جزيرة جربة من المناطق السّياحيّة الّتي يحيطها البحر من كلّ جانب، وتسمى جزيرة المساجد والأحلام، وفيها المسلمون واليهود، والمسلمون إباضيّة ومالكيّة، وهم متعايشون فيما بينهم، وفيها الأسواق القديمة، والآثار العتيقة من المساجد والمدارس والمكتبات وغيرها، وهي المنطقة السّياحيّة الأولى في تونس، وارتبطت بالإباضيّة منذ عصر الإسلام المبكر، وقد دخلها الإسلام مبكرا جدّا يقال سنة 47هـ.

ولمّا كنت مشاركا في ندوة في ندوة المدينة، في الدّورة الثّالثة منها، بعنوان: الإنسان والتّأويل، من تنظيم المعهد العاليّ في الدّراسات التّطبيقيّة في الإنسانيّات بسبيطلة، جامعة القيروان في الجمهوريّة التّونسيّة، من 7 – 9 أكتوبر 2023م، من حسن الطّالع عند الذّهاب لحضور افتتاحيّة النّدوة وفي الحافلة الّتي تقلّنا من الفندق إلى مكان النّدوة في الآثار الرّومانيّة بسبيطلة، جلس معي في ذات المقعد رجل مألوف لدي، قلتُ له: شكلك مألوف لديّ، وقال لي: أنت بالمثل، فتعارفنا فإذا هو الدّكتور زهير تغلات، ولم نلتق سابقا إلّا في حلقة مشتركة في قناة الحرة مع الإعلاميّ إبراهيم عيسى حول “الإباضيّة والخوارج”، وذلك يوم الاثنين 24 مارس 2021م، وكنتُ حاضرا في الاستوديو بالقاهرة، أمّا هو فكان عن طريق الاتّصال المباشر، فشجعني على زيارة جربة، وأنّه سيتولى التّنسيق بنفسه، وكانت لي رغبة قديمة في زيارة جربة مع تردّدي حينها بسبب الأوضاع الأمنيّة، بيد أنّي تشجعت على الذّهاب.
خرجتُ ظهر الخميس 4 ربيع الثّانيّ 1445هـ/ 19 أكتوبر 2023م من سبيطلة مع الدّكتورة نجاة فرفال، وخرجنا بداية من سبيطلة التّابعة لولاية القصرين، وهي وسط غربي تونس، فاتّجهنا إلى محطّة مدينة سيدي بوزيد، وهي المدينة الّتي انطلقت منها شرارة الرّبيع العربيّ في تونس والعالم الإسلاميّ، والمسافة بينهما حوال خمس وأربعون كيلوا مترا، أي ما يقارب ساعة، وتأخرنا في المحطّة ريثما يكتمل الرّكاب، ثمّ انطلقنا إلى قابس، ومن سيدي بوزيد إلى قابس حوالي ثلاث ساعات مع التّوقف، وقابس من المدن العريقة في تونس، ومشتهرة بالحمامات الطّبيعيّة، وفي هذه المسافة استفدت كثيرا من الدّكتورة، فهي صاحبة علم وخلق وتواضع، ومتخصّصة في دراسة الحضارة، ولها مكانة في تونس.
وصلنا محطّة تونس في العصر قبيل الغروب، وهنا الدّكتورة أصرت بنفسها أن تنظر في أمر الحافلات، ومنعتني من السّفر ليلا، خشية وجود قطّاع طرق، أو استغلال للغريب، ومن سوء الطّالع أنّ الحافلة المتجهة إلى جربة انطلقت قبلنا بفترة بسيطة، فنصحتني أن أمكث اللّيلة في قابس، وأول الفجر اتّجه إلى المحطة، وحجزت لي فندقا لا يبعد كثيرا عن المحطّة، فمكثت فيه ليلة، وبعد صلاة الفجر اتّجهت مباشرة إلى المحطة مشيا لأنّي لم أجد سيارة أجرة، وكانت الحقيبة ثقيلة بسبب هدايا الكتب، ومع هذا كنت من أوائل من حجز للحافلة.
ولديهم نظام جيّد في حافلات الرّبط بين المدن، مع رخص الأجرة، ولا يُستغلّ السّائح لطمع أصحاب الأجرة، كما يشعر بالأمن، وهذا وجدته في المغرب أيضا في تنقلي بين المدن، وعموما توجست من صاحب الحافلة، فكان ينظر إلى الحقيبة، وسألني ماذا تحمل فيها، ولماذا هي ثقيلة، وفعلا قريب جربة أوقفنا عند نقطة تفتيش، فجاء شرطيّ وأمرني بإنزال الحقيبة وفتحها، فسألني عن الكتب ولماذا تحملها، فأخبرته بوضع مشاركتي في النّدوة، وطبيعي المؤلفون والمهتمون بهذا يتهادون، فطلب هويّتي فأعطيته الجواز، فأمرني بالذّهاب.
والطّريق من قابس إلى جربة حوالي ساعتان ونصف، وهنا وصلت محطّة جربة قرب العاشرة صباحا، ووجدت الأستاذين زهير تغلات وعليّ بوجديديّ ومعهم الشّيخ محفوظ دحمان في الانتظار، وهم من رموز جربة ومثقفيها، فأخذنا جلسة تعارفيّة في المقهى، ثمّ ذهبت مع الشّيخ محفوظ دحمان لزيارة مخبره.

مخبر الشّيخ محفوظ دحمان للتّجليد والتّرميم
في صباح يوم الجمعة 5 ربيع الثّانيّ 1445هـ/ 20 أكتوبر 2023م في الحادية عشر صباحا ذهبت مع الشّيخ محفوظ دحمان لزيارة مخبره في تجليد وترميم المخطوطات، والشّيخ محفوظ من مشائخ جربة، ومن تلاميذ الشّيخ إبراهيم بن عمر بيّوض (ت: 1401هـ/ 1981م)، ودرس فترة بسيطة كما أخبرني في معهد الحياة بالقرارة، وحضر دروس الشّيخ بيّوض، والتقى به، وكان لديه تواصل مع من أتى بعده كالشّيخ عدّون بن الحاج عمر (ت: 1425هـ/ 2004م)، والشّيخ النّاصر المرموريّ (ت: 1432هـ/ 2011م)، كما يذكر شيئا من أخبار الشّيخ عبد الرّحمن بكلّي أو المشهور بالشّيخ البكريّ (ت: 1406هـ/ 1986م)، وهو ذاكرة شفويّة لمرحلة الإصلاح في الجزائر وتونس، ويحفظ الشّيء الكثير من الحراك والتّحولات في المذهب الإباضيّ في جربة خصوصا بعد النّصف الثّاني من القرن العشرين، والشّيخ من خطباء جربة، وله مكانة عندهم، وصاحبني طيلة الرّحلة رغم مرضه، وقد أجرى عملية من فترة بسيطة جدّا، ولم يفارقني حتّى ذهبت إلى قاعة الطّيران الدّاخليّة في جربة، وسيارته فرنسيّة تعود إلى سبعينات القرن العشرين، ولا زال محافظا عليها، وأخبرني أنّه يذهب بها إلى العاصمة تونس أكثر من مرة، وذكرني هذا بجارنا في الموالح الجنوبيّة بمحافظة مسقط، فلا زال متمسكا ومحتفظا بسيارته الّتي اشتراها عام 1976م، ويتنقل بها لمسافات، وبين صاحبنا هذا في عمان، وشيخنا في جربه شبه في السّمت والأخلاق وخدمة الآخر، فلمّا نظرت إلى الشّيخ محفوظ تذكرت صاحبنا في عمان، والأرواح تقترب وتأتلف مع بعضها.

وله شقّة متواضعة أوقفها لمشروع تجليد وترميم المخطوطات، وفي البداية أخبرني أنّ مشروعه بسيط جدّا، نحاول فيه أن نحفظ ما تبقى من مخطوطات مدارسنا العلميّة، فحفظنا حتّى الآن نماذج عديدة من الوثائق والمخطوطات، خصوصا من المساجد، وما بقي عند بعض العائلات، وللأسف رأينا العديد منها قد عزف أهلها عنها، حتّى كلّ ورقة منفصلة عن الأخرى، لهذا نحاول بداية تجميعها، ثمّ تنظيفها وتعقيمها، ثمّ نحاول جمع ما نراه أنّه من كتاب واحد، مع مواصلة البحث للحصول على أوراقه أو أجزائه الأخرى، ولعلّنا نجد منه مخطوطا أو أكثر متكاملا، لأجل المقارنة بينها، وهذه الورقات الّتي في المساجد من كتب كانت تدرّس للطّلبة، ومنها كتب في الفقه الإباضيّ، وكتب في الفقه المقارن، وفائدتها نستطيع معرفة الكتب الّتي كانت تدرّس قديما في مدارسنا تحت إشراف حلقات العزّابة، كما وجدنا كتبا في الفقه غير الإباضيّ، وكتبا في اللّغة العربيّة وفقهها، وكتبا في علم الحساب، وكتبا في الطّبّ، وأغلب هذه الكتب تعود إلى أواخر الدّولة العثمانيّة، أي في القرنين الثّامن عشر والتّاسع عشر الميلاديين، والعديد من هذا الكتب جلبت من إسطنبول.
وقد عثرت في هذه الأوراق نسخا من ديوان الأشياخ، وكنّا نعتقد أنّ نسخته الفريدة محفوظة فقط في مكتبة البارونيّ، وقد وجدنا نسخة منه بخطّ جربيّ عند عائلة المزابيّ، والنّسخة عبارة عن أجزاء من كتابين من الدّيوان، مع مقارنتها بنسخ الدّيوان الموجودة، والدّيوان قيمته أنّه يرجع زمنيّا إلى القرن الرّابع الهجريّ، ولأنّه ولأول مرة في التّأريخ الإسلاميّ أنّ الفقه يدوّن بشكل معجميّ، حيث اعتكف عليه سبع من مشايخ الجزيرة في غار مجماج، واعتكفوا فيه لأجل تأليف الكتاب، وسمي ديوان الغار، أو ديوان العزّابة، أو ديوان الأشياخ، وبعض الإخوة الميزابيين بقولون إنّهم يحقّقون الكتاب في اثنين وعشرين جزءا، وعسى يرى النّور قريبا بإذن الله تعالى.
كما عثرنا على نسخة من القرآن وفيه حواشي لتفاسير مختلفة، وأعتقد أنّه في أصله تفسير الجلالين، وكان هذا الكتاب يدرّس في الجامع الكبير، مع حصولنا على العديد من أوعية التّجليد القديمة لأغلفة المخطوطات.
وقد نُقلت العديد من الكتب المتكاملة إلى أماكن أخرى لحفظها من المساجد والبيوت، وبقي – كما أسلفتُ – ورقات متناثرة، وتصوّر هؤلاء لا قيمة لها، لهذا قمنا – وإن كان متأخرا – بجمعها وحفظها وتعقيمها، وفي السّنوات الأخيرة والحمد لله وجدنا اهتماما بالمخطوط ولو كان أوراقا متناثرة.
وفي الصّيف الماضيّ [أي صيف 2023م] عملنا شغلا نوعيّا، حيث حدّدنا المجموعات المتقاربة، واستطعنا حتّى الآن تجميع ستمائة مجموعة والحمد لله، مثلا ما نراه متقاربا في الخطّ ونوع الورق نجعله في مجموعة واحدة، فقد يكون كتابا واحدا، والمخطوط إشكاليّته سابقا لا يرقم بالصّفحات، ونعرض هذه النّصوص للمختصين، ويخبروننا من أيّ مخطوط هو، وهذا نعتمد عليه بشكل أولي، ثمّ نحاول قراءة النّصوص لنتمكن من ترتيب الورقات.

[ووجدتُ مخطوطا با للّغة العبريّة فسألته عنها فقال:] عندنا يهود في جربة يحتاجون إلى نسخ من كتبهم في صلواتهم وأدعيتهم، ويأتون إلينا لنسخها وتجليدها، والّذي تراه هو نسخ من مزامير داود، وميزة هذا الكتاب أنّ نصفه مكتوب بالعربيّة بخطّ عبري، والنّصف الآخر مكتوب بالعبريّة خطّا ونطقا، وعمر المخطوط هذا حوالي مائة وخمسون سنة تقريبا، واليهود جالية كبيرة في جربة يصلون إلى ألف وخمسمائة شخص، ومتعايشون مع المسلمين إباضيّة ومالكيّة بشكل كبير، أي في حدود مائة وخمسن إلى مائتين عائلة تقريبا، ويوجد تعامل كبير بينهم عشائريّا وماليّا مع الإباضيّة في جربة، فهناك علاقات تجاريّة وزراعيّة وصناعيّة بينهم، ولكلّ حريّته في معتقده وطقوسه، لهذا لا تجد في المخطوطات التّطرّق إلى الجدليّات الخلافيّة مع اليهود، ولم يدون شيء من هذه العلاقات في التّأريخ.
ومعرفتنا عن تأريخ المخطوط لأنّه أحيانا في آخره يذكر النّاسخ تأريخ نسخة للكتاب، وإذا لم نجد تأريخ ذلك نهتدي عن طريق العلامات المائيّة للورقة، حيث نعرف متى صنعت هذه الورقة، وقد وجدنا أيضا العديد من الأوراق والمخطوطات بخطوط مشرقيّة، وليست مغربيّة فقط.
ثمّ ذهبنا إلى مكتب صغير، وفيه آلة قديمة صينيّة الصّنع لتعقيم المخطوطات، حيث تقطع الأوكسجين عن مكان المخطوطات، سواء كانت غرفة أم صندوق، فتسحب الأوكسجين، لتجعل المكان غير قابل للاستنشاق، فيقتل أي كائن حيّ، إذ لا يستطيع العيش داخل المخطوط.
وبعدها دخلنا إلى غرفة المخبر، يقومون فيه بإصلاح المخطوط وتجليده وتخييطه، والآلة الّتي يستخدمونها بسبب الحالة الماديّة قديمة جدّا، ولا يكاد تستخدم اليوم، وأغلبها يدويّة، وفيها آلة قديمة لخرم المخطوط، وآلة لتجفيف الغراء، وأدوات التّخييط، ومسنّ وشفرات لترقيق الجلود، وآلة لتنظيف جوانب الورق ليكون متساويّا في أطرافه، وأغلفة وأدوات التّجليد، وأدوات تذهيب المخطوط، فعندهم ورق بالذّهب الأصليّ عيار أربعة وعشرين، والذّهب العادي المقلّد.

والعجيب أنّ الشّيخ لا يرمي ما يتبقى من ورق التّجليد، أو قصّاصات خرمه، وإنّما يحتفظ بها، لعلّ من الفنّانين من يريدها ليعمل شيئا فنّيّا، كما أنّه يعمل بنفسه، ويأتيه مستشرق ليساعده في قراءة المخطوط، اسمه الدّكتور بول بولف [من جامعة الأخوين بالمغرب]، أمريكي الجنسيّة، وأصله مدرّس للتّأريخ الإسلاميّ، ومغرم بالدّراسات الإباضيّة، لهذا أغلب دراساته الجامعيّة حول الإباضيّة، وأصدر العديد منها باللّغة الإنجليزيّة، وآخر إصدار له بعنوان الإباضيّة العثمانيون في القاهرة، ويقصد بهم الإباضيّة المغاربة الّذين اشتغلوا تحت إدارة الدّولة العثمانيّة، وأصبحوا سفراء وقناصل (جمع قنصل)، وانطلقوا من القاهرة مثل سليمان البارونيّ (ت: 1359هـ/ 1940م).
زيارة جمعيّة التّنشيط الثّقافيّ والمكتبة الوسائطيّة
في الواحدة ظهرا من يوم الجمعة نفسه زرتُ جمعيّة التّنشيط الثّقافيّ والمكتبة الوسائطيّة في حوم السّوق بجربة، والتقيت برئيس الجمعيّة زهير تغلات، والّذي تحدّث ابتداء أنّ المكتبة الوسائطيّة تديرها جمعيّة التّنشيط الثّقافيّة منذ افتتاحها عام 2005م، وفي عام 2020م اختصّت جمعيّة التّنشيط الثّقافيّة بتنشيط العمل الثّقافيّ بالمكتبة، وتتضمّن قاعة قراءة للباحثين، وفيها مجموعة جيّدة من الكتب في الأدب والتّأريخ والحضارة والفنون واللّغة والأديان وغيرها تصل حاليا إلى عشرين ألف كتاب، والكتب هنا بثلاث لغات: العربيّة والفرنسيّة والإنجليزيّة، ويتفرع عنها مخبر المخطوطات، وفيه ترقمن المخطوطات العائليّة بجربة، خاصّة عائلة الباسي، وعائلة مهني البارونيّ، وعائلة اللّينيّ، وعائلة الشّاهد، وقد افتتح المخبر عام 2017م، وقد استطعنا رقمنة ألف مخطوط بصيغة احترافيّة، وذلك بالتّنسيق مع المكتبة البريطانيّة للمخطوطات، وهي موجودة في موقع المكتبة البريطانيّة، ويمكن لكلّ باحث زيارة هذا الموقع.

وسميت الوسائطيّة باعتبارها ليست تقليديّة، أي تحتوي على الكتب فقط، بل هي أوسع من ذلك، من حيث الجوانب المعرفيّة والفنيّة والمخطوطات ومخبر أو نادي السّينما ورواق الفنون، ونادي التّراث، ونادي اللّغات، والمناشط المتنوعة الّتي تقام فيها، بجانب هي مكتبة تستخدم الوسائط الحديثة للوصول إليها، مثل رقمنة الكتب والمخطوطات، وجعلها متاحة عن بُعد للباحثين والقرّاء، ومن تقليد المكتبة أنّها تقدّم قراءة كتاب لكلّ شهر، وكلّ كتاب يقرأ نجعله في زاوية مخصّصة من الكتب المقروءة، كما أصدرت المكتبة العديد من الكتب، مثل نشرات تعريفيّة عن جربة بالعربيّ والإنجليزيّ والفرنسيّ، وكتاب أيام في التّرجمة، وكتاب للأطفال حول حكايات جربة وغيرها، كما شاركت في العديد من النّشرات حول جربة وحول المكتبة كمجلة الجسرة من قطر، ودراسات أندلسيّة، ومجلّة المسار.

كما التقيت بالقائم على مخبر المخطوطات بالجمعيّة الدّكتور عليّ بوجديديّ، ومن حديثه حول المخبر أنّ مخبر المخطوطات بالمكتبة اهتمّ بالمخطوطات المهدّدة بالانقراض، بالتّعاون مع مؤسّسة أركاديا، ومع المكتبة البريطانيّة، وقد تمثل التّعاون في المنحة من قبل المكتبة البريطانيّة في أجور العاملين بالمشروع، وفي توفير الآلات المساعدة على رقمنة وترميم المخطوط.
ومن طرائف المخطوطات الّتي حصلنا عليها مصحف مكتوب بالعربيّة، وتحت كلّ آية من آياته مكتوب بالتّركيّة العثمانيّة القديمة، وكان المستشرق جوزيف شاخت (ت: 1969م) زار جزيرة جربة، ونوه بهذا المخطوط، وبجماله، حيث أنّه محلّى ومزخرف، وعرضناه في القمّة الفرنكوفونيّة في جزيرة جربة [عام 2022م]، وأعجب زوار المعرض به، ومن المخطوطات النّادرة المكتوبة بخطّ مؤلفها لكاتبه الشّيخ سالم بن يعقوب (ت: 1411هـ/ 1991م)، مؤسّس المكتبة الباسيّة، هذا المخطوط عنوانه “الزّهر البستان في علم الأبدان”، من ستمائة صفحة في الصّيدلة، وهو من المخطوطات الفريدة الّتي لا يوجد منها إلّا نسخة واحدة، وهو غير محقّق، ونحن عازمون على تحقيقه، ومن المخطوطات أيضا مجموعة وثائق عائليّة، منها عقود زواج، ومنها تحبيسة على رق الغزال (رقيّة)، طولها حوالي متران، توثق طرق التّدريس والأحباس في جزيرة جربة.
والّذي عندنا من المخطوطات لا تقتصر عند المذهب أو الفقه الإباضيّ؛ لأنّ الإباضيّة انفتحوا على غيرهم مبكرا، فهناك مخطوطات في الفقه الحنفيّ والمالكيّ والمذاهب السّنيّة عموما، كما توجد مخطوطات باللّغة العِبريّة أيضا، كما نجدها متنوعة في علوم القرآن والفقه وأصوله وغيرها من جهة، وكتب أخرى في الصّيدلة والكيمياء والرّياضيّات وغيرها من العلوم من جهة أخرى.
ونحن لمّا نرجع المخطوط إلى العائلة نرجعه في صندوق يحفظ المخطوط من الرّطوبة والتّلف، ويكون مرتبا ومرمّما ومفهرسا، حيث لا نأخذ المخطوط، وإنّما بعد تعقيمه وإصلاحه نقوم برقمنته ورفعه على المكتبة البريطانيّة في قسم المخطوطات الإسلاميّة والعربيّة لتكون مشاعة للباحثين من أيّ قطر في العالم للبحث والتّحقيق، أمّا أصل المخطوط فيرجع إلى العائلة أو إلى أصحابه، وبعض المكتبات أهدت أصل المخطوط للمكتبة كمكتبة الشّاهد، إذا حبّست (أوقفت) مخطوطاتها للمكتبة الوسائطيّة، كما لدينا تعاون أيضا مع هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنيّة العمانيّة.
كما أننا لا نتوقف عند التّحقيق؛ بل نعمل في إقامة معارض وجلسات ودراسات محكّمة حول المخطوطات، وما يعرّف بها، والمكتبة عموما لها جلسات شهريّة في عرض الأفلام ومناقشتها، وفي قراءة ومناقشة الإصدارات الجديدة، وعندنا سنويّا ندوة دولية مشفوعة بكتاب، وآخر ندوة كانت حول “في بلاغة المقموعين”، ونعدّ كتابها حاليا، وهو 470 صفحة تقريبا، وسيصدر عن دار كنوز قريبا، وقبلها ندوة في بلاغة الأشكال الوجيزة، وندوة حول المخطوطات العائليّة بالتّعاون مع الدّار الوطنيّة بتونس ومخبر الرّقوق والمخطوطات برقادة بالقيروان، وأرجو أن تكون لنا مستقبلا أعمال مشتركة بين عُمان وجربة.
وبعد اللّقاء التقيتُ بالدّكتور بول بولف [من جامعة الأخوين بالمغرب] مع الشّيخ محفوظ دحمان، وكان شيء من الحديث الجانبيّ في المعرفة عموما بمشاركة الدّكتورين تغلات وبوجديدي.

المكتبة البارونيّة في جربة
في مساء الجمعة ٥ ربيع الثّاني ١٤٤٥هـ/ ٢٠ أكتوبر ٢٠٢٣م زرتُ المكتبة البارونيّة بجرية، والتقيت بالقائم عليها من أحفاد المؤسّس الشّيخ سعيد بن يوسف بن محمّد بن يوسف بن عليّ بن أبي عثمان سعيد البارونيّ، وكان لي معه حديث حول المكتبة، فأخبرني أنّ الشّيخ أبا عثمان أصله من جبل نفوسة من مدينة جريجة، ثمّ ذهب إلى مصر ليدرس في جامع الأزهر في نهاية القرن الثّامن عشر الميلاديّ، تقريبا عام 1792م، وبقي في القاهرة عشرين سنة، وتولى التّدريس أيضا في وكالة الجاموس في حيّ بن طولون بالقاهرة، وفي تلك الفترة كوّن نواة المكتبة البارونيّة من نسخه وشرائه للمخطوطات، فقد قام بنسخ العديد من الكتب في القاهرة، كما أشترى غيرها، وأغلبها من نسخه أي باسم سعيد البارونيّ الأزهريّ، وأول كتاب نَسَخه يعود إلى 1795م تقريبا.

ثمّ رجع إلى موطنه جبل نفوسة بليبيا عام 1811م، وهنا أرسل إليه الشّيخ صالح بن أبي مسور الجربيّ القائم على المدرسة المسوريّة، أو الجامع الكبير، [نسبة إلى جامع أبي مسور الّذي بني في القرن الثّالث الهجريّ وتحوّل إلى مدرسة كبيرة للتّعليم في المدرسة، واستمر التّدريس فيها إلى أواخر القرن التّاسع عشر الميلاديّ 1898م كما سيأتي ذكره]؛ حيث أنّ الشّيخ أبا الرّبيع سليمان الشّماخيّ (ت 1234هـ/1819م) خرج لأداء مناسك الحجّ وتوفي هناك، فطلب من الشّيخ سعيد أن يحلّ محلّ الشّماخيّ في التّدريس في المدرسة، وهذا هو السّبب الّذي جعله ينتقل من جبل نفوسة إلى جربة، ولهذا استقر في جربة من عام 1811م، حيث طاب له العيش في جربة، فقرّر الإقامة فيها.
ثمّ عاد إلى مسقط رأسه – أي جبل نفوسة – عام 1819م، ليجلب كتبه معه، وضمّ إليها كتب ابن عمّه موسى البارونيّ، لهذا يمكن اعتبار عام 1819م نواة تأسيس المكتبة البارونيّة في جربة، وقد كانت في محلّ سكناه فيها، حيث أصبح شيخ الجزيرة، وتولى الإمامة في الجامع الكبير، وكان محلّ الفتوى، وإليه يرجع في تعيين بداية رمضان ونهايته.
ولمّا توفي عام 1865م ورثها من بعده ابنه عليّ، وأضاف إليه ابنه مجموعة من الكتب، وتوجد بعض المخطوطات بيد ابنه عليّ، وجاء من بعد عليّ ابنيه يوسف وأحمد، فقسّمت المكتبة بينهما، وأغلب كتب المكتبة اليوم ممّا ورث من قسم يوسف، وأمّا قسم أحمد فلم يحافظ عليها ورثته، وما بقي منها فهو قليل، وبعد يوسف جاء ابنه محمّد، ثمّ ابنه يوسف، وهو والد الشّيخ سعيد، لهذا حاليا هو من يقوم عليها.
وأخبرني أنّ جدّه محمّدا كان مغرما بجمع الكتب، فاشترى العديد من المخطوطات والكتب، وسأله أنّ بعض الكتب نجد أطرافا من أجزائها، إمّا الأجزاء الأخيرة أو الأولى أو الوسط، فسأله عن باقي الأجزاء، فقال: هذه وزعت على الورثة وقد بيعت، وما بقي فهي هذه الأجزاء الّتي حافظنا عليها، وأضاف الشّيخ محفوظ دحمان [وكان حاضرا معنا، وهو من مشايخ جربة وخطبائها والمعنيين بالمخطوطات أيضا كما أسلفنا]: أنّ بعضهم يقسّمون حتّى أوراق الكتاب أو الجزء الواحد إلى أجزاء بين الورثة، فتضيع الكتب بهذا.
لهذا ما بقي من عدد الكتب والمخطوطات تصل إلى حوالي ألف ومائتين مخطوطا، وعدد المجلّدات 574 كتابا، فلمّا فكّكت أجزاؤها وصل إلى حوالي ألفين كتاب وزيادة قليلا، ولمّا زار الشّيخ أحمد بن حمد الخليليّ – مفتي عُمان الحاليّ – المكتبة في مقرّها القديم عام 2012م، أي بعد أربعين عاما من زيارته الأولى، حيث زارها عام 1972م، وعام 1974م، والقصّة كما أخبرني الشّيخ سعيد أنّ الشّيخ الخليليّ شاهد في زيارته الأخيرة أي عام 2012م مخطوط “وشي الحلل في شرح أبيات الجمل” [لأبي جعفر اللّبيّ ت 691هـ]، والنّاسخ لها سعيد بن عبد الرّحمن، وكتب في جمادى الأولى 974هـ، والمشهور بأبي جناح، وتملكه قاسم بن عبد الله البارونيّ، حيث وجد الكتاب قد تحلّل وتفتّت بين يديه، فطلب أن تخرج هذه المخطوطات من محلّها القديم، بسبب توفر الرّطوبة فيها ممّا لا يجعلها بيئة جيّدة لحفظ المخطوطات.
من هنا ساهمت عمان في بنائها الجديد في حومة السّوق بجزيرة جربة، وافتتحت في 25 جمادى الأول 1437هـ/ 5 مارس 2016م، وتضمّ قاعة استقبال، وقاعة المطالعة والرّقمنة والفهرسة والتّنظيف والتّعقيم، ومكتب المسؤول عن المكتبة، وقاعة للمحاضرات، وقاعة المطبوعات، وقاعة قسم الإهداءات، وفيها أيضا كتب باللّغتين الفرنسيّة والإنجليزيّة بجانب العربيّة، وتوجد فيها كتب في مختلف الفنون، ومنفتحة على كتب المذاهب الأخرى، فلم تقتصر عند المذهب الإباضيّ، بجانب المجلّات والدّوريات، ففيها مثلا غالب أعداد مجلّة العربيّ الكويتيّة، وفيها كتب معاصرة أيضا، وفيها قاعة لورشة ترميم المخطوطات والصّيانة والفهرسة، ومخبر أو قسم خاصّ للتّجليد.
ومن أهم قاعاتها قاعة المخطوطات، حيث تجعل في خزائن حديديّة، جعلوا المخطوطات الإباضيّة في قسم، والأقسام الأخرى مختلطة على المذاهب الأخرى، وموزعة على التّفسير وأصول الدّين واللّغة والفقه، والفلك الحساب والطّبّ، ورسائل وأجوبة وردود، والتّأريخ والسّير، والتّوحيد والتّصوّف، والأدب، والمنطق والفلسفة والحكم، وعلم الفرائض، ووثائق العائلة البارونيّة، ويستخدمون لحفظ المخطوطات موادا للتّقليل من الرّطوبة، وموادا للقضاء على التّسوس.
وبعد تعقيمهم وتنظيفهم للمخطوطة يعملون لها مذكرة فنيّة، يحصون فيها عدد الورقات، وبيان الفقرة الأولى والأخيرة منه، مع ذكر المؤلف والنّاسخ، والعام الّذي نسخ فيه المخطوط، ومكان النّسخ، وحجم المخطوط، ومقاس الورقة طولا وعرضا، وعدد الخطوط فيها، ثمّ يقومون بتصوير المخطوط، من خلال آلة خاصّة يرتبط بها جهاز حاسوب للتّثبت من صحة التّصوير، وأن يكون كاملا متناسقا كما هو، ثمّ يحال إلى حاسوب آخر مرتبط به للمراجعة، ثمّ يحال إلى حاسوب آخر لتمكينه للباحثين، ممّن يريد الحصول على صور رقميّة، ويمكن الحصول عليها عن طريق الحافظة المحمولة (الفلاش أو الهاردسك).
وعندهم حاليا قسم خاصّ للمخطوطات العائليّة الخاصّة، لمن يريد أن يحضر مخطوطاته، حيث يقومون بتعقيمها وإصلاحها، كما أطلعني الشّيخ سعيد على الهدايا وشهادات التّقدير الّتي حصلت عليها المكتبة، ومنها من عمان، من جامعة السّلطان قابوس، ومن كليّة العلوم الشّرعيّة مثلا، كما أطلعني على الكتاب الذّهبيّ، وفيها يدوّن الزّائر انطباعه حول المكتبة، فممّن زارها مثلا عمرو النّاميّ مرّتين عام 1968م وعام 1969م، والشّيخ إبراهيم بن عمر بيّوض (ت 1401هـ/ 1981م) مرتين أيضا، والشّيخ عليّ يحيى معمّر (ت 1400هـ/ 1980م)، والشّيخ ناصر المرموريّ (ت 1432هـ/ 2011م)، ومن عمان زارها العديد، منهم أمير البيان عبد الله الخليليّ (ت 1421هـ/ 2000م)، وسعادة أحمد بن سعود السّيابيّ، ووزير الأوقاف السّابق عبد الله السّالميّ، والعديد من الباحثين، كما أخبرني الشّيخ سعيد أنّ أغلب أو جميع سفراء عمان في تونس زاروا المكتبة، والجانب المهم أنّ الكتاب والمخطوط العمانيّ أيضا حاضر في المكتبة، ومن فترة مبكرة جدّا.
وعموما تعتبر المكتبة البارونيّة من أهم المكتبات العائليّة الإباضيّة في جربة خصوصا، ومن المكتبات العريقة عند إباضيّة المغرب، وهي وإن كانت حديثة زمنا، إذا لا تزيد عن قرنين من الزّمن؛ بيد أنّها تعتبر من المكتبات الرّائدة والمهمّة في الفكر الإباضيّ خصوصا، والإسلاميّ عموما، بما يحتفظ فيها من نفائس ومخطوطات.
قراءة نقديّة للفكر السّياسيّ الإباضيّ
في صباح يوم السّبت 6 ربيع الثّاني 1445هـ/ 21 أكتوبر 2023م في العاشرة صباحا زرتُ متحف جربة بصحبة الدّكتور زهير تغلات، وهو متحف وضع في بيت أثريّ، ويختصر تأريخ جربة وحضارتها، من العهود القديمة والوسيط، وحتى العصر الحديث، وفيه كعادة المتاحف ما حفظ من ثقافة جربة في الصّناعات واللّباس والبناء والتّجارة والزّراعة والبحر وحياة الإنسان، وتقاليد المرأة والطّفل والأعياد والأعراس، كما يتضمّن معالمها وبعض رموزها، كما زرتُ مع تغلات البرج الكبير، أو البرج الإسبانيّ في حومة السّوق، والّذي بناه الإسبان قبل معركتهم مع العثمانيين عام 1560م، وهو مطل على البحر، وبقربه المسرح البلديّ.

وفي الخامسة من عصر اليوم نفسه سجلتُ حلقة يوتيوبيّة مع الدّكتور زهير تغلات بعنوان: “قراءة نقديّة للفكر السّياسيّ الإباضيّ”، وبثت في قناة أنس اليوتيوبيّة، وممّا قاله في الحلقة: الكثير من الدّراسات اهتمت بالجانب السّياسيّ عند الإباضيّة، لكنّها مفرقة ومبعثرة، والسّؤال الّذي طرحته هل يمكن الخلاصة بفكر سياسيّ إباضي متكامل، له جذوره وامتداداته، وقد خلصت فعلا في كتابي “الفكر السّياسيّ الإباضيّ من خلال مؤلفات جابر بن زيد وسالم بن ذكوان والبرّاديّ والشّماخيّ”، وهو أطروحة ماجستير، أنّه فعلا توجد نظريّة سياسيّة متكاملة، وكانت لها لبناتها وقت النّشأة أي في فترة جماعة البصرة الأولى عند جابر بن زيد (ت: 93هـ)، وعبد الله بن أباض (ت: 89هـ) ومسلم بن أبي كريمة (ت: 150هـ)، إلّا أنّها تطوّرت لاحقا عند نشأة الإمامة الإباضيّة في المشرق والمغرب، ثمّ سقوطها، وكيف تفاعل المجتمع الإباضيّ مع سقوطها، وكيف حموا أنفسهم من التّهور السّياسيّ، تطوّر مع هذا تطوّر تفاعلاتهم المعرفيّة في الجانب السّياسيّ، جمعا بينها وبين الجانب الدّينيّ، تمثل ذلك في كتابات علمائهم السّياسيّة، فهو ليس فكرا جامدا توقف عند لحظة ما، بل هو فكر متطوّر، ثمّ هناك خصوصيّات لإباضيّة المغرب في الجانب السّياسيّ، كما توجد خصوصيّات أيضا لإباضيّة المشرق، مع وجود مشتركات بينهم.

ولكوني مشتغلا على الحضارة القديمة؛ لهذا بالضّرورة أنا مشتغل بالنّصوص القديمة، فأنا أحفر في هذه النّصوص للبحث عن مقومات الفكر السّياسيّ الإباضيّ، علينا كما أسلفت أن نتفق بداية على وجود فكر سياسي إباضيّ، وأنّه تطوّر في العصر الوسيط، ثمّ في العصر الحديث يمكن أن ننظر إليه أيضا لنبني عليه، ولا يمكن فهم ذلك إلّا إذا فهم الإباضيّة أنفسهم، وماذا يميّزهم في الفكر السّياسيّ وأصول الدّين وعلم الكلام والفقه عموما عن غيرهم، فعلى الإباضيّة أن يتصالحوا مع أنفسهم، ومع تراثهم وفكرهم، وأن لا يكتفوا باجترار صراعات قديمة حتّى بين أنفسهم، وبعد هذا يمكن الانتقال إلى وجود دراسات نقديّة لفكرهم عموما، وللفكر السّياسيّ خصوصا، من خلال التّفاعلات والمناهج المعاصرة.
مثلا الثّورات الّتي حدثت عام 2011م كيف يمكن أن يستفيد منها الإباضيّة، وكيف يمكن أن يتفاعل الإباضيّة اليوم مع التّحولات الدّينيّة الّتي تحدث في الشّرق والغرب، خصوصا مع الحركات الإسلاميّة السّياسيّة، فنحن اليوم في مرحلة مخاض، صحيح أنّ الفكر السّياسيّ الإباضيّ أصابه من الرّكود كغيره من المدارس الإسلاميّة، واكتفى باجترار مقولات قديمة، لكن لا يعني هذا أن لا يكون حاضرا كغيره اليوم، وأن يهمش حضوره وتفاعله في الواقع المعاصر، كما يحدث مع الفكرين السّنيّ والشّيعيّ بفروعهما، فنحن اليوم أمام مشهد دينيّ جديد، فيه كثير من التّفاعل والتّعدّد الّذي هو عنصر ثراء وليس عنصر تنافر وصراع.
وقد اتّهم الفكر الإباضيّ في فترة ما بأنّه فكر خارجيّ، وقد تحوّل فكر الخروج ذاته من فلسفة الخروج لأجل الحقّ وضدّ الجور؛ أصبح الخروج تهمة بمعنى الخروج من الدّين، فهناك خلط كبير في مفهوم الخوارج ذاته، والإباضيّة اليوم أنفسهم يتخبطون في هذه المسألة، بين الفخر في الانتماء إليهم، وبين التّبري من الانتماء إليهم.
عموما النّظريّة السّياسيّة الإباضيّة متميزة عن نظريّة القرشيّة، ونظريّة الانتماء إلى آل البيت، وانتقادهم السّابق لقرشيّة الإمامة هو انتقاد للتّوريث ذاته داخل الأسرة الواحدة، بيد أنّهم لمّا مارسوا السّياسة في عُمان وفي الدّولة الرّستميّة في المغرب؛ سقطوا في القرشيّة بمعنى التّوريث في الأسرة أو القبيلة، ووجد من يبرّر لها من الإباضيّة أنفسهم في كتب السّير، كمقولة الإمام الفاضل، والإمام المفضول، فالحركة النّكاريّة في المغرب مثلا، والّتي ظهرت سياسيّا بعد 171هـ، وبعد وفاة مؤسّس الدّولة الرّستميّة عبد الرّحمن بن رستم عام 171هـ، ولمّا آلت الخلافة إلى ابنه عبد الوهاب (ت: 208هـ) حدث صراع في قضيّة توريث الإمامة، لهذا النّكاريون أنكروا إمامة عبد الوهاب، وإن كان إنكارهم كانت لحظة سياسيّة، بيد أني وجدت أنّ لها جذورا أصوليّة وكلاميّة لها امتداد مع جماعة إباضيّة لم يكن لها اتّفاق مع أبي عبيدة (ت: 150هـ) في البصرة، وفي الكوفة كان يتزعمها عبد الله بن يزيد الفزاريّ (ت: في النّصف الثّانيّ من القرن الثّانيّ الهجريّ)، فهي تتفق مع الإباضيّة عموما، لكن كان لهم بعض آرائهم الخاصّة، وكان لديهم فيها جدل مع أبي عبيدة في الكلام والسّياسة، والكلام هو المستند العقائديّ للسّياسية، وهو يشبه اليوم الأيدلوجيا الّتي تحكم التّصورات السّياسيّة.
هذا الصّراع مبنيّ بين فريق من الإباضيّة المتمسكين بأصولهم الأولى في القرشيّة المطلقة، وبين من مال إلى الفكر السّنيّ حتّى سقطوا في التّوريث وولاية العهد، فالوهبيّة مثلا سقطت تبرير الثّاني من باب الأفضلية، وقد ظلم التّأريخ الحركة النّكاريّة، وبقي القليل ما حفظ من تراثها ومخطوطاتها، لعلّها تظهر في يوم ما، وفي الحقيقة كما بينت في كتابي “الولاية والبراءة في الفكر الإسلاميّ” أنّه لا يمكن تحقّق مفهوم المدرسة إلّا من خلال ظهور جدل في داخل المدرسة ذاتها، وهذا الجدل الّذي حدث بين النّكارية والوهبيّة، هو ذاته الجدل الّذي حدث بين الإباضيّة والأزارقة في شأن الخروج والقعود، واختيار الإباضيّة للقعود أحدث لديهم جدلا، وعلينا اليوم أن ننفتح على جميع التّراث النّاتج حول هذه الجدليات، فهي عنصر ثراء في الوقت ذاته.
أمّا قضيّة الولاية والبراءة في تقديري لها مركزيّة عند الإباضيّة، وهذه القضيّة هي الّتي لا زالت تحدث جدلا عند الإباضيّة حتّى اليوم، ومرتبطة بموقفهم من الصّحابة، وأصبحت تثير الحساسيّة والحرج عند إباضيّة اليوم، مثل البرّاديّ (ت: بعد 810هـ) في كتابه “الجواهر المنتقاة في إتمام ما أخلّ به كتاب الطّبقات” تحدّث عن علاقة الولاية والبراءة بالصّحابة، وأصبح الإشكال اليوم فكريّا، وسقط بعضهم في التّبرير، والدّرجينيّ (ت 670هـ) في كتاب الطّبقات بدأ من الطّبقة الثّانية، وسكت عن الخمسين الأولى ليتجاوز هذا الإشكال، بينما يرى البرّاديّ أنّه لا يمكن السّكون عن الخمسين الأولى، فكان للإباضية رأيهم السّياسيّ منذ فتنة الدّار في عهد عثمان بن عفّان (ت: 35هـ)، ويرون أنّ الّذين انتفضوا على عثمان في السّنوات السّت التّالية يمثلون جذورهم، وتوافقوا مع عليّ بن أبي طالب (ت: 40هـ) في قتاله لطلحة (ت: 36هـ) والزّبير (ت: 36هـ) وعائشة (ت: 58هـ) في معركة الجمل، أمّا في معركة صفين – وهي القضيّة الكبرى – كان لهم موقفهم الخاصّ في قضيّة التّحكيم، فكان حدسهم أنّ الانتقال من القتال إلى التّحكيم معناه انتصار معاوية (ت:60هـ)، وهزيمة عليّ، فيرون أنّ الثّاني أخطأ بقبوله للتّحكيم، ولا يتحرجون في ذكر ذلك.
هذه الفترة التّأريخيّة كان مزحومة بالفتن والصّراع السّياسيّ، وقد تحدّث الشهرستانيّ (ت: 548هـ) أنّه ما سلّ سيف في الإسلام إلّا بسبب الإمامة، ونراها بمنظور اليوم صراعات سياسيّة، ولكن كلّ طرف كان إباضيّا أو سنّيّا أو شيعيّا يحاول أن يضفي على هذه الصّراعات بُعدا دينيّا، ويبحث في النّصوص ما يبرّر موقفه، فكان للدّين في تلك الفترة يدا عليا على الجميع، فلا يمكن الحديث عن تلك الفترة بمقولات معاصرة، فمصطلح الدّيمقراطيّة مثلا اليوم يختلف عن مصطلح الدّيمقراطيّة الّذي ظهر في أثينا عند اليونان، كذلك لا يمكن إسقاط مثل هذه المفاهيم على لحظات تأريخيّة لها ظرفيّتها الخاصّة، كالقول باشتراكيّة القرامطة، وديمقراطيّة الإباضيّة، وإنّما للإباضيّة كانت لهم رؤية خاصّة في الإمامة تميل إلى العدالة والمساواة.
هناك خلط في كتب السّير بين مسالك الدّين ومسالك الإمامة، والمسلك في نظري هي اللّحظة التّأريخيّة الّتي يعيشها الإنسان، وهو أقرب إلى الحقبة التّأريخيّة، فعندما نتحدّث مثلا عن مسلك الظّهور يقولون هذا تناسبه إمامة الظّهور، ويضعون لإمام الظّهور شروطا معينة، وهذا لا يتناسب مع حقبة الدّفاع أو الشّراء، فلكلّ مسلك إمامة تخصّه، وأمّا مسلك الكتمان فهذا عايشه بصورة أكبر إباضيّة المغرب، فلمّا سقطت إمامة الظّهور في تيهرت على يد العبيديين في 296هـ؛ أصيب الإباضيّة بالتّشريد والإيذاء، وبحرق مكتباتهم كالمعصومة في تيهرت، ولم تكن لديهم مؤسّسة تربط بينهم وتحافظ على وجودهم المتناثر في أريغ وجربة والجريد ونفوسة وميزاب وغيرها، وتنظّم حياتهم الاقتصاديّة والاجتماعيّة والدّينيّة، فكانوا مهدّدين بالاضمحلال؛ لأنّ غياب الكيان السّياسيّ يؤدّي إلى اضمحلال الجماعات المنتمية إليه، ففكّر الإباضيّة في نظام يحمي كيانهم في هذه اللّحظة فاهتدوا إلى نظام العزّابة، وقد انظلقت فكرة العزّابة من جزيرة جربة من قبل أبي زكريا فصيل بن أبي مسور (ت: قبل 440هـ/ 1048م) وتلميذه أبي عبد الله محمّد بن بكر بن أبي بكر الفرسطائيّ (ت: 440هـ/ 1049م)، والثّاني من نفوسة، ودرس في الجامع الكبير، وانتقل إلى منطقة أريغ، فأرسل إليه أبو زكرياء رسالة مع ابنية زكرياء ويونس، وطلب منه أن يعتكف ويجلس في غار أريغ، وأن يفكّر مع تلاميذه في نظام يحفظ الإباضيّة من التّفكّك والتّهوّر، من هنا نشأ نظام العزّابة كنظام سياسي بديل في مرحلة الكتمان، وهذا لاعلاقة له بالنّظام السّريّ، أو الحركات السّريّة، فقط هو نظام ينظّم المجتمع الإباضيّ في هذه الحقبة الزّمنيّة، وهو نظام جماعيّ وليس نظاما فرديّا، له دور في تحقيق النّهضة العلميّة والفكريّة، فجلّ ما كتبه الإباضيّة في المغرب كتب في القرن الخامس والسّادس والسّابع والثّامن الهجريّ، وهذا تزامن مع نظام العزّابة.
الإباضيّة في جربة بين الواقع والتّأريخ
في أول صباح يوم الأحد 7 ربيع الثّانيّ 1445هـ/ 22 أكتوبر 2023م كان لي موعد مع الفقيه والمحقّق ساسي بن يحياتن، وسبق الإشارة إليه، ووجدته ينتظرني عند المكتبة الوسائطيّة في حومة السّوق، ولمّا تفتح بعد، حيث ننتظر الدّكتور زهير تغلات لفتحها، فحدث بيننا حديث عن عمان وبعض الجوانب الفكريّة والفقهيّة والدّعويّة، والتحق بنا الشّيخ محفوظ دحمان، ثمّ وصل تغلات على الثّامنة والنّصف؛ لأنّ المكتبة تفتح في هذا الوقت، فسجلتُ حلقة يوتيوبيّة قصيرة مع الشّيخ ساسي لارتباطنا بموعد في التّاسعة، وكانت بعنوان “الإباضيّة في جربة بين الواقع والتّأريخ”.

حيث يرى الشّيخ ساسي أنّه عندما جاء سلمة بن سعد الحضرميّ (ت: بعد 135هـ) إلى شمال أفريقيا سنة 102 أو 103هـ تقريبا، وقام بنشر الفكر الإباضيّ في هذا المكان، ثمّ أرسل وفدا من حملة العلم إلى أبي عبيدة مسلم بن أبي كريمة (ت: 150هـ) في البصرة، ثمّ رجعوا وبدأوا تأسيس الدّول، ومنها في طرابلس سنة 140هـ، ثمّ قامت بعد ذلك الدّولة الرّستميّة في تيهرت سنة 160هـ، فنشرت هذه الدّولة الفكر الإباضيّ بشكل أوسع، وقد وجد الفكر الإباضيّ حينها مع الفكر الصّوفيّ رواجا كبيرا لدى سكان شمال أفريقيا، وانتشار الفكر الإباضيّ لما يمتاز به من قيمة المساواة بين جميع الأجناس، واهتموا بالجانب التّطبيقيّ لهذه القيمة، ولم يتوقفوا عند الجانب التّنظيريّ، وقد امتدّ انتشار الفكر الإباضيّ إلى شمال الجزائر وجنوبه، وفي تونس حتّى منطقة السّاحل، ومنطقة القيروان، وكلّ الجنوب التّونسيّ، كذلك في طرابلس، وجبل نفوسة، وزوارة، والمناطق القريبة من طرابلس.
ثمّ لاحقا حورب هذا الفكر من الدّول المسيطرة في شمال أفريقيا، وأولها الدّولة الفاطميّة، ثمّ الدّولة الزّيديّة (الأدارسة)، لما يشكلونه – في نظرهم – من خطورة فكريّة عليهم؛ لأنّ الإباضيّة ينادون بالقيم الإسلاميّة أو الكونيّة الكبرى كالمساواة والعدل والحريّة، وآخر من حاول القضاء على الإباضيّة الدّولة العثمانيّة، وقد وصلت إلى جربة، رغم أنّ الجربيين ساعدوا درغوث باشا (ت 972هـ/ 1565م) ضدّ القائد الصّقليّ أندريا دوريا (ت 968هـ/ 1560م)، ولولا الجربيّون لكانت جربة اليوم مسيحيّة مثل صقليّة، وقد انتصروا على أعتى قوّة صليبيّة سنة 960هـ، وقد احتلوا جميع ثغور شمال أفريقيا عدا جربة انكسروا فيها، ومع هذا قابلهم درغوث باشا بجزاء سنّمار، ومارس ضدّهم الاضطهاد، وعلى هذا انحسر الوجود الإباضيّ في مناطق الجنوب التّونسيّ حتّى القرن التّاسع عشر الميلاديّ، فانحسروا من الشّمال التّونسيّ ومن السّاحل ومن الوسط التّونسيّ، وفروا إلى الأطراف والجزر ورؤوس الجبال والصّحاري، فانحسروا بشكل عام في جربة في تونس، وجبل نفوسة وزوارة في ليبيا، وفي صحراء بني مصعب أو ميزاب في الجزائر، وفي هذه الأماكن حافظوا على مبادئهم وقيمهم وتراثهم، ومنها جربة الّتي نحن فيها، وهي جزيرة يحدّها البحر من كلّ جانب.
وبعد القضاء على الدّولة الرّستميّة على يد الفاطميين في شمال أفريقيا سنة 296هـ – كما أسلفتُ – قرّر الإباضيّة لظروف تختلف عن المشرق وعمان عدم تأسيس دولة، واتّجهوا إلى تنظيم مجتمعهم بطريقة أخرى، فاقترح الشّيخ أبو يحيى زكرياء بن فصيل بن أبي مسور الجربيّ (ت: قبل 440هـ/ 1048م) على تلميذه أبي عبد الله محمّد بن بكر بن أبي بكر الفرسطائيّ (ت: 440هـ/ 1049م)، وأصله من فرسطاء من جبل نفوسة، وجاء إلى جربة ليتعلّم في الجامع الكبير، وأصبح من التّلامذة المقربين عند أبي زكرياء، لما يتمتع من ذكاء ونباهة ونبوغ، لهذا اقترح عليه أن ينشئ نظاما يحكم كيان الإباضيّة في شمال أفريقيا، وأرسل إليه ولديه يونس وزكريا، وابن أخته يحيى، فطلبوا من أبي عبد الله أن يؤسّس نظاما، فأسّس نظام العزّابة سنة 409هـ، وسمي بالنّظام التّسعيّ، وسمي أيضا بنظام السّيرة البكريّة المسوريّة؛ لأنّ الاقتراح جاء من أبي زكريا فصيل بن أبي مسور، والتّنفيذ جاء من أبي عبد الله محمّد بن بكر، وأصبح لاحقا شيخ العزّابة بمثابة الإمام العادل، كما أصبح باسطا نفوذه على الجنوب الجزائريّ، وعلى الجنوب الجزائريّ إلى السّاحل، وعلى جبل نفوسة بأكمله، وكان شيخ العزّابة يعتني بالنّاحية الدّينيّة والثّقافيّة والتّربويّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والسّياسيّة، حيث يقيم العلاقات مع مختلف الدّول في شمال أفريقيا وحتّى الأندلس، كما بسط نفوذه على طرق التّجارة الصّحراويّة الّتي تربط بين دول أفريقيا في جنوب الصّحراء وشمالها، كما تربط بينها وبين الأندلس، فأقامت علاقات مع الدّول الصّنهجيّة، ومع الدّولة الحفصيّة في تونس، حتّى أنّ الحفصيين بعثوا قاضيا إلى جربة، ويسمى ابن ناجي القيروانيّ (ت 838هـ)، فبقي سنتين فيها، وطلب الانتقال منها؛ لأنّه استوحش في عمله، حيث لا يأتيه النّاس للتّقاضي؛ لأنّهم يذهبون إلى العزّابة، فالعزّابة كانت تتولى التّقاضي وجميع شؤون البلاد.
وكان أنفس ما في هذه التّجارة الذّهب، حتّى أنّ المستشرق الفرنسيّ جولدن نافيس الّذي اهتم بالدّراسات الإباضيّة قام بتجربة دقيقة جدّا، حيث وزن الدّينار الأمويّ في الأندلس، فرأى أنّ هذا الدّينار يرتفع وزنه عندما تكون طرق التّجارة تحت سيطرة العزّابة، وينخفض وزنه عندما يفقد العزّابة السّيطرة على طرق التّجارة، فيكثر قطّاع الطّرق والسّرقات، وبالتّالي تقل تجارة الذّهب.
وعندما بدأت الأطماع الصّليبيّة على شمال أفريقيا، خصوصا على جربة، وكما يقول القائد الصّقليّ إنّ جربة تتوسط البحر الأبيض المتوسط، ويقول أيضا: لو قسنا المسافة من الإسكندريّة إلى جربة، ومن جربة إلى سبتة؛ لوجدناها واحدة، وقد قام الصّليبيون بثماني حملات لاحتلالها، يحتلونها أحيانا، فيستنجد الجربيون بالحفصيين في العاصمة تونس، فينجدونهم أحيانا، وأحيانا لا يقومون بذلك، لهذا اعتمدوا على قوّتهم الذّاتيّة، فطردوا الاستعمار الإسبانيّ والصّقليّ عدّة مرات، ودفعوا ثمنا باهضا من حيث الأرواح والممتلكات، وآخر حملة صليبيّة كانت 1960 م قام بها الإسبان والصّقليون، واحتلوا ثغور أفريقيا من وهران غربا، إلى طرابلس شرقا، فاحتلوا وهران والمرسى الكبير وبجاية وصفاقس وسوسة وحلق الواد وطرابلس، وعاثوا فيها فسادا، وتركوا جربة كلقمة سائغة لهم، وكقاعدة بحريّة هامّة، ولمّا جاء الإسبان والصّقليّون إلى جربة، ومعهم مائة وعشرون سفينة حربيّة، وكان الجربيّون قلّة مستضعفة، فطلبوا من إخوانهم في جبل نفوسة وميزاب أن يساعدوهم بالدّعاء والتّضرّع وقراءة القرآن ليلة الجمعة، فنصرهم الله، وهزم الصّليبيون على يد الجربيين، وانكسرت شوكتهم، وكانت دافعا معنويّا لبقيّة الثّغور في صفاقس وسوسة وتونس وطرابلس ووهران، حيث لمّا سمعوا بهزيمتهم في جربة؛ ثحرّروا، هذه الحملة لا تقل أهميّة عن الحملات الصّليبيّة الأخرى الّتي وقعت في المشرق، والّتي تصدى لها صلاح الدّين الأيوبيّ (ت: 589هـ/ 1193م)، والحملة الأخيرة كانت بقيادة شيخ العزّابة أبو النّجاة يونس أبو النجاة يونس بن سعيد بن يحي ابن تعاريت الجربيّ (ت حوالي 917هـ).
وللأسف بعدما ذهب العزّابة أصبحت فوضى خصوصا في الإفتاء، كما توجد فوضى فقهيّة، وفي جربة للأسف لا يوجد مرجع علميّ للإفتاء، نعم، نرجع إلى الشّيخ فرحات الجعبيريّ – أمدّ الله في أنفاسه – بيد أنّه أكثر تخصّصا في العقائد والحضارة من الأحكام الفقهيّة، وللأسف بعض علمائنا هنا ممّن درس في عمان تأثروا ببعض جزئيات الفقه العمانيّ، وأنت خبير بأنّ هذه الجزئيّات ذات خصوصيّة عمانيّة لا تتناسب مع خصوصيّتنا، فلنا خصوصيّاتنا في المغرب نحتفظ بها، ونبني عليها، وبما أنّه لا توجد لدينا مرجعيّة علميّة شخصيّة؛ هنا نعود إلى أهم مرجع لدينا في الفقه الإباضيّ، وهو كتاب الإيضاح للشّماخيّ، فهود عمدة الفقه الإباضي في المغرب، وبنت عليه كتب الفقه من بعده، ككتاب النّيل للثمينيّ، وشرح النّيل لقطب الائمّة أطفيّش، وأمّا القضايا المعاصرة فنجتهد فيها، ونلتجئ إلى مرجعنا في عمان الشّيخ أحمد بن حمد الخليليّ، ونستنير به في هذا، لكي نحفظ وحدتنا وشملنا.

في جربة عندنا تأثر بمدرسة الشّيخ بيوض (ت: 1401هـ/ 1981م)، وأنا من تلاميذ الشّيخ بيّوض، ومن أعلام هذه المدرسة أيضا الّذين أثروا فيّ الشّيخ أبو اليقظان (ت: 1393هـ/ 1973م)، والشّيخ عدّون (ت: 1425هـ/ 2004م)، والشّيخ المرموريّ (ت: 1432هـ/ 2011م) رحمهم الله جميعا، كما تعرفت بصورة أقل على الشّيخ البكريّ (ت: 1406هـ/ 1986م)، والشّيخ بيّوض كان له دور كبير في الجانب الإصلاحيّ في جربة، وإن كان الفكر الإصلاحيّ انطلق من جربة مع ذهاب الشّيخ عمّي سعيد الجربيّ (ت: 927هـ/1521م) لإحياء ميزاب خصوصا في غرداية في القرن العاشر الهجريّ، وتأريخيّا الجزيرة أكثر انفتاحا من الصّحراء، وقد جاء الشّيخ بيوض إلى جربة عام 1972م، وقد جاء شخصيّا لمناسبة زواجي، وكان معه مجموعة من المشايخ والأعيان.
ولا أرى شخصيّا هناك تصوّف إباضي ّ، هناك الزّهد، والانقطاع إلى الله تعالى، حتّى الّذين كتبوا عن الشّيخ إسماعيل الجيطاليّ (ت: 750هـ/ 1349م)، فكلمة تصوّف غريبة عن الفكر الإباضيّ، وهذا رأيي وقد أكون مخطئا، حتّى الشّيخ سعيد بن تعاريت (ت: 1356هـ/ 1936م) يقول: أثر التّصوّف بدخول الأتراك إلى جربة، مثل قطب الرّحى، وقدّس الله سرّه، وقدّس الله ضريحه، فهذا ألفاظ دخلت إلينا وهي غريبة عن الفكر الإباضيّ، وقد أدخل الأتراك إلينا فكرا غريبا، وهو ما يسمّى بالزّاوية أو الزّوايا، والّتي تجمع طريقة صوفيّة، وأدخلوها في جربة، ولها تأثير سلبيّ للأسف.
وبعد عام 2011 حدث انتشار للوهابيّة بشكل كبير في جربة، خصوصا بعد الثّورة، وللأسف كان هناك من السّياسيين عندنا في تونس من يشجعها، وهدفها القضاء على الإباضيّة في جربة، وبفضل الله وحمده، تماسك الجربيون، وتمكنوا من صدّ هذا المدّ، نعم، أثر فينا، وأخذ بعض شبابنا، ومنهم من تحوّل إلى التّطرّف، وهوس قتل الآخر، ومنهم من أخذ مساجدنا، واعتدوا على علمائنا وقبورنا، ومع هذا، خرجنا بأخف الأضرار والحمد لله.
كان الإباضيّة منتشرين في تونس في جربة والحامّة والجريد والجنوب التّونسيّ بصفة عامّة، وفي تمّر الّتي تسمى الآن بني خداش.
والوجود التّونسيّ الإباضيّ في مصر بدأ مع انتقال الشّيخ أبي خزر يغلا بن زلتاف (ت: 380هـ / 990م)، والّذي أخذه المعزّ لدين الله الفاطميّ (ت: 365هـ/ 975م) عندما انتقل من المهديّة بتونس لتأسيس القاهرة الفاطميّة، فأخذه كرهينة حتّى لا يثور على خلفه في تونس، وقال أبو خزر كلمته الشّهيرة: “تمنيت لو أنّ عشرين شابّا إباضيّا يأتون إلى مصر للدّراسة وأنا أتكفل بنفقتهم، ثمّ يعودوا إلى بلادهم”، هذه الأمنية ستتحقّق في نهاية القرن التّاسع الهجريّ وبداية القرن العاشر الهجريّ عندما ذهب الجربيون إلى مصر كتجار في البداية، وذلك عندما ضيّق عليهم الأتراك في جربة، فوجدوا متسعا في الجزائر وطرابلس في ليبيا وفي مصر، وفي الآستانة في تركيا، وفي مصر بدأ النّشاط التّجاريّ، ومن عادة الجربيين عندما يهاجرون إلى أيّ مكان يؤسّسون دار الجماعة، يأوي إليها الجربيون ليكونوا منتظمين ومتواصلين، واشتروا في مصر وكالة الجاموس، أو وكالة البحار، لأنّ أول من أسّسها وأوقفها الشّيخ عبد العزيز البحار الخيريّ من أجيم، وكان تاجر غلال وخضار في مصر، ثمّ اتّسعت بعد ذلك، ثمّ أقيمت حوله الأوقاف، وتسابق النّاس للوقف له حتّى النّساء، من أمثال السّيّدة آسية الشّارونيّ الّتي أوقفت له شيئا من العقارات، ووكالة الجاموس شجّعت الجربيين للتّجارة في مصر، وكانوا ينقلون بضائعهم من زيت وفخار وألبسة وغيرها عن طريق السّفن الشّراعيّة إلى الإسكندريّة، ومنها توزع في مصر.
كما شجعت الوكالة إلى انتقال الطّلبة إلى الأزهر، وهنا أذكر لك طالبين: الأول المعروف بالمحشي، وهو الشّيخ أبو عبد الله محمّد بن عمر بن أبي ستة (ت 1086هـ)، حيث ذهب إلى مصر طالبا، ولمّا أخذ نصيبه من العلم في الأزهر كدراسة عامّة، وفي وكالة الجاموس في الفقه الإباضيّ، لهذا أصبح مدرّسا في الأزهر ووكالة الجاموس معا، وعرف في الأزهر بالبدر أبي ستة، وبقي في مصر ثمانية وعشرين عاما، ثمّ رجع إلى جربة عام 1068هـ، والثّاني أبو حفص عمر بن رمضان التّلاتيّ (ت 1199هـ)، وكان طالبا، ثمّ أصبح مدرّسا في وكالة الجاموس، وفي الأزهر، وفي جامع المؤيد، وفي جامع ابن طولون، ولكثرة هجرة الجربيين إلى مصر، حتّى وصل عددهم بالآلاف؛ أصبح لهم نظام قريب من نظام العزّابة، وكان شيخهم منهم، يطلق عليه شيخ التّجّار، أو شيخ الجربيين، أو شيخ المغاربة، وكان حلقة وصل بين الجرّبيين والسّلطة في مصر، حيث كان السّلطة في مصر لا تتدخل في شؤون الجربيّين، ويحلّون مشاكلهم بأنفسهم، لهذا كان أول سفير للدّولة التّونسيّة الحديثة إلى مصر، ويسمّى أيضا وكيلا، هو الشّيخ سعيد بن قاسم بن سليمان الشّماخيّ، والأرشيف التّونسيّ يعجّ برسائله وبتقاريره الّتي كان يرسلها إلى الحكومة التّونسيّة، وكان الجربيون يمتلكون تقريبا غالب منطقة ابن طولون، والّتي سميت لاحقا بمنطقة الحسين، وكانوا يمتلكون العقارات والمحلّات، ويمتلكون المزارع الفلاحيّة، وكان العديد منها وقفا على الطّلبة الإباضيين من جربة وميزاب وجبل نفوسة.
انقسم الإباضيّة بعد وفاة الإمام الرّستميّ عبد الرّحمن بن رستم (ت: 171هـ)، مؤسّس الدّولة الرّستميّة، جاء بعده ابنه عبد الوهاب (ت: 208هـ)، فأنكر عليه بعضهم وراثة الإمامة؛ لأنّ من مبادئ الإباضيّة عدم التّوريث، في حين بايعته مجموعة أخرى لأفضليته، فسمي هذا الفريق بالوهبيّة، نسبة إلى عبد الوهاب بن عبد الرّحمن بن رستم، وليس إلى عبد الله بن وهب الرّاسبيّ (ت 38هـ)، ولم تسم بالوهابيّة، حيث الفريقان يعترفان بعبد الله بن وهب الرّاسبيّ، وسميت الفرقة الأولى بالنّكار، وهم يتقزّزون من تسميتهم بالنّكار، وقد كتبتُ مقالا استفزازيّا عن قصد، وعنوانه: أين ذهبت المصادر النّكاريّة في جربة؟، فجاءني أحدهم منتقدا، فقلتُ هذا ما أعرفه، وإذا لديكم مصادر أو مخطوطات تثبت عكس ذلك فأفيدوني بها، فأحضروا بعض المخطوطات، وهم يسمون أنفسهم مستاوة نسبة إلى قبيلة مستاوة، فنسبتهم مستاوي وليس نكاريّا، والانقسام بين الطّائفتين سياسي وليس دينيّا، وحاول كلّ فريق أن يجد لنفسه متكأ دينيّا، فاتّجه المستاوة إلى عبد الله بن يزيد الفزاريّ (ت: تقريبا 179هـ)، العالم الجليل الكبير، والّذي أول من ألف في العقائد الإباضيّة، وفي الفقه اتّبعوا ابن عبد العزيز وأبي المؤرج وآخرين، والإمام أفلح (ت تقريبا 250هـ) يقول فيهم: “هؤلاء الّذين أسّسوا هذا الاتّجاه نأخذ بآرائهم إلّا فيما خالف المبادئ”، لأنّ الخلاف سياسيّ وليس عقديّا، وللأسف هذه التّفرقة قسّمت الإباضيّة في شمال أفريقيا، وقسّمتهم أيضا في جربة وجنوب تونس خصوصا؛ لأنّ في ميزاب لم توجد، وفي نفوسة بمقدار أقل، ولو اتّحد الطّرفان لتمّ القضاء على الدّولة الفاطميّة، عندما ثار عليها أبو يزيد مخلد اليفرني (ت: 336هـ/ 947م) في 330هـ تقريبا، ومع الأسف كتب السّير عندنا تحاملت على جماعة مستاوة، وقالوا في أبي يزيد مخلد ما لم يقل مالك في الخمر، لهذا يجب قراءة كتبنا قراءة نقديّة وليست قراءة تقديسيّة، ولمّا قرأت كتبنا قراءة نقديّة وجدت التّحامل كبيرا، وأبو يعقوب الوارجلانيّ (ت: 570هـ / 1175م) صاحب الدّليل والبرهان يقول: “أقرب النّاس إلينا أبعدهم عنّا”، أي أبعدناهم بالسّياسة والكتابة، وقد اكتشف بعض مؤلفات ومخطوطات المستاوة، وستنشر قريبا بعونه تعالى، وقد رأيت فيها أنّ هذه الضّجّة لا أساس لها، وقد كان المستاوة ينسخون مخطوطات الإباضيّة، ولو كانوا يخالفونا لما نسخوا مخطوطاتنا، وهم يترحمون على علمائنا، وقد كان الجفاء من الوهبيّة وليس مستاوة، وقد ظلمهم التّأريخ كثيرا، نعم نختلف في بعض الجزئيات، كما هو واقع بين الوهبيّة أنفسهم، والكل متفق على المسائل الكبرى.
وجربة انقسمت إلى جزء شمالي غربي وهبيّ، وجزء جنوبي شرقي مستاوي، وبسبب التّضييق عليهم تحوّلوا إلى مالكيّة في الابتداء، ولهذا أتلف المالكيّة مخطوطات آبائهم المستاوية، فأتلفت وأحرقت أغلب مخطوطاتهم، والآن حصلنا على بعض مخطوطاتهم كما أسلفنا، خصوصا مخطوطات أبي يزيد الفزاريّ، ونشر الدّكتور عبد الرّحمن السّالميّ جزءا منها، وسأقوم بعونه تعالى قريبا بنشر جزء آخر.
غار مجماج في جربة ومسجد بن بيان

في صباح الأحد 7 ربيع الثّاني 1445هـ/ 22 أكتوبر 2023م قرب العاشرة صباحا زرت غار مجماج في جربة، وبجنبه بن بيان الّذي بني في القرن السّابع عشر الهجريّ بصحبة الشّيخ محفوظ بن دحمان، وفي الطّريق مررنا بالحيّ اليهوديّ، أو الحارة الصّغيرة، وفيه كنيس الغريبّة، كما مررنا على منزل الشّيخ فرحات الجعبيريّ، وهو من أهم الرّموز الدّينيّة الإباضيّة في جربة وتونس عموما، وزرته عام 2016م في مسجد الهتاتيّ، وهو المسجد الإباضيّ الوحيد في العاصمة تونس، كما زرته في العام نفسه في جمعيّة “جربة تواصل” بالعاصمة تونس، كما زرنا أيضا جامع الباسيّ وفيه مسجد ومصلّى صيفيّ ومكتبة وضريح وغرف للتّدريس، وهو يعود إلى القرن الثّاني عشر الهجريّ، بناه أبناء الحاج يحي الباسيّ محمّد وسالم وعثمان.
ولمّا وصلنا إلى غار مجماج تحدّث عليّ بوجديديّ قائلا: إنّ إمجماج – أمجماج – أمجمجة معناه اختلط واجتمع باللّغة الأمازيغيّة القديمة، وعمارة الغار مثل العمارة التّقليديّة في الجنوب التّونسيّ، تقوم على العناصر الثّلاثة: البساطة والوظيفيّة والتّقشف، لهذا جميع المواد والخامات الموجودة هي من المنطقة نفسها تجنّبا للمباهاة والسّرف، والغار محفور في الصّخر أو التّراب، ولا يوجد فيه دعاميات، ويرجع إلى مرحلة الكتمان عند الإباضيّة، وبعدا عن عين السّياسة، ولأجل الهدوء في الكتابة، وتوفر مناخ من البرودة بعدا عن حرارة المنطقة خصوصا في فصل الصّيف، وفيه كتبت أكبر موسوعة في الفقه الإباضيّ القديم، أي ديوان الأشياخ في نهاية القرن الرّابع الهجريّ، وكتبه سبعة من كبار الفقهاء والعلماء الإباضيّة حينها، وكانوا من جربة ونفوسة وميزاب، ولا زال الدّيوان حتّى الآن قيد التّحقيق، والكتاب شامل للعبادات والمعاملات وما له علاقة بالشّأن الإباضيّ في تلك المرحلة، وأمّا مدّة الكتابة فلا يوجد في المصادر ما يدلّ عليها، ولكن أتصوّر مكثوا لفترة طويلة؛ لأنّ الدّيوان متعدّد الأجزاء، ويحتاج إلى فترة لإنجازه، ويوجد بعض المؤلفات الأخرى في فترة الغار، ولكنّها ليست بحجم الدّيوان في ضخامته ومكانته.
وأضاف زهير تغلات: أنّ الغار تأسّس في نهاية القرن الرّابع وبداية القرن الخامس الهجريّ، والغار حفر في خمسة أمتار تحت الأرض، ومدونة الأشياخ فيها حوالي ألف صفحة، ويوجد منه مخطوط خطّ بالمكتبة البارونيّة في جربة، وتوجد نسخ أخرى في ميزاب وعُمان، ويشتغل على تحقيقه الآن مجموعة من الباحثين، وتوافق بناء الغار مع الفترة الّتي تأسّس فيها نظام العزّابة، والغار أصبح معلما مرتبطا بهذا الدّيوان، ولا يزار لأجل التّقديس أو التّبرك أو التّوسل؛ لأنّ هذه المفاهيم بعيدة عن الفكر الإباضيّ بشكل عام.

ثمّ ذهبنا إلى المسجد الّذي بني في مكان الغار، وهنا يقول زهير تغلات: إنّ مسجد بن بيان نسبة إلى عائلة بن بيان، أسّسه الشّيخ عليّ بن سالم بن بيان، وهو من علماء الإباضيّة الّذين درسوا في مصر في وكالة الجاموس، وقد بني في نفس موقع الغار في القرن الحادي عشر الهجريّ، السّابع عشر الميلاديّ، وبني بنفس أدوات المنطقة، وبشكل بسيط، ويحفظ البرودة مقارنة بالخارج في الصّيف، ويكون دافئا في الشّتاء، وهو مبنيّ بالحجارة، عريض الجدران، ويوجد فيه في الخارج مصلّى صيفي، ومنزل العائلة قريب من المسجد، وكذا مكان زروعهم.
مسجد لوطى: المسجد الّذي بني تحت الأرض
بعد زيارة غار مجماج توجهت في الحادية عشرة صباحا لزيارة مسجد لوطى بجربة، ويقع في مكان منعزل أشبه بدير الرّهبان، يقول زهير تغلات: جامع لوطى أو جامع البرداوي، ومعنى لوطى أي الأسفل، ويعود المسجد على الأغلب إلى ثقافة الكتمان عند الإباضيّة، والمسجد أعدّ للعبادة والتّدّريس، كذلك لكون البيئة في جربة طقسها حار؛ لهذا البناء تحت الأرض لكي يحافظوا على البناء المعتدل، وأصل المسجد هو البناء المحفور، ثمّ أضيفت حوله إضافات أضيفت متأخرة في القرن السّابع عشر والثّامن عشر، وما يميز المسجد أنّه محفور في الصّخر، وفيه أماكن مخصّصة لجلوس الإمام وقت التّدريس.

ومع مرور الوقت ألحق بالمسجد ملحق بالأعلى، فيه مكان مرتفع للأذان، وفي مصلّى صيفيّ، ثمّ مررنا سريعا لزيارة ضريح أبي زكريا فصيل بن أبي مسور (ت: قبل 440هـ/ 1048م)، والّذي ارتبط اسمه بحلقة العزّابة لألف عام حتّى الآن.
جامع أبي مسور
وبعد زيارة مسجد لوطى صباح الأحد ذهبت في حوالي الثّانية عشرة والنّصف صباحا إلى زيارة جامع أبي مسور، برفقة الدّكتور زهير تغلات، والشّيخ محفوظ دحمان، والجامع بني في القرن الثّالث الهجريّ، وتحوّل مبكرا إلى مدرسة كبيرة، وخارجه المقبرة البارونيّة وفيها قبر الإمام إسماعيل بن موسى الجيطاليّ (ت: 750هـ/ 1349م)، والمشهور في الأدبيّات الإباضيّة مشرقا ومغربا بكتابيه قناطر الخيرات وقواعد الإسلام، والأول أقرب إلى إحياء علوم الدّين للإمام أبي حامد الغزاليّ (ت: 505هـ/ 1111م)، والثّاني أقرب إلى بداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد (ت: 595هـ/ 1126م)، بيد أنّ الجيطاليّ لم يتمّه، وانتهى بباب النّذر والأيْمان، وقبر الشّيخ سعيد البارونيّ (ت 1281هـ/ 1865م) صاحب المكتبة البارونيّة بجربة، ولا زالوا يدفنون فيها حتّى الآن.

والمسجد لا زال محافظا على عمارته القديمة، وفي البداية أخبرني زهير تغلات أنّ المسجد كان مرتكز الإباضيّة الوهبيّة بجزيرة جربة، وتحوّل إلى مدرسة كبيرة يدرّسون فيها الفقه، وعلم الكلام، والسّير وغيرها، وفيه مرفقات لسكن المعلمين والطّلبة، وقد تخرّج كبار علماء الإباضيّة في جربة من هذا المسجد، واستمر التّدريس فيه إلى أواخر القرن التّاسع عشر الميلاديّ 1898م.
عند مدخل الدّخول من بوابة سرح أو فضاء المسجد توجد قاعة للجلوس، يجتمع فيها النّاس لتداول الحديث فيها، ويوجد في داخله مصلّيات صيفيّة، ومحاريب عديدة بالخارج، وهي إشارة إلى الحلقات الّتي يجتمع فيها الطّلاب حول المعلّم، إذ لكلّ حلقة لها محرابها، يجلس المعلّم داخل المحراب، ويتحلّق حوله الطّلاب حسب نوعيّة درس الحلقة، كما توجد آبار لتجميع مياه الأمطار، واستغلالها، وهي عادة منتشرة لديهم؛ لأنّ جربة جزيرة جافّة، ويحتاجون فيها إلى المياه العذبة.
وعند مدخل بوابة قاعة المسجد توجد لوحة كتب فيها: “بسم الله الرّحمن الرّحيم، جامع أبي مسور، شرع في بنائه أبو مسور اليهراسنيّ أواخر القرن الثّالث الهجريّ، ثمّ أكمله ابنه فصيل زكرياء خلال منتصف القرن الرّابع الهجريّ، وجعله مدرسة علميّة”، فالّذي أمر ببنائه أبو مسور اليهراسنيّ (ت: 358هـ/ 969م)، واسمه يسجا بن يوجين اليراسنيّ، ويسجا اسم أمازيغيّ معناه استقام، ولا زال المسجد يصلّى فيه، وأقيمت الجمعة فيه مؤخرا، وتكثر فيه السّواري، ولا زال قائما على بنائه الطّينيّ، والمحراب والنّقوش في المسجد لا زالت قديمة، كما حافظوا على الميضأة والبئر المرتبطة بها منذ القدم.
وفي داخل المسجد التقيتُ بمؤذن وحفيظ الجامع: محمّد الحبيب البارونيّ، وأخبرني أنّ آخر مؤذن زياد أبو مسور، وإمام الجمعة: سهيل بن شامان، وإمام الخمس – أي الصّلوات الخمس -: محسن أبو مسور، وفي هذا المسجد تقام الجمعة الثّانية، حيث من سنّتهم يقيمونها في وقتين: في أول وقتها بعد الزّوال، وفي آخر وقتها عند العصر؛ لأنّ النّاس هنا يرتبطون بالعمل، وليس الجمعة وقت إجازة، فلهم سعة في تأديتها حسب ظروفهم العمليّة، ولا يرون صلاة الجمعة واجب لعدم توفر شروطها، ومنهم لا يؤدّيها، وذكروا لي أنّ الشّيخ المؤرخ سالم بن يعقوب (ت: 1411هـ/ 1991م) من كبار علماء جربة المتأخرين لم يكن يؤدّي صلاة الجمعة، أو لا يرى وجوبها وعدم توفر شروطها.
وأخبرني المؤذّن أنّهم قديما يدرّسون في الجامع أو المسجد الفلك والحساب والتّطبيب وبعض العلوم الأخرى، والطّلاب يتجاوزون الخمسين، وبعضهم من نفوسة والجبل وميزاب.
مغادرة جربة
مكثت في جربة ثلاث ليالي، ومع قصرها بيد أني استفدت الكثير، وكنت أطمع في المزيد، والالتقاء باليهود وزيارة الكنس، وبالمالكيّة، ومع هذا، ذهبت فجرا للصّلاة في أحد مساجدهم في جربة، وقد أذّن رجل كبير في السّنّ، حيث وصلت قبل الأذان، فانتظرت إلى الإقامة، ولم يأتِ أحدٌ غيري، فطلب منّي أن أصلي به، فاعتذرت منه لاختلاف بعض تقاليد الصّلاة، فصلّى بنا، ومع هذا تداخلت مع المالكيّة في عموم تونس، وفقههم هناك يتقارب مع إباضيّة المغرب، والمذهب المالكيّ مذهب فقهي متقدّم كالإباضيّة.

كما زرت مجلس اجتماع الشّباب مع الشّيخ ساسي بن يحياتن، يسألونه في الدّين، ويناقشونه حول بعض القضايا الاجتماعيّة والدّينيّة، كقضيّة تبرج المرأة في الأعراس، وظهورها متبرجة أمام الرّجال، وهم لمّا يتحدّثون ويناقشون يرفعون أصواتهم بشدّة، كحالة الغاضب عندنا، وهذا طبيعيّ لديهم، ثمّ ذهبنا لصلاة المغرب، ووجدت فقههم في جربه عموما أكثر تيسيرا كسعة وجوب صلاة الجماعة، وسعة جمع الصّلاتين للحاجة، ولا يكرّرون صلاة الجماعة، ويكتفون بالجماعة الأولى، ويبدو أنّ لهم في الظّهر جماعتان، في أول الوقت وآخره، تيسيرا للتّجار، ولأصحاب الأعمال، وهذا وجدته في العاصمة تونس أيضا، وفي جامع الزّيتونة، وقد صلّيت فيه الظّهر في الوقت المتأخر، ثمّ يؤذن للعصر، وهو أقرب إلى ما يسمّى قديما بالجمع الصّوريّ.
وفي أول صباح الاثنين 8 ربيع الثّاني 1445هـ/ 23 أكتوبر 2023م، وبعد الفجر بفترة بسيطة، أتى الشّيخ محفوظ دحمان ليحملني إلى المطار، حيث أصرّ على فعل ذلك محاولا تثنيته لكبر سنه، وحالته المرضيّة، ولوجود سيارات الأجرة، ومع هذا رفض ذلك، فذهبنا معا إلى المطار، وهو معروف لديهم، يسلّمون عليه ويوقرونه، فلما أنّهينا إجراءات السّفر وأخذ الحقائب، رفض الذّهاب حتّى الصّعود إلى الطّائرة، فأخذنا حديث طويل عن ذكرياته خصوصا مع الشّيخ بيّوض رحمه الله، وبدايات حركة الإصلاح، وما يتذكّره عنها، ولمّا حان وقت الصّعود ودّعته وشكرته، راجيا زيارته لنا في عُمان، ومن جربة إلى تونس العاصمة عن طريق الطّيران الدّاخليّ ساعة، فمكثت في العاصمة ليلة، وفي مساء الثّلاثاء 9 ربيع الثّاني 1445هـ/ 24 أكتوبر 2023م غادرت تونس راجعا إلى الوطن عن طريق الطّيران التّركيّ، والحمد لله تعالى.