المقالات النقدية

مؤتمر الفلسفة الأول وحضور الشّباب العمانيّ

جريدة عُمان 1443هـ/ 2022م

في معرض مسقط للكتاب في نسخته الأخيرة أخبرني أكثر من دور نشر كثرة إقبال الشّباب العمانيّ على كتب الفكر والفلسفة والنّقد، ولم يقتصر الإقبال على الكتب الغربيّة فحسب؛ بل كثر الطّلب بشكل كبير على الكتب الفلسفيّة والفكريّة العربيّة، ككتب محمّد أركون [ت 2010م]، ومحمّد عابد الجابريّ [ت 2010م]، وحسن حنفيّ [ت 2021م]، وطه عبد الرّحمن [معاصر]، وأبي القاسم حاج حمد [ت 2004م]، وجورج طرابيشيّ [ت 2016م]، وغيرهم كثير، فضلا عن الكتب الخليجيّة والعمانيّة في هذا الجانب، وإن كانت في بداياتها، إلا أنّ الإقبال عليها أيضا يتزايد سنويّا ومن الشّباب خصوصا.

ولمّا أخبرني الدّكتور محمّد عبد الكريم الشّحيّ، المدير العام لمؤسّسة الزّبير أيام معرض الكتاب الماضي بعزمهم على إطلاق جائزة باسم المرحوم صادق جواد سليمان [ت 2021م]، يصاحبه مؤتمر للفلسفة في النّصف الثّاني من مايو، حينها تسائلت في نفسي: من سيحضر هذه الفعاليّات؟ لسببين رئيسين: أولا أنّها ستعقد في بيت الزّبير في ولاية مسقط بمحافظة مسقط، وهي منطقة بعيدة عن الثّقل الطّلابيّ الموجود مثلا في ولاية السّيب؛ لثقل جامعة السّلطان قابوس، وثانيا: في هذه الفترة غالب الشّباب بين امتحانات أو إجازة صيفيّة، وبالتّالي يضعف الحضور، ثمّ إنّ غالب من كان يحضر قبل عقد من الزّمن يكون من النّخبة غالبا.

إلا أنني تفاجئت وقد اعتكفت على الحضور دون أن أضيّع دقيقة واحدة من النّدوات، أنّ القاعة أغلبها من الشّباب وليس كعادة الحضور من النّخبة سابقا، ثمّ إنّ القاعة شبه ممتلئة في غالب النّدوات، فضلا عن تواصل الشّباب من الولايات، حيث يسألون عن البث وأوراق عمل المؤتمر.

وفي آخر يوم من المؤتمر جاءني المفكر والباحث اللّبنانيّ رضوان السّيّد، وقال لي – فيما معناه – “كثر مجيئي إلى عمان لفترات متتابعة سنويّا لعملي في وزارة الأوقاف والشّؤون الدّينيّة في مجلّة التّفاهم لسبعة عشر عاما، إلا أنني تعجبت من حضور الشّباب وتساؤلهم وانفتاحهم في هذا المؤتمر”، أي وكأنّه بزيارته هذه تغيّرت بعض نظرته للفلسفة خصوصا، والفكر عموما عند الشّباب العمانيّ.

بجانب هذا كتب رضوان السّيّد مقالة له في الشّرق الأوسط بعنوان: “تحوّلات الفكر العربيّ: الاتّجاه الفلسفيّ والرّؤيويّ” بتأريخ 27 مايو 2022م قال فيها: “الّذي فاجئني – أي في مؤتمر الفلسفة الأول ببيت الزّبير – المتفلسفون من شباب عُمان وكهولهم، منهم محمّد الشّحيّ مدير بيت الزّبير، ومنى حبراس من العاملين بالبيت، وزكريا المحرميّ، وعليّ الرّواحيّ، ومحمّد العجميّ، وسعود الزّدجاليّ، وبدر العبريّ، وكلّ هؤلاء بدوا عارفين بكتبنا وأفكارنا، وأيضا بالتّيارات الفلسفيّة الغربيّة الحديثة والمعاصرة، وليس هذا فقط؛ بل إنّ من هؤلاء من هو مهندس أو طبيب أو واعظ”.

هذه الشّهادة الّتي ذكرها رضوان السّيّد قالها أيضا الضّيوف الفلاسفة الآخرون، وهم عبد الله السّيّد ولد أباه من موريتانيا، ومحمّد شوقيّ الزّين من الجزائر، وعبد السّلام بنعبد العالي من المغرب، ومحمّد المصباحيّ من المغرب، والزّواويّ بغورة من الجزائر.

الأمر المشرّف الآخر حضور الشّباب العمانيّ ليس في إدارة الجلسات فحسب؛ بل في تقديم أوراق عمل فلسفيّة وفكريّة أيضا، ولها أهميّتها، ومن هذه مثلا الورقة الّتي قدّمها عليّ الرّواحيّ بعنوان: هابرماس في الثّقافة العربيّة، ويورغن هابرماس [معاصر] من كبار الفلاسفة المعاصرين، بجانب كونه عالم اجتماع ألمانيّ معاصر، وله أكثر من خمسين مؤلفا، وقد قام عليّ الرّواحيّ بوضع خريطتها، إلّا أنّ غالبها للأسف غير مترجمة إلى اللّغة العربيّة، ثمّ تطرّق إلى فلسفته ورؤيته في جوانب متعدّدة، مع حضور رأي الرّواحيّ ونقده.

كذلك قدّم محمّد العجميّ ورقة بعنوان: فلسفة ما بعد الإنسانيّة واللّامركزيّة الأوروبيّة، وهو مشروع بحث يرمي الباحث إتمامه، إلا أنّ هذا المشروع يعتبر من القلائل من يبحر فيه، لقلّة الدّراسات العربيّة حوله، إذ توقف غالبها عند الفلسفة الإنسانيّة من حيث الأنسنة والنّزعة الإنسانيّة من جهة، ومن حيث الإنسانويّة من جهة أخرى، كما أنّ المدرسة التّفكيكيّة أو التّقويضيّة أو ما بعد البنيويّة كما عند جاك دريدا [ت 2004م] وتأثيرها على مركزيّة الفلسفة في عالم ما بعد الحداثة، والورقة عموما عميقة بذاتها، وكثيفة معرفيّا في الوقت ذاته.

الّذي يهمنا هنا في المجتمع العمانيّ أننا أمام منعطف فكريّ مستقبلا، هذا المنعطف هو الأكثر انشراحا وانفتاحا على الفلسفة، وانتشاره يزداد يوما بعد يوم من حيث الإقبال القرائيّ كما أسلفنا، ومن حيث الحضور الكتابيّ والبحثيّ من جهة أخرى، وهذا ذاته يتطلب انفتاحا على المستويات الثّلاثة: التّعليميّة والثّقافيّة والإعلاميّة، فمن حيث التّعليم على مستوى دول الخليج مثلا، فقد سبقت الكويت الجميع – تقريبا حسب علميّ – في تدريس الفلسفة، إلا أنّها كما أخبرني – بعض الأكاديميين فيها – متأثرة بالقوانين ذات الصّبغة اللّاهوتيّة والمتدخلة في انفتاحها، والفلسفة فكر حرّ من حيث الأصالة، إذا حدّ أو ضيّق لن تكون هناك فلسفة، ولن يصاحبها إبداع وانطلاقة معرفيّة تدافعيّة طبيعيّة.

كذلك المملكة العربيّة السّعوديّة أضافت قريبا مادّة “التّفكير النّاقد” في المناهج التّعليميّة داخل المملكة، وهي خطوة مهمّة من حيث الابتداء، والفكرة بذاتها تتطوّر وتتهذّب مع قابل الأيام.

وهذا ما نرجوه في مجتمعنا العمانيّ أنّ يكون هناك أكثر انشراحا وانفتاحا على الفسلفة ومناهجها وفروعها في السّلك الجامعيّ خصوصا، والتّعليميّ عموما، حيث أنّ الفلسفة لم تعد محصورة في زاوية ضيقة، كما أنّها لم تعد مجرد سفسطة؛ بل لها تأثير كبير في العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة عموما.

وما نراه الآن من انفتاح في الجانب الثّقافيّ على الفلسفة والفكر مبشر بذاته، ولم يقتصر فحسب على المحاضرات والأمسيات العابرة، فالجمعيّة العمانيّة للكتّاب والأدباء مثلا لها جائزة سنويّة للكتاب الفكريّ والفلسفيّ، كما أنّها تدعم طباعة الكتاب المتعلّق بالفكر والفلسفة.

كما أنّ الصحافة في الجانب الإعلاميّ أصبحت منفتحة على ذلك، ومنها الكتابات الفلسفيّة كما في “جريدة عُمان”، ومجلّة “التّفاهم” “وشرق وغرب” سابقا، ومجلّة نزوى، بجانب الصّحف الالكترونيّة “كالفلق” مثلا، ولها ملحق فلسفيّ في هذا، ينشر على فترات وإن كانت متباعدة عموما.

إلا أنّ وجود مؤتمر متخصّص للفلسفة يعتبر نقلة نوعيّة في مجتمعنا العمانيّ في نظري، قد تكون بدايته بسيطة، إلا أنّه بلا شك سيتطوّر في السّنوات القادمة، وبتدافعه سوف يتهذّب مع تطوّره، خصوصا في مجتمعاتنا الّتي انغرس فيها النّظرة السّلبيّة إلى الفكر والفلسفة، إلا أنّ الرّؤية شبه اختفت اليوم مع حضور الكتاب الفلسفيّ، وتقارب الإعلام الرّقميّ، وظهور الأقلام والقامات الفلسفيّة في مجتمعنا العربيّ عموما، والخليجيّ خصوصا.

وقبل عام تقريبا كنتُ في ندوة بعنوان: هل فشل التّنوير في العالم العربيّ؟ مع البرفسور أشرف منصور في القصر الثّقافيّ بالأسكندريّة في مصر، وهو رئيس قسم الفلسفة في جامعة الأسكندريّة، وكان حينها يتكلّم عن النّتاج الفلسفيّ والتّنويريّ في العالم العربيّ، وكانت إشكاليتي حينها أنّ العالم العربيّ لم ينتج نظريات فلسفيّة، بقدر ما هو مقلّد للنّظريّات الفلسفيّة الغربيّة، ومع مناقشتي لأشرف منصور خصوصا في المقهى بعد النّدوة، إلا أنني لم أكن مقتنعا حينها بجوابه، وطرحت السّؤال نفسه للبرفسور أحمد برقاوي من فلسطين، لمّا زارنا في معرض الكتاب الماضي، ووجدت جوابه كجواب أشرف منصور بمساهمة وحضور الفلسفة في العالم العربيّ، ولهم نقدهم ورؤيتهم المستقلة عن الثّقافة الغربيّة، وهو ما يراه حسن حنفيّ، وفي مؤتمر الفلسفة أعدّت السّؤال من جديد، وطرحته لعبد الله السّيّد ولد أباه ورضوان السّيد وغيرهم، ووجدت جوابهم متناسقا جميعا، وأنا أرى هذا الحضور في المؤتمر، والنّظريّات النّاقدة للفلاسفة والمفكرين العرب عموما؛ أرى أننا فعلا أمام نتاج فلسفي يجعلنا قد ننبهر بالآخر لأنّه غربيّ، ولكن أدركت بعد هذا كلّه أنني كنت على خطأ في بعض الجوانب لا جميعها، ولعلّ ذلك لا يعود إلى الفيلسوف والمفكر العربيّ، بقدر ما يعود إلى عدم وجود دعم ومجامع حاضنة بشكل كبير للمثقف العربيّ في جانبه الفكريّ والفلسفيّ خصوصا، وهذا ما يعانيه أيضا الباحث العمانيّ في الفكر والفلسفة، وإن كان الوضع اليوم أكثر تقدّما من السّابق، إلا أنّه يحتاج إلى مزيد من التّطوير والدّعم والانشراح.

السابق
الخوف من الآخر المختلف
التالي
الإلحاد الشّموليّ وأثره على العقل الجمعيّ
– تنويه:

عدد من الصور المستخدمة للمقالات مأخوذة من محرك google

اترك تعليقاً