المقالات التأريخية

العراق كما رأيته

جريدة عُمان، الأربعاء 9 ربيع الثّاني 1447هـ/ 1 أكتوبر 2025م

العراق حاضر في أذهاننا ووجداننا منذ كنّا صغارا، ارتبط بمادّة التّأريخ، درسنا فيه السّومريّة والكتابة المسماريّة، والأكديّة وسرجون الأكديّ، وحتّى بابل القديمة وشريعة حمورابيّ، والأشوريّة والكلدانيّة ونبوخذنصر الثّاني، وحتّى وقوع العراق في الامتداد الفارسيّ من الأخمينيّة وحتّى السّاسانيّة، وارتبط قديما أيضا بمادّة الجغرافيا في بلاد ما بين النّهرين، ودجلة والفرات.

ارتبط العراق في أذهاننا مبكّرا بشكل كبير في الإسلام المبكّر، حيث التّفت إليه العرب في عهد أبي بكر، وبشكل أكبر في عهد عمر بن الخطّاب الّذي أسقط الوجود الفارسيّ المتمثل في الدّولة السّاسانيّة في القادسيّة والمدائن وجلولاء ونهاوند، وهنا تأسّست البصرة والكوفة، كما ارتبط في أذهاننا – نحن الإباضيّة – في قضيّة المحكّمة الأوائل وارتباطهم بعليّ بن أبي طالب، ثمّ قضيّة حروراء والنّهروان وحتّى آسك، وارتبط بعُمان قديما من خلال ورود مجان في الكتابة المسماريّة، ثمّ ارتباط العمانيين بالعراق عموما، والبصرة خصوصا في الإسلام المبكّر، من هجرات الأزد من عُمان إليها، وحتّى العلاقات البحريّة والتّجاريّة، فهاجر إليها رموز عمانيّة كأبي الشّعثاء جابر بن زيد، والرّبيع بن حبيب الفراهيديّ، ثمّ الخليل بن أحمد الفراهيديّ، وابن دريد الأزديّ، والشّاعر الحميريّ الأزديّ، وأبي بكر الباهليّ العمانيّ، وغيرهم، كما ارتبط سياسيّا في العهد الأمويّ بأسرة آل المهلّب نسبة إلى المهلب بن أبي صفرة الأزديّ، وكانوا من الرّموز السّياسيّة في العهد الأمويّ.

الفكر الإباضيّ كغالب المدارس الإسلاميّة تكوّن في البصرة بالعراق، حتّى اشتهر في التّراث العمانيّ عبارة “باض العلم بمكة، وفرخ بالمدينة، وطار إلى البصرة، ثمّ نهض إلى عُمان”، وتبلور الفكر السّياسيّ الإباضيّ في البصرة خصوصا في سرداب أبي عبيدة مسلم بن أبي كريمة، لهذا الإباضيّة ارتبطوا مبكّرا بمدرسة أهل الرّأي، وكانوا أقرب إلى الاعتزال لاحقا، وكلا المدرستين لهما ارتباط بالعراق، وفي العصر الحديث أرسل السّلطان سعيد بن تيمور بعثة علميّة بإشراف الشّيخ أحمد الكنديّ إلى مدرسة الأعظميّة ببغداد سنة 1937م، وبرز منها عبد الله الطّائيّ أديبا، وأحمد الجمالي مترجما، والسّيّد ثويني بن شهاب في الإدارة والسّياسة.

أستطيع القول إنّ التّراث الإسلاميّ في العهد العبّاسيّ خصوصا تراث نشأ في العراق، ففيها عاش أبو حنيفة النّعمان بن ثابت، من الكوفة ولادة، وحتّى بغداد وفاة، وفيها مات موسى بن جعفر الصّادق الملقب بالكاظم، وإليه يُسمى الإماميّة بالموسويّة، وفقها نسبة إلى أبيه يسمون جعفريّة، وفي رواية أنّ إسماعيل بن موسى الكاظم إمام الإسماعيليّة توفي بالعراق، واستشهد زيد بن عليّ إمام الزّيديّة عام 122هـ قرب الكوفة بالعراق، وعاش جابر بن زيد الّذي يعتبره الإباضيّة إمامهم الأول في البصرة بالعراق – كما أسلفت -، والإمام الشّافعيّ ارتبط مذهبه القديم بالعراق، وفيها تكوّن أصوليّا، وأحمد بن حنبل عاش وتوفي ببغداد، وكلاميّا نشأ مذهب الاعتزال في العراق وبغداد خصوصا، وأهل الحديث أو الصّفاتيين كانت بغداد مركزهم، والإمام أبو الحسن الأشعريّ تكوّن مذهبه في بغداد ومات فيها، والإمام أبو الحسن الماورديّ صاحب المذهب الماورديّ هو بصريّ الولادة، بغداديّ التّكوين ودفن فيها، وإذا جئنا إلى اللّغة لا ننس مدرستي الكوفة والبصرة، ولا ننسّ الحلّاج والمتنبي وبشار بن برد وابن الرّوميّ وأبا تمام والبحتريّ وأبا نواس وأبا العتاهية شعرا وأدبا، ولا ننس سيبويه وابن جني والكسائيّ والفراهيديّ والزّجاج والمبرّد وغيرهم.

العراق ظلّت مرتبطة في أذهاننا ونحن نشاهد الشّاشة الصّغيرة، فلا يكاد تمرّ نشرة الأخبار إلّا والعراق يتردّد اسمها في النّشرة من حرب الثّمان، وحتّى الحصار، وحرب الأمريكان وسقوط النّظام السّابق، وأخيرا داعش، ولمّا بدأنا ننفتح على معارض الكتب وجدنا أسماء عراقيّة بارزة كطه باقر وعليّ الورديّ ومحمود شيث خطّاب وطه جابر العلوان ونائل حنّون وعبد الجبّار الرّفاعيّ وسعد سلّوم وخزعل الماجديّ وفاضل الرّبيعيّ وماجد الغرباويّ ومحمّد باقر الصّدر وميثم الجنّابيّ ورشيد الخيّون وغيرهم، وفي الشّعر بدر شاكر السّيّاب ونازك الملائكة والبياتيّ والجواهريّ ومظفّر النّواب وغيرهم، كما أنّ صوت الغناء العراقيّ في الشّاشة الصّغيرة له خصوصيّته وجاذبيّه، كصوت ناظم الغزاليّ، وعفيفة إسكندر، وأنطوانيت إسكندر، وفؤاد سالم، وسعدون جابر وغيرهم.

ليس من السّهولة أن تفكّر بزيارة العراق وأنت تحمل هذه الحمولة الذّهنيّة منذ الصّغر وحتّى اليوم، تتساءل عن بغداد والبصرة والعراق عموما، وعن أطلالها وتراثها، وفي ذهنك ذلك الزّمن الغابر وجدليّاته، هل هو نفسه أم كلّ شيء تغيّر، ألا زالت بغداد تحمل حمولات الكرخ والرّصافة، لقد حدّثتني النّفس كثيرا لزيارة العراق، ولمّا حانت الفرصة قبل عشرة أيام وقد دعوت فيها لزيارة إحدى البلاد العربيّة لمشاركة ثقافيّة لكني رفضت، كما تواصل معي بعض الإخوة المثقفين من إيران لزيارة عُمان ويريدون اللّقاء واعتذرت لهم لا لشيء؛ ولكن في نظري زيارة العراق لها مكانتها في وجداننا، فلا يدري الإنسان ماذا يكسب غدا، وكيف يكون حاله.

زرت بغداد، وزرت الكرخ والرّصافة، والكاظميّة والأعظميّة، وشارع المتنبي، ومقاهي الكرادة، ومقهى الشّابندر، والمجمع العلميّ العراقيّ، وغيرها، وجدتُ البلاد أنهكتها معاناة الحروب، منذ 1980م وحتّى سقوط داعش، ومع هذا هناك تحديث في الطّرق والشّوارع والبنية التّحتيّة، هناك أمل في بعث الحياة من جديد، وفي قلب بغداد حيويّة في النّشاط الثّقافي، تمتلئ القاعات لسماع أدبائها ومفكّريها، طلبوا منّي أن ألقي محاضرات في مجامعهم العلميّة بيد أني نجحت في رفض معظمها، وفشلت في أخرى، فما استطعت مثلا ردّ مجلس الشّيخ ثامر آل إبراهيم في حيّ العامل بكرخ بغداد، ومجلس الأديب عليّ الطّائي في بابل في وسط العراق بحضور ثلّة من الكتّاب والشّعراء والمثقفين العراقيين، كما كانت لنا مسامرات طويلة مع بشرى الجبوريّ وعليّ الزّيديّ وعبد الجبّار الرّفاعيّ وسعد سلّوم وميروان النّقشبنديّ وسامر السّعدون وأبنائه وغيرهم.

رغم مزاحمات من أعرفهم من المثقفين وممّن تعرفت عليهم حديثا، وهم يقدّرون العمانيين، ويحبّون عُمان كثيرا، ويسألون عن نتاجها الثّقافيّ، فليت مؤسّساتنا الثّقافيّة تلتفت إلى معارضهم ومجامعهم، وأن يكون الكتاب العمانيّ حاضرا أيضا في شارع المتنبي كسائر الكتب العربيّة، فالعراق خصبة جدّا في عشق المعرفة، ويسمعون الرّأي الآخر، ويحبّون الانفتاح على المختلف؛ مع هذا كلّه حاولت أيضا في أوقات اختطفتها، حيث ذهبت إلى المقاهي، وفي سيارات الأجرة، وجالست آخرين في الأسواق، ومع الشّباب والجيل الجديد، أحاول السّماع منهم وحول رؤيتهم، وعن أحوالهم وأوضاعهم، وجدتهم ينفتحون على الغريب بشكل طبيعيّ، ولهم آمالهم في عراق يسعهم جميعا، ولهم آلامهم وتحدّيّاتهم أيضا، وجدت العديد ينبذون الطّائفيّة، وأن يستخدم الدّين والمذهب في السّياسة، بيد أنّهم طرائق شتّى، وأحزاب مختلفة، وطرق تفكيرهم متنوعة، كطبيعة العراق، والّتي أخرجت منذ القدم هذا التّنوع، وهي اليوم “تضمّ   العرب وهم الأغلب، والأكراد، والأشوريين، والتّركمانيين، والشّبك، والأرمن، والشّركس، وأغلب أهل العراق مسلمون، منهم شيعة إماميّون جعفريّون، ومنهم السّنّة، وأغلبهم أشاعرة وماتريديّة، وفيهم سلفيّون، ويغلب فيهم الطّرق الصّوفيّة، وأشهر هذه الطّرق القادريّة، ومن القادريّة الكسنزانيّة، ثمّ الطّريقة الرّفاعيّة، والنّقشبنديّة، والخضريّة، والنّبهانيّة، والخالديّة، والسّنّة في العراق فقها إمّا أحناف أو شافعيّة أو حنابلة، ثمّ يأتي بعد المسلمين المسيحيّون، وأغلبهم كلدانيّون كاثوليك، ثمّ يليهم السّريانيّون الأرذوكس، ثمّ الإنجيليّون، وبعد المسيحيين اليهود والصّابئة المندائيّون، ثمّ اليزيديّون والبهائيّون، ثمّ الكاكائيّون والشّبكيون، إلى غير ذلك من المذاهب المعاصرة على شكل فرديّ، فضلا عن التّوجهات السّياسيّة والفكريّة كالعلمانيّة واليساريّين والبعثيّة والرّبوبيّة واللّبرالبيّة والعقلانيّة والحداثة والقرآنيين، وحركات الإخوان وحزب الدّعوة والحشد الشّعبيّ وغيرها”.

الحديث حول العراق يطول جدّا، لا يسعه مقالة قصيرة كهذه، فقط أرجو لهذا البلد كرجائي لسائر دولنا العربيّة وغيرها أن ينعم بالأمن والسّلام، والتّحديث والحداثة، وأن يُعنى بالسّياحة، فهي من أهم بلادنا العربيّة رافدا في السّياحة، وأن يدرك العراقيّون أنّ قوّتهم في ذاتهم، بحيث تكون لهم دولة مركزيّة واحدة أساسها المساواة والعدل، وتقوم على الإنسان كإنسان مكرّم تحت ظلّ أنسنة المواطنة، وأن لا تُدخل الخصوصيّات الطّائفيّة والمذهبيّة في السّياسة، فالسّياسة كائن بشريّ متحرّك، إذا ديّنت أو مذهبت ضاقت وتصارعت، وأن يكون ولاء جميعهم لدولتهم المركزيّة، وأن يعتنوا بالإنسان العراقيّ، وبتعليمه ونهضته وإحيائه وتحقيق كرامته، هذا ما أرجوه لهم، وقد وجدت فيهم اللّطافة والمحبّة والسّلام وتعايشهم الفطريّ والطّبيعيّ كعادة الشّعوب المتعايشة في العالم فطريّا.

السابق
تعقيب الأستاذ خليفة الحوسنيّ حول مقالة بدر العبريّ على جريدة عُمان “المقهى والثّورة” بعنوان: المقهى: فلسفة المكان ورحلة الإنسان عبر الزمن
التالي
التّنوّع بوصفه قدرا إنسانيّا: العراق كما رآه بدر العبريّ
– تنويه:

عدد من الصور المستخدمة للمقالات مأخوذة من محرك google

اترك تعليقاً