وجود قواعد واضحة، فمثلا السند: صالح عن الزهري عن سالم عن أبيه، نجد مثلا صالح يضعه ابن المديني في قائمة الضعفاء بينما يرفعه ابن حبان إلى قائمة الثقات!!!
ثالثا: لكلّ مدرسة رواتها، وقديما قيل: أصحاب البيت أعلم بما في البيت، ومدرسة أهل الحديث مهما بلغت تبقى مدرسة مذهبية، تخص فئة من الناس لا الأمة بمجموعها، فهناك مدارس أخرى، ولنظرب لهذا مثلا: وهو أبو خالد عمرو بن خالد الواسطي (مات بعد سنة عشرين ومائة) راوي المجموع عن الإمام زيد بن علي (ت122هـ)، ، قال عنه ابن معين ( ت 233 هـ ): كذاب غير ثقة، وقال ابن حنبل (ت241هـ): كذاب، وقال النسائي ت (303هـ): كوفي ليس بثقة، وقال الذّهبي ت (748هـ): رافضي جلد، بينما يقول عنه أهل مدرسته ومذهبه، قال ابن الزبرقان ت 183هـ: لا يطعن في أبي خالد زيدي قط، وإنما يطعن فيه رافضي أو مناصب، وقال ابن الوزير ت 914هـ: ولا يمتري أئمتنا في عدالة أبي خالد وصدقه وثقته … الخ.فهنا نحن بين حكمين، حكم من داخل المدرسة التي ينتمي إليها الراوي وهو الحكم يثقته وأمانته، وبالتالي مروياته عن زيد من طريق الثقة عن الثقة، وحكم من خارج مدرسته: فهو رافضي كذاب، وبالتالي مروياته عن زيد مكذوبة أو ضعيفة على أقل تقدير، وعليه: هل مدرسة أهل الحديث حجة على غيرها، نعم من حق من ينتسب إليها، ولكن ليس من الحق جعلها حكما معرفيا مطلقا، والأصل تقديم ما قاله أهله عنه لا معارضوه.
والآن بعد هذه المقدمات السريعة نأتي إلى كلام أستاذنا المسهلي، والذي ينصب في:
– ضعف سند الربيع لضعف الرّبيع أو جهالته، حيث والذي يظهر من قوله: [لا قيمة علمية لسند ثلاثي معنعن أو مأنأن أو أحد رواته ضعيف أو مجهول بل يزيده وهناً حتى ينتفي ما ذكرته].
– الرّبيع ليست له ترجمة خلافا للكليني، فالأخير أوثق لوجود الترجمة، حيث قال: [أنّ كتاب الكافي للكليني الشيعي أوثق من مسند الرييع ومن شخص الربيع علميا، فالكليني له ترجمة في السير للذهبي القرن الثامن، والنظر إنما في رواته وبعض رواياته الباطلة سندا ومتنا].
القراءة:
الشيخ أحمد المسهلي يريد أن يثبت للقراء أنّ الربيع بن حبيب إما ضعيف أو مجهول ولا ترجمة له، لذا لا قيمة لمسند الإمام الربيع ….
من أين استقى وتوصل الشيخ المسهلي إلى هذه النتيجة الكلية السّالبة، وما هي مقدماتها السليمة الموجبة؟
لا شك أنّ الشّيخ المسهلي بحث في كتب الرّجال في مدرسة أهل الحديث ووجد أنّ الربيع لا وجود له، فكيف صاحب حديث لا يذكره المحدثون؟ والنتيجة هو مجهول، وكتابه منحول لجهالة الربيع!!!
إذا ما ذنبنا نحن إن كنا نعتقد أنّ الربيع إمام من أئمة مدرسة تاريخية عريقة قدما إن كان أهل الحديث بخلوا أن يترجموا له، وعليه المدونة أيضا منحولة لأنّ أبا المؤرج ت (190هـ) لما يذكره أهل الحديث، ولا عبد الله بن عبد العزيز ت(ق2هـ)، وعليه المذهب رأسا منحول …
فهنا ما ذكره المحدثون توثيقا وجرحا هو الحق ولو تناقضوا، وما لم يذكروه باطل ولو تواتر عند غيرهم وجوده، فالميزان هو ما قاله المحدثوث لا أكثر ولا أقل، وعليه الحكم هنا لا يخرج عن دائرة المذهبية الضيقة.
أما الربيع بن حبيب لو أبعدنا المسند فقد تناقله أئمة المذهب جيلا بعد جيل، فذكره ابن جعفر (من علماء النصف الأخير من القرن الثالث الهجري) في جامعه في القرن الثالث الهجري، عن تلاميذه، وذُكِرَ عند أقرانه في المدونة في نهاية القرن الأول وبداية الثاني، وهكذا نقل جيلا بعد جيل، فهل يعقل أن يكون هذا النقل الكبير إلى يومنا هذا عن مجهول، لأنّ أهل الجرح والتعديل لم يشيروا إليه؟
وهل يعقل أنّ أهل الجرح والتّعديل حووا جميع الرواة، فأين أجد جميع الرواة الإباضية والزيدية والشيعة الإمامية في مصادر أهل الحديث!!! بل حتى من رواة مصادر أهل الحديث ممن ليس لهم ترجمة!!!
فأتصور لابد من إعادة صياغة منهج أهل الحديث من جديد، في زمن توفرت فيه وسائل المعرفة، وتقاربت المدارس فيما بينها، حتى تكون النتائج إيجابية ومنطقية.
وخاتمة القول أنّ مسند الربيع عدمه وعدم وجوده لن يسقط الفقه الإباضي، ووجوده لن يزيده شيئا، فالفقه العملي مكتوب ومدون جيلا بعد جيل، ومصادر الرواية يستفاد منها، وهي محكومة بأدلة خارجية، ثم إنّ أكثر مرويات الربيع موجودة في جميع كتب الصحاح، والرسول عليه الصلاة والسلام دينه أكمله الله بكتابه كما أسلفت، والأمة عرفت الله قبل مصادر أهل الحديث وترجماتهم.
هذا ما أردت قوله ومشاركته في موضوع كثر فيه اللغط، وأردت بذلك المعرفة لا الانتصار للذات أو المذهب، فحسبنا كتاب الله جامعا بيننا نور وهدى وهيمنة وتصديقا، والحمد لله رب العالمين.
للمزيد عن الرواية عند الإباضية ينظر مقالي الأخير: الرواية عند الإباضية وقاعدتي العرض على القرآن وعمل المسلمين (مدونة أبي غانم الخراساني أنموذجا) نشر دورية الحياة، نشر جمعية التراث، رمضان 1434هـ/ 2013م، عدد 17، ص 66 – 81. منشور في صفحتي.
فيسبوك 1436هـ/ 2015م