إنّ جدليّة التّطبيع مع الكيان الصّهيونيّ المغتصب [إسرائيل] والتّطبيع معه كان شبه متفق على حرمته، وهنا أتحدث عن الوطن العربيّ، وإن خالف ذلك حكم الشّاه في إيران، أو العلمانيون في تركيا مثلا، إلا أنّ الوطن العربيّ كان مجمعا في الجانبين اليمينيّ واليساريّ حتى جاء أنور السّادات [ت 1981م] فوقع معاهدة السّلام أو ديفيد [1978م] والّتي عرضته للموت عام 1981م.
عموما من قضيّة التّطبيع انبثق قضية زيارة المسجد الأقصى، والّتي تبنى الإسلام السّياسيّ – إن صح التّعبير – حرمة الزّيارة، والعديد من العلماء الكبار، وذلك لأنّ علماء فلسطين الكبار حرّموا ذلك، وعلى رأس هؤلاء عكرمة صبري [معاصر] مفتي فلسطين، ورابطة علماء فلسطين، ولجنة الافتاء بالجامعة الإسلاميّة بغزة، ومن خارج فلسطين شيخي الأزهر عبد الحليم محمود [ت 1978م] وجاد الحق علي جاد الحق [ت 1996م]، ونصر فريد واصل [معاصر]، والشيّخ يوسف القرضاويّ، وهو رأي الإخوان المسلمون قاطبة، والّذي لهم الثّقل العلميّ في الجانب السّياسيّ حينها، والإمام الخمينيّ [ت 1979م]، وهو رأي الثّورة في إيران، وحزب الدّعوة الشّيعيّ، وفي بداية التّسعينات وقعت عريضة تحرّم زيارة المسجد الأقصى، ومن ضمن الموقعين الشّيخ أحمد الخليليّ [معاصر] عندنا.
وهذا الرّأي أصبح الرّأي المشهور، بل ذكر الرّأي الآخر يعرّض صاحبه للسّخط ودعوى العمالة والصّهيونيّة، كما حدث للشّيخ الألباني [ت 1999م] فيما أحسب، واستند هذا الفريق إلى عدة أدلّة أهمها أنّ السّفر فيه إقرار بالكيان المغتصب واعتراف به؛ لأنّ المسجد الأقصى لا يمكن الدّخول إليه بدون تأشيرة وموافقة من إسرائيل، وفيه تقوية للكيان الصّهيونيّ لأنّ الحوالات والبنوك بأيديهم، وفيه تحسين للكيان الصّهيونيّ بحسن المعاملة والإدارة والأمن والنّظام، حيث بعد فترة تقل الفجوة بحكم كثرة الخلطة.
بيد أنّ بعض رموز التّيار السلفيّ حينها خالف هذا الرّأي، وعلى رأس هؤلاء الشّيخ عبد العزيز بن باز [1999م]، وهؤلاء استندوا إلى السّيرة النّبويّة عندما زار النّبيّ – صلّى الله عليه وسلّم – المسجد الحرام في عمرة القضاء لسنة سبع من الهجرة، وكانت مكة في قبضة المشركين.
إلا أنّ هذا الرّأي قيد بمقدار الضّرورة من الزّيارة والصّلاة في المسجد الأقصى لا بقصد الإقامة، وأن يكون التّعامل مع الفلسطينيين سكنا وأكلا، ومع هذا الرّأي لم يعجب السّلفيّة الصّحويين الأقرب إلى الإسلام السّياسيّ عموما والإخوان المسلمون خصوصا.
والاستدلال بالسّيرة ذاته يتكرر مرة ثانية بعد الغزو العراقيّ للكويت عام 1991م، والاستعانة بالقوات الأمريكيّة في تحرير الكويت، فأفتى ابن باز حينها بجواز الاستعانة بالمشركين حين الحاجة والضّرورة وحين القلّة والضّعف، واستند إلى رواية ذي مخمر [ت؟] قال: سمعت رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – يقول: ستصالحون الرّوم صلحا آمنا، وتغزون أنتم وهم عدوا من ورائكم، فتنصرون وتغنمون.
إلا أنّ هذا الرّأي عمل ضجة حينها، وكتبت حوله المقالات والبحوث، حتى في داخل المملكة، وترتب عليه لاحقا أحداثا فكريّة معارضة داخل التّيار السّلفيّ تطورت خصوصا بعد وثيقة الصّلح 1994م تقريبا.
عموما في نظري قوّة الرّأي الأول يعود إلى الإجماع الدّينيّ في فلسطين بشكل كبير أعطى قوة لغيرهم، وثانيا تأثير الإخوان المسلمون على تيار الصّحوة، وعلى القرارات السّياسيّة في الجملة.
إلا أننا بعد عقود من الزّمن، هل أصبح هذا الرّأي ذا جدوى الآن، خاصة مع الضّعف السّياسيّ الإسلاميّ والعربيّ، فهذه جدليّة أخرى أصبحت تطرح حاليا، وبدأت أقوال أخرى ترى نقيض الرّأي السّابق، وهذا مثلا ما حدث في مؤتمر الطّريق إلى القدس، والّذي كان في عمّان عاصمة المملكة الأردنيّة الهاشميّة عام 2014م، والّذي أوصى بالزّيارة شريطة أن تكون المنفعة هي الغالبة لا ذات التّطبيع.
وفي مسجد الجلندى بن مسعود في سمائل عام 2017م أشار سعادة الشّيخ أحمد بن سعود السّيابي [معاصر] في حوار معه أجراه الأستاذ مروان الذّهليّ، إلى هذه القضيّة، حيث أشار إلى أنّه دار خلاف في إحدى المؤتمرات قبل سنتين حول زيارة القدس، فأغلب الفلسطينيين والأردنيين شجعوا على زيارة القدس والأقصى لتقوية الفلسطينيين في هذا المكان، وآخرون رفضوا ذلك بدعوى أنّ هذا اعتراف بالكيان الصّهيونيّ في دولتهم (إسرائيل) ومشاركة في التّطبيع معها، وقال سعادته: إنّ سماحة الشيخ المفتي أحمد الخليليّ مال إلى الرّأي الثانيّ وهو المنع، بينما هو مال إلى الرّأي الأول.
وقبل سنتين ألتقيت شخصيّا بإخوة من فلسطين في تونس العاصمة، وقالوا لي إنّ الفتوى بالمنع أضرت الفلسطينيين في القدس، فهم بحاجة إلى من يتقوون بإخوانهم من السّياح والتجار العرب والمسلمين.
وعموما في نظري أنّ قضية فلسطين والقدس قضية فلسطينيّة بحتة، فالّذي عاش تحت ظلّ الاحتلال غير من الّذي عاش آمنا في سربه، مطمئنا في نفسه ومجتمعه، لهذا أرى أنّ الرّأي ما يراه الفلسطينيون ومن هو قريب منهم كالأردنيين، ولو على مستوى النّخبة، فهم أعلم ببلادهم وحالهم، والباقي في هذا عالة عليهم، أخذوا بالرّأي الأول أم الثّاني، وهذا أمل بعيد لتشقق البيت الفلسطينيّ ذاته، فضلا عن البيت العربيّ والإسلاميّ، ولله الأمر من قبل ومن بعد!!
فيسبوك 1439هـ/ 2018م