بداية أشكر المؤلف على قراءته لهذه الرؤية التي أراها شخصيا تجاوزها الزمن، وهناك ما هو أولى للحديث عنه، وأهما الجوانب المقاصدية والإنسانية والحضارية من الصلاة ذاتها.
عموما الكاتب حاول – حسب فهمي – أن يجعل منطلقا أفقيا للصلاة، وفي المقابل البعد عن القراءة الروائية حسب منهج المحدثين، ولكنه وقع في القراءة الروائية التأريخية ذاتها من خلال قصة أبي حمزة الشاري، وجعلها منطلقا لدراسته، بجانب السنة العملية التي لم يحدد ماهيتها، لأن مفهومها سوف يختلف من مذهب لآخر، وإن كنا نشترك معه في أصل المنهج، وهو تقديم العمل على الرواية، ولكن لكون الخطاب شاملا فيحتاج إلى تحديد المفهوم، فعمل المالكية غير عن مفهوم العمل عند الإباضية، فالأول لصيق لعمل أهل المدينة، ولكن المالكية يختلفون من يقصد مالك بعمل أهل المدينة فعند بعضهم العمل السائد، وقيل هو كناية عن عمل الفقهاء السبعة الكبار وهم عروة بن الزبير بن العوام الأسدي القرشي المتوفى سنة 80هـ، والشهيد سعيد بن المسيب المخزومي القرشي المتوفى سنة 94هـ، والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق المتوفى سنة 102هـ، وخارجة بن زيد بن ثابت المتوفى سنة 99هـ، وأبو عبد الله عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي مفتي المدينة المتوفى سنة 93هـ، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث المخزومي القرشي المتوفى سنة 94، وأبو أيوب سليمان بن يسار، مولى أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث المتوفى سنة 104هـ.
وأضاف البعض إليهم سالم بن عبد الله بن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب المتوفى سنة 106هـ، وأبا سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف القرشي الزهري المتوفى سنة 104هـ، وأبان بن عثمان بن عفان الأموي القرشي المتوفى سنة 105هـ.
وكذلك يظهر عند الإباضية كما في المدونة عمل أهل المدينة هم الفقهاء.
وأيضا كذلك الزيدية عندهم العمل إجماع العترة مع خلاف بين المتقدمين في تحديد ماهية العترة وإجماعهم.
والإمامية عندهم عمل أهل البيت ومروياتهم.
والترمذي في الغريب يرى مخالفة الآحاد للعمل كما فسر ذلك أحمد شاكر عن أحد شيوخه.
وعليه تحديد العمل هنا إما بالجانب المذهبي أو باعتبار المنطقة.
والكاتب استخدم المدينة منطلقا لاعتبارات منها سليمة على اعتبار مكوث النبي صلى الله عليه وسلم، واستخدم منطلقين:
الأول: روائي تأريخي متمثلا في رواية صلاة الإمام مالك خلف أبي حمزة.
الثاني: وجود مالك بالمدينة.
الإشكالية الأولى: صلاة الإمام مالك خلف أبي حمزة الشاري
هذه جعلها الكتاب منطلقا له للقراءة الأفقية، وذكر لازمين لها:
الأول: إجماع حدوث الحادثة، والثاني عدم الإشارة إلى قضية الصلاة دلالة أنّه لا خلاف بينهم آنذاك في الصلاة.
أما الأول فجاء ذكرها في كتب التأريخ، واتفق على ذكر الحادثة، وذكرهم لها تركيزا على الخطبة وما حدث من أحداث حولها، إلا أنّ هناك حلقات فارغة لأنّها في الحقيقة لا تهم المؤرخ، فكيفية الصلاة لا تهمه كثيرا بقدر ما تهمه الخطبة لغرضها السياسي.
ثم الحوادث التأريخية مهما كانت تبقى في دائرة الظن من حيث جزئياتها وإن اتفق في أصل حدوثها، ولا أقول أجمع لأنها تبقى حادثة نقلها أفراد ثم تناقلت بعد ذلك، إلا أن الجزئيات والتفاسير تبقى يكتب حولها عين السخط ليكثر السوءات، وعين الرضا ليكثر الحسنات.
وأما الثاني كونهم لم يذكروا الصلاة ليس حجة ولا دليلا، لأن الغاية من الشاهد هو ما يتعلق بالحادثة التأريخية، وهناك متلازمات لم تذكر في وجوده هناك أهم من هذا، فأين عاش، وبمن التقى، وكيف عاش…. الخ.
الخلاصة: في نظري الانطلاق من حادثة أبي حمزة ليس موفقا، لأنه شاهد تأريخي، والشواهد التأريخية غالبا لا تهتم بمثل هذه الجزئيات.
الإشكالية الثانية: وجود مالك بالمدينة.
وهذه النقطة أقوى من سابقتها، وذلك لأن إرسال أهل المدينة شبه متفق عليه لما روي عن أبي زرعة المتوفي سنة 281هـ في تاريخه عن بكر بن عمرو: أنه لم يرَ إمامة يعني ابن سهل واضعا إحدى يديه على الأخرى قط ولا أحدا من أهل المدينة، حتى قدم الشام فرأى الأوزاعي وناسا يضعونه.
ومن ذلك رواية عمرو بن دينار قال: كان ابن الزبير إذا صلى يرسل يديه. وابن الزبير هو عبد الله ابن الزبير أول مولود للمهاجرين بالمدينة المنورة، وعاش في المدينة، مع أنه روي عنه أيضا القبض لكن هذه أشهر.
عموما هذه درجة متفق عليها، ولكن يبقى تساؤلان:
الأول: قضية الرفع وقول آمين، معروف عند المالكية وكذلك الرفع لاحقا أصبح عند الزيدية، والرفع مع أنه ذكر الكاتب التطرق إليه ضمن الثلاثة إلا أنه لم يلتفت إليه قليلا خلاف القبض أو الإرسال، فهل الرفع ينطبق عليه هنا السنة العملية وموقع المدينة، وما الضابط في خروجه، وكذلك آمين!!!
الثاني: وجود روايات على أن هناك من علماء المدينة كانوا يضمون كما روي عن الزبير في رواية وغيرها، هل هذه الروايات نحكم بوضعها لاحقا؟
وقفة: لابد من فصل الروايات عن العمل، لأن الروايات مذهبية في غالبها، كما أن العمل مذهبي أيضا كمدرسة، إلا أنه متى ما اشترك العمل في نظري كان مقدما خاصة عند المدارس الأولى!!!
بعد هذه المقدمة ندخل في أبعاد قراءة الكتاب!!!
أولا: البعد التأريخي
الكاتب جعل كما رأينا قراءته الأفقية تبدأ من رواية تأريخية ومن المدينة، وأهمل ما قبل ذلك:
وعليه السؤال التالي المهم في نظري: هل كان الرسول صلى الله عليه وسلم يصلي قبل البعثة، وكيف كانت صلاته؟!!!
من المعلوم السائد في الجزيرة العربية:
الطائفة الأولى: الحنفاء وأتباع إبراهيم وهؤلاء كانوا يصلون ويحجون ويصومون، والقرآن حفظ لنا حجهم، وخاطبهم في أولى سورة وهي أقرأ على المشهور بالصلاة: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى، عَبْدًا إِذَا صَلَّى، والعرب لم يكونوا وثنيين بالمعنى الحرفي للوثنية، ولكن اختلطت في شعائرهم لوثات الجاهلية، وليسوا جميعهم!!
الطائفة الثانية: وهي كثيرة وهم اليهود، وهؤلاء يضمون أيديهم في الصلاة.
الطائفة الثالثة: الصابئة وهؤلاء يضمون أيديهم في الصلاة أيضا إلى اليوم، ولهم ثلاث صلوات.
أما النصارى فقد اطلعت على مخطوطة قديمة تعود إلى القرن الأول أو الثاني الهجري، ليست بحوزتي الآن، وفيها يثبتون الضم، وإن كانت النصرانية لم تنتشر كاليهودية في الجزيرة العربية!!!
وعليه هل كان الناس آنذاك يضمون في صلاتهم أم لا وهم الأحناف، وهل يعقل الرسول يعيش 40 سنة ولا يصلي، وعلى أي صلاة كان؟
ذكر بعض السابقين كعكرمة وأبي العالية أن النبي لما هاجر إلى المدينة استقبل بيت المقدس عن اجتهاد، وفسر ذلك بعض العلماء لأن النبي يميل إلى فعل اليهود لأنهم أقرب إلى الكتاب ما لم يوح إليه خلافه، فهل يكون هذا القياس منضبطا مع الصلاة لنرى التشابه في ذلك.
عموما يرى ابن قرناس أن النبي علم الصلاة عندما نزل الملاك إليه كما في سورة النجم، فهل هنا إرجع إلى عهد إبراهيم، وكان من ذلك عدم القبض!!!
المشكلة أن الحوادث التأريخية مفقودة الحلقات، والروايات متضاربة، وعليه من البعد التأريخي يمكن استناج أحد التالي بلا جزم لفقدان الأدلة الواضحة!!
– أن الأحناف وغالبية أتباع إبراهيم لا يقبضون في صلاتهم، والنبي صلى كصلاتهم حتى بعد التوجيه والبيان!!
– أن النبي كان يضم في صلاته ثم تركه لاحقا ولم ينكر على من فعله، ولذا لم تشتهر رواية الإنكار، فتصور الناس أنه واسع!!!
– أن النبي كان لا يضم ثم دخل الضم متأخرا نتيجة التأثر بالملل الأخرى كما في بلاد الشام!!!
– أن أتباع إبراهيم كانوا يضمون والنبي تركه، فأرجعه الأمويون لعهدهم القديم، وللتميز السياسي لاحقا.
عموما هذه الإشكالات التأريخية واردة قبل المدينة، وهي بحاجة إلى تتبع مع حلقاتها الفارغة!!
ثانيا: البعد المنهجي
كما أن هناك بعد تأريخي هناك بعد منهجي تتشكل حوله المدارس الإسلامية.
البعد المنهجي عند الإباضية في الصلاة مثلا:
أولا: القرآن الكريم، وأن تكون منطلقا منه، لذا حاول بعض المتقدمين ربط الصلاة بالقرآن حتى في جزئياتها، ومن ذلك تركوا الصلاة الإبراهيمية مع روايتهم لها، واكتفوا بصلى الله عليه وسلم، وتركوا الدعاء بالمعوذات الأربع واكتفوا بآيات من القرآن.
ثانيا العمل، وهذا عمل أشياخهم، وهذا مقدم على الروايات الآحاد ولو كانت الرواية من قبلهم، ومثال هذا في أقدم مصدر إباضي وهو المدونة:
المثال الأول: تعاملهم مع رواية: إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات أولاهن بالتراب، وما يماثلها من ألفاظ مع بعض الاختلاف، فسئل أبو عبيدة: أتوقت في غسله ثلاثا أو سبعا كما قال هؤلاء؟ قال: لا أوقت في ذلك وقتا دون حسن التنقية والغسل، فإن أنقاه في مرة واحدة فليتوضأ به .
المثال الثاني: التوقيت في غسل الوضوء ثلاثا ثلاثا، قال أبو عبيدة: لا أوقت في ذلك وقتا لأنه لم يأتنا أمر يُنتهى إليه دون حسن الغسل والتنقية، إن كان ثلاثا فثلاثا سابغات، وإن كان اثنتين فاثنتين إذا كانتا سابغتين، أو واحدة فواحدة إذا كانت سابغة، كل ذلك يجزيه، ولا يجزيه ثلاثا أو أكثر من ذلك إذا لم يسبغ الوضوء وينقي، وليس في الإقلال والإكثار في ذلك عندنا وقت .
ثالثا: تقديم المتفق على الروايات الاحاد المختلف حولها، لإدراكهم الصلاة أعظم ركن في الإسلام، فتركوا روايات الضم والرفع ووضع السبابة وآمين وصلاة الجمعة بخطبتين وقدموا التوجيه، وشددوا في الدعاء في السجود والقنوت وغيرها.
ويقترب من منهج الإباضية منهج الزيدية، ولذا نجد تشابها كبيرا مع اختلاف لطيف، ليس لعامل الزمن والنشوء المبكر فقط، وإنما للمنهج المشترك بينهما، مع روايات للزيدية في الضم والقبض كما في المجموع.
بينما نجد المدرسة الإمامية على نقيض تماما في التوسع في الآحاد والأخبار في الصلاة، إذا جاءت من طريق أئمتهم، فكان الإكثار من الدعاء والقنوت ونحوها.
أما المدارس السنية مع تقديم الإمام مالك لعمل أهل المدينة إلا أن هذا الشرط أصبح لاحقا شبه منسي، والمدرسة الحنفية مع تقدمها، إلا أنها قبلت الآحاد والمرويات، وتوسع الحنابلة في ذلك، وعليه حدث الاضطراب بين هذه المدارس.
عموما وجود القول بالرفع والضم أو آمين قديم، تثبته جميع المصادر، ولكن المنهج في قبولها جعل الاختلاف شديدا.
ثالثا البعد الروائي: وهذا تركه الكاتب، ولكن للأسف الروايات أصبحت مشكلة للدين، مع أن الروايات في أغلبها متأخرة زمنا، وكانت أقرب إلى التدوين المذهبي، وأنا مع الكاتب هنا في البعد عنها، لأنه لن نجني فائدة كبيرة، فنحن بعد ألف سنة لم نستطع بهذه الروايات أن نجد صورة واحدة للصلاة، وذكر المؤلف الخلاف بين العالمين الجليلن ابن باز والألباني وهما من مدرسة واحدة ومتعاصرين، وإن كان الكاتب يذكر لا أدلة لابن باز، والصواب توجد أدلة رواية للقبض من الروايات من حيث المفهوم.
الخلاصة:
البعد الزمني أو المكاني في الحقيقة لا يشكل بعدا أفقيا، بقدر ما يجعل البعد الأفقي ذاته متضاربا، وغير متسق، لتداخل التأريخ والمنهج والرواية فيه بشكل كبير، منذ وقت مبكر جدا.
فيسبوك 1436هـ/ 2016م