المقالات الإجتماعية

مكتبة حبر وتنشيط المجمع التّجاريّ ثقافيّا: عجب وإعجاب

جريدة عُمان، الأربعاء 27 أغسطس 2025م.

المجمعات التّجاريّة (المولات الكبرى) من أهم العوالم الّتي يرتادها النّاس يوميّا وبشكل مستمر، ففيها جميع أطياف المجتمع، من الصّغار والكبار والذّكور والإناث، وكلّ في عالم يسبحون، من التّبضّع إلى المقاهي والسّينما، والنّقاهة والمشي والرّياضة، ولقاء الأصدقاء، وهذه الجوانب اعتياديّة في حياة النّاس، لكن أن تزاحم الثّقافة بمعناها الأدبيّ والفكريّ والنّقديّ والفنيّ هذه العوالم يعتبر عملا مهمّا في نظري، بمعنى أنّ الثّقافة بالمفهوم التّقنيّ هي الّتي تذهب إلى النّاس، ولا تنتظر من النّاس أن تأتي إليها في مجمعاتها المنعزلة والمستقلّة، وإن كان لا يُستغنى عن ذلك أيضا، فلكلّ مقامه، كما أنّها بذهابها إلى عوالم تجمعات النّاس كالسّاحل والمقاهي والمجالس العامّة والحدائق والمجمعات التّجاريّة وغيرها هي تقترب من جميع شرائح المجتمع، وهذا يجعلها تقدّم الثّقافة وفق لغة النّاس، لا وفق لغتها العلويّة والتّقنيّة، كما أنّها تلفت العوالم المشتغلة بحياتها إلى فنون الثّقافة وتنوعها، وأهميّة حضورها في حياة الإنسان لنشر الوعي والتّفكير السّليم، فيحدث شيء من التّدافع والتّفاعل الّذي يخرج لنا رموزا ثقافيّة بعد حين من المجتمع ذاته، وقد يصادف هذا الاقتراب قلبا فارغا يجد في مثل هذا الحضور الثّقافيّ ما يدفعه إلى تنمية مواهبه، وينقله من دائرة العجب إلى الإبداع، ومن حبّ الموهبة إلى الرّيادة فيها.

وأنا أتأمل من بعيد ما أعلنت عنه مكتبة حبر الأسبوع الماضي أنّها ستقيم أياما ثقافيّة هذا الأسبوع من الأحد وحتّى الثّلاثاء، في المجمع التّجاريّ (المزن مول) بالموالح الشّماليّة بولاية السّيب، وقد أعدّت برنامجا ثقافيّا غالبه أدبيّ في القصّة والرّواية، كما شمل شيئا من الفكر والفلسفة والمناظرات والتّربيّة والوعي الدّينيّ والمعرفيّ بشكل عام، هذا التّأمل جمع بين العجب والإعجاب معا، والعجب تمثل في أمرين: الأمر الأول أنّ الّذي صنع هذا المشهد الثّقافيّ ليست الرّموز الثّقافيّة المعتادة في عُمان، أو المشتغلين بالثّقافة إدارة وكتابة ونتاجا، وليست المؤسّسات الثّقافيّة المعروفة، ولا الجهات الحكوميّة المعنيّة بالشّأن الثّقافيّ، الّذي صنع هذا المشهد فتية وفتيات غالبهم لا يتجاوزون العقد الثّالث من أعمارهم، يعملون عملا منظّما، من التّصوير إلى التّنسيق والتّسويق بروح الفريق الواحد، وأمّا الأمر الثّاني من العجب كما سمعت منهم أنّ الجميع يعمل بشكل تطوعيّ، وغالبهم إمّا طالب في كليّة، أو باحث عن عمل، أو فوق عمله في المكتبة وغيرها، ورغم تواصلهم مع بعض الجهات الخاصّة إلّا أنّهم لم يجدوا دعما جيّدا، بيد أنّ هذا لم يشكّل عائقا أو حاجزا لتنمية أمنيتهم، ولصناعة هذا المشهد الثّقافيّ الجميل، فصنعوا فارقا قادني من العجب إلى الإعجاب، والإعجاب لا يكون إلّا على أمر جليل وفريد كصناعة هذه الأيام الثّقافيّة بجهود تطوعيّة، ومن الأجيال الجديدة.

الجانب الآخر من التّأمل وأنا شاركتهم شيئا من يومهم الثّاني تمثل في الحضور، فمع تردّدي الغالب على المشاهد الثّقافيّة، واعتيادي على الوجوه الثّقافيّة المتردّدة عليها في الجملة؛ أرى هنا عالما آخر تماما، لم أعهد هذه الوجوه – في جملتها – في المشاهد الثّقافيّة المعتادة، وغالب الحضور أيضا من الجيل الجديد، وجدتهم في مناظرتهم يناقشون أمرين: “هل غزارة الإنتاج الأدبيّ تقلّل من أصالته؟”، “هل دخول المترجَم إلى مجتمعاتنا غزو أم انفتاح ثقافيّ؟”، فمع أهميّة السّؤالين شاهدت في النّقاشات وعيا قرائيّا، وذاكرة ثقافيّة موسوعيّة، يستشهدون في نقاشهم بأدب اليونان وفلاسفتهم، وبالأدب الجاهليّ وشعرهم، وبفلاسفة المسلمين الأوائل وشعرائهم ودار الحكمة، وبالرّموز الأدبيّة والفكريّة العربيّة المعاصرة، وبأدباء الغرب والرّوس وغيرهم من الشّعوب الأخرى، هذه الذّاكرة بقدر ما هي موغلة في ماضي الإنسان، هي أيضا منفتحة على جميع ثقافات الشّعوب المعاصرة، فهنا اجتمع أيضا العجب والإعجاب معا.

هذا التّأمل الابتدائيّ يمكن أن نستحضر منه أنّ مجتمعنا والحمد لله يحمل وعيا ثقافيّا متنوعا، وأنّ الجيل الجديد لا كما يصور في الجملة أنّه جيل سطحيّ، وأنّ ثقافته لا تتعدّى الثّقافة الأفقيّة، أو ما يسميها بعضهم بثقافة الشّطائر (السّاندويتشات) السّريعة، هذا الجيل يحتاج أن يعطى شيء من الثّقة والمساحة للإبداع والرّيادة، مع الدّعم والتّشجيع، كما يحتاج من المؤسّسات الثّقافيّة عموما، ومن المشتغلين بالأمر الثّقافيّ خصوصا أن ينزلوا إلى الجيل الجديد، وأن يتجاوزا برجوازيّة الّذي يُقدّم ويبجّل في المشاهد الثّقافيّة إلى المثقف الّذي يحمل رسالة الثّقافة، ويختلط بالأجيال الجديدة المشتغلة بالثّقافة، فالثّقافة ليست للوجاهة والرّياسة والتّكسّب والشّلليّة اللّاغيّة للآخر، وإنّما الثّقافة هي رسالة تحمل همّ التّنوير والتّواضع والصّبر والإصلاح والاقتراب من الإنسان.

ما يقوم به الجيل الجديد في مبادراتهم الثّقافيّة المتنوعة، وما تأملته من أيام مكتبة حبر الثّقافيّة، نرجو أن يعقبه تشكلات ثقافيّة جديدة في مجتمعنا (عُمان)، وأن يصاحبه على المدى البعيد وعي ثقافيّ أفقيّ تحتّ مظلّة الرّيادة، ينتج عنه وعي ثقافيّ رأسيّ تحتّ مظلّة القيادة، لنرى رموزا ثقافيّة جديدة، في مختلف جوانب الثّقافة، ونرى إبداعا كتابيّا وفنيّا وأدبيّا ونقديّا وفلسفيّا وموسيقيّا وغيرها، ينتج عن هذا كلّه حضور المثقف العمانيّ من الأجيال الجديدة في المحافل الدّاخليّة والعربيّة والدّوليّة، وهذا لا يتحقّق إلّا بالتّثاقف بين الأجيال، وإعطاء الثّقة والدّعم للجيل المثقف الجديد، وتوسيع دائرة حريّة إبداعه، بلا شك، سيقع في أخطاء وعثرات، ولكن لا يولد الإبداع بدون أخطاء وتعثّر، وعلى الجيل الجديد أن يدرك أنّ الثّقافة ليست قراءة فحسب، بل هي نظر وتفكّر وحوار وحضور وتدافع في المشاهد الثّقافيّة، وأنّ ثمرتها تحتاج إلى تواضع وصبر واجتهاد، مع الاستمرار في ذلك وعدم التّوقف، خصوصا وقد تهيأت وتيسرت جميع الأسباب المشجّعة للثّقافة اليوم والّتي ضاقت سلفا على الأجيال السّابقة.

السابق
الحوار الأخير مع المرحوم صادق جواد سليمان بعنوان: التّلازميات الضّروريّة لانضباط الأداء الإنسانيّ
التالي
أخلاقيّة الدّولة الوطنيّة
– تنويه:

عدد من الصور المستخدمة للمقالات مأخوذة من محرك google

اترك تعليقاً