في عام 1926م كتب العالم الفيزيائيّ الشّهير ألْبِرْت أينْشتاين ت 1955م مقالة: معهد التّعاون الفكريّ، في وقت كانت تعاني القارة الأوربيّة من التّطاحن السّياسيّ والحروب المدمرة، والّتي ما بدأت تهدأ من الحرب العالميّة الأولى 1914م إلا وأعقبتها الحرب العالميّة الثّانيّة 1939م، والّتي أثرت على العالم أجمع!!
أينْشتاين كان يرأس لجنة التّعاون الفكريّ بعصبة الأمم، إذ كان يرى هي الأمل في خروج المجتمع الأوروبيّ من الصّراع السّياسيّ إلى عالم بناء الإنسان والمجتمع، وهذا لا يتم إلا برجال الفنّ والفكر والمعرفة عندما تتكون لديهم إرادة حقيقيّة تنطلق من المبدأ لا من الذّات والمصالح الفئويّة.
إلا أنّ أينْشتاين في مقاله اصطدم بقوله: [إنّ الفنانين ورجال الفكر يسلسون قيادهم للوطنيّة المتعصبة الضّيقة الأفق إلى درجة أبعد ممّا يفعل رجال الأعمال] أي يتبعون المصالح الشّخصيّة والفئويّة، ويشترون بثمن بخس من قبل السّاسة والفئويين.
وقد كان يطمح أينْشتاين أن [تزدهر القارة الأوربيّة إذا توقف التّطاحن الدّفين بين وحداتها السّياسيّة التّقليديّة، وأنّه ينبغي أن ندعم التّنظيم السّياسيّ لأروبا، وأن نزيل الحواجز الجمركيّ].
ومراده التّنظيم السّياسيّ أي التّنظيم الموحد الّذي يكون هدفه بناء الإنسان وصناعته المتجاوزة للحدود الجغرافيّة الضّيقة، ولهذا يرى من صوره إزالة الحواجز الجمركيّة، وهي فكرة طموحة لما سمي لاحقا بالاتحاد الأوربيّ، وإن كان الاسم كما يقول المؤرخون ظهر منذ خمسينات القرن العشرين، ونجح فعلا عام 1992م، بناء على اتفاقية معروفة باسم معاهدة ماسترخت أو ما اشتهرت بمعاهدة الاتحاد الأوربيّ، إلا أنّ الفكرة كانت حاضرة عند المفكرين الغربيين قبل ذلك بكثير كما يظهر في مقالة أينْشتاين.
ويرى هذا العالم أنّه لا يمكن تحقيق هذه الفكرة عن طريق المعاهدات السّياسيّة بل لابدّ من [إعداد الشّعوب فكريّا لهذا الاتجاه، لذلك ينبغي أن نغرس فيها تدريجيّا معنى التّضامن الّذي لن يقف كما حدث فيما مضى عند أيّ حدود].
كان أينْشتاين يستشرف المستقبل، وإن مات قبل أن يرى الحلم، إلا أنّ الأجيال الحاليّة في أوربا تثمن دوره العلميّ والإصلاحيّ معا، فهو يرى لابدّ أن يتحرر العقل الفكريّ الأوربيّ من مصالحه وتبعياته السّياسيّة، وأن يكون الفنان والمثقف والمفكر والعالم موجها ومنطلقا للمبدأ، لا أن يكون ضحية السّياسة ورغباتها المصالحيّة.
وما حدث في أوربا هو ذاته يتكرر في عالمنا العربيّ، فتجد المثقف والعالم ناطقا باسم سياسات ومصالح ذاتيّة، حيث نرى من المثقفين والمفكرين من انخرط للأسف في العمق السّياسّيّ لأهداف مصلحيّة، أو منصبيّة، فيبرر فعل السّلطة ولو كانت على خطأ، ويحسّن صورة الخطأ في الخطاب.
والأصل في المثقف أنّ بعده تنويريّ، والتّنوير قائم على تفعيل الوعي العام من خلال شرائح المجتمع، والّذي فيه تتشكل السّلطة ومؤسسات العمل المدنيّ، لذلك هو ينطلق من القيم والأخلاق المنبثقة منها، وليس ينطلق من الذّات والمصالح القاصرة الدّنيويّة.
وهذا لا يعني أنه يكون ثائرا ضدّ المجتمع أو السّلطة، وإنّما يثور ضدّ التّخلف في المجتمع، وضدّ الجهل والفقر والاستعباد والقمع، فهو لا ينظر إلى السّلطة والمجتمع نظرة شيطانيّة، وفي الوقت نفسه لا ينظر إليهم نظرة ملائكيّة لا تخطئ، فهو مع المبدأ والقيم والكبرى، من أخذ بها كان داعما له وناصرا، ومن كان دون ذلك فلا ينزل معهم لمصالح ذاتيّة أو آنيّة!!!
فالاتحاد الخليجيّ ليس أملنا فحسب؛ بل الأمل في اتحاد عربيّ ينقذ هذا العالم العربيّ من حالة التّشرذم والتّفرق والصّراع بسبب الطّائفيّة والاستبداد السّياسيّ والمجتمعيّ، وهذا لن يحدث إلا إذا تحرر المفكر والمثقف والعالم من المصالح الذاتيّة، لينطلق الجميع في وحدة واحدة، وحدة المبادئ والإرادة والدّراسات الجادة، فهي أفكار تطرح اليوم، وبلا شك ستثمر غدا، وستأكل الأجيال القادمة هذه الثّمرة، كما تأكل أجيال أوربا ثمرة مثقفيهم ومفكريهم اليوم!!!
مصدر نصوص أينْشتاين منقولة من كتاب: ألْبِرْت أينْشتاين أفكار وآراء، ط فاروس للنّشر والتّوزيع، القاهرة/ مصر، ط 2015م، ص 261.
وللمزيد راجع بحثنا: الثّقافة العربيّة والحراك الاجتماعيّ، باب: الثّقافة والمشهد السّياسيّ والتّفرق القوميّ.
فيسبوك 1438هـ/ 2017م