المقالات النقدية

قامات ثقافيّة ومعرفيّة في جامعاتنا تفتقدها مراكزنا الثّقافيّة

جريدة عمان 1444هـ/ 2022م

عُمان من الدّول قليلة السّكان باعتبار المساحة، وطبيعيّ – لكون النّاس مختلفي التّوجهات والمشارب – أن تتوزع الميولات الثّقافيّة والإبداعيّة لأعداد قليلة، خصوصا في المجالات الفكريّة والفلسفيّة، وإذا انكمشت المراكز الثّقافيّة – مع قلّتها – على الجانب المحلّيّ لن نجد ذلك الحضور التّنافسيّ والإبداعيّ بالصّورة الكبيرة، كما سنجد تكرّر ذات الأسماء والعناوين بشكل لافت أقرب إلى الاستنساخ منه إلى الإبداع.

وهذا ما نجده في المراكز الثّقافيّة والّتي هي قليلة جدّا، ومتمركزة في الجملة في مسقط، مع وجود لجان لها، إلا أنّ هذه اللّجان منحصرة في زوايا معينة – لا أقلل منها – كالشّعر والاحتفاءات بالشّخوص، وبعض الجوانب التّأريخيّة، مع عدم وجود صوالين ثقافيّة متنوعة بشكل أعمق، عدا جهود فرديّة من هنا وهناك، ممّا يجعل المشهد الثّقافيّ عندنا يتطوّر بشكل بطئ جدّا، وفي مستوى أفقيّ كثيرا ما يميل إلى التّكرار والتّسطيح، منه العمق والإبداع.

كما أنّ بعض هذه المراكز عليها أن تتجاوز (الشّلليّة) كما يسميها البعض، أو الانكماش حول شخوص معينة، وعليها أن تنفتح على الجميع، وفق عمل مؤسّسي قائم على أمرين: الحريّة والتّدافع، وأمّا الحريّة لأنّ الثّقافة في مجملها فلسفة، والفلسفة فضاء مفتوح، إذا حدّ ضاق، وإذا فتح له باب أوسع من الحريّة أبدع، فمع وجود قوانين حافظة لهذه الحريّات إلا أنّ هناك من يعوق ذلك، لأسباب شخصيّة، أو لتخوّق مبالغ فيه.

وأمّا التّدافع فهو يتولّد من فتح مساحة كبيرة لحضور جميع التّوجهات، وخصوصا الجيل الجديد من الشّباب، والّذي هو شبه غائب عن هذه المراكز الثّقافيّة، وحضور الشّباب ليس حضورا شكليّا، وإنّما هو حضور فاعل في الإدارة والمشاركة والتّدافع والإبداع والطّرح، حتّى لا تصاب هذه المراكز بالشّيخوخة المبكرة، ممّا يتولّد عنها فجوة كبيرة بين أجيال، ترى البديل في الفضاء المفتوح كوسائل التّواصل الاجتماعيّ، فهي المنصّة الوحيدة الآمنة لطرح جدليّات الجيل الجديد وإبداعاتهم وتدافعهم ورؤاهم، بعيدا عن أيّ وصاية كانت.

وهذا لا يعني الغياب المطلق للشّباب عن هذه المراكز، أو هناك مانع من حضورهم، ولكن توجد فجوة واضحة ومشاهدة بحاجة أن نلتفت إليها، فهؤلاء أبناؤنا، والمستفيد منهم الوطن، ولديهم إبداعات وفق زمنهم، وتساؤلات طبيعيّة، فإن أخطأوا في تقديم رؤاهم وإبداعهم خير من أن تكبت، ولئن لم يستسغ البعض إبداعاتهم فخير من أن تهاجر إلى عالم آخر يقدّر لهم ذلك، ويفتح لهم مساحات لإبداعهم، وجميل أن نجد أيضا من يدير هذه المراكز من الجيل الجديد، مع توسيع الثّقة بهم ولإبداعهم بشكل أوسع.

وفي المقابل، ولطبيعة قلّة السّكان كما أسلفت، وفي عالم مفتوح اليوم، لا يمكن بحال أن يجعل بعضهم خطوطا مغلقة لثقاقة أو فلسفة أو هويّة تصنعها أنت من خلال سؤال الأنا فقط، فهناك الآخر الّذي يتدافع معك أيضا، وبشكل أقوى إعلاميّا وفنيّا، بل وتجاريّا استهلاكيّا، فهذا كأس العالم القريب منّا في قطر، قد ننطر إليه كلعبة كرويّة أقرب إلى اللّهو في بعض التّفكير الدّينيّ، ولكنّه يحمل في طيّاته أبعادا فلسفيّة وفكريّة وإعلاميّة عميقة، لها تأثير على الهويّة والخصوصيّات الثّقافيّة والمجتمعيّة، فالانغلاق لا قيمة له اليوم، ويجعلك تعيش في دائرة الوهم، فعلينا أن ننفتح على العوالم الأخرى؛ لأنّها أصبحت داخلة في عالمنا الضّيق، ومشكلة له أيضا.

إلا أنّ هذا الانفتاح يتحوّل إلى ذوبان في حالتين: في حالة التّخوّف والانكماش على الذّات، وفي حالة التّقليد المطلق للآخر، نتيجة الانبهار وضعف الذّات، فهنا نحن بحاجة إلى تدافع فلسفيّ وفكريّ مع الآخر، فلا ننكمش على الذّات فنعيش في الماضي، ولا ننبهر بالمطلق لنذوب في الآخر، فالتّدافع يولّد التّهذيب من جهة، والعيش في الحاضر كإبداع وحضور وتأثير من جهة ثانيّة، ومن هنا تكمن أهميّة المراكز الثّقافيّة، والصّوالين الفكريّة والفلسفيّة والمعرفيّة والفنيّة.

وبما أنّ المراكز والمؤسّسات الثّقافيّة معنيّة بهذا بشكل كبير جدّا، إلا أنّه ينقصها الشّخوص في العديد من الأحيان، لهذا هي بحاجة أن تنفتح على العالم العربيّ خصوصا للعديد من المشتركات كاللّغة والهويّة، بيد أنّه كثيرا ما تعاني هذه المراكز من التّرهل بسبب الوضع الماديّ من جهة، وبسبب تأخر الموافقات الخارجيّة عن المركز من جهة ثانيّة، فيجعل حركتها تتحرك بشكل بطيء جدّا.

وأنا أتأمل جامعاتنا ومعاهدنا المحليّة، رسميّة كانت أم أهليّة، وهنا أتحدّث خصوصا في الجانب الفلسفيّ والفكريّ والنّقديّ لاهتمامي به؛ أجد قامات فكريّة وفلسفيّة ومعرفيّة غائية بشكل واضح عن المشهد الثّقافيّ في المراكز الثّقافيّة، عدا حالات قليلة، وفي زوايا محصورة كالشّعر والأدب، وفي أزمنة متباعدة، فمن المؤسف حقّا أن تسافر إلى الخارج، وتجلس مع رموز معرفيّة لها قيمتها، ثمّ تكتشف بعد حين أنّ هذه الرّموز عاشت في بلدنا لسنين، لكننا لم نستفد منها إلا في الصّرح الأكاديميّ الرّوتينيّ فقط، وبعض هذه الرّموز المهمّة سبقتنا إلى العالم الآخر.

إنّ حضور هذه الرّموز والقامات المعرفيّة إلى المراكز الثّقافيّة تخلّصها من ترهل قلّة العدد في الدّاخل من جهة، ولأنّها جاءت بموافقات رسميّة من الابتداء، ولا تحتاج إلى تكلفة ماديّة، كما أنّ هذه الشّخصيّات هي مطالبة في ذاتها في تعميق سيرتها الذّاتيّة والعمليّة بالمشاركات الخارجيّة تحت الخطّ الأكاديميّ، ولا تنغلق حوله، ولكونها ضيوفا على البلد؛ ليس العتب يوجه إليها بقدر ما يوجه إلينا نحن، وفي تقصيرنا في إكرامها، ومن أهم ما تكرم به الاستفادة من معارفها وخبراتها بشكل أوسع، وتوثيق ذلك للأجيال القادمة.

فنحن نفتخر مثلا بتوثيق النّادي الثّفافي في نهاية الثّمانينيات وبداية التّسعينيّات لرمزيات كبيرة أغلبها فارقنا قريبا، وبعضها حيّ يرزق، مثل الطّيب صالح،  ومحمّد الأحمدي أبو النّور، وأسامة الباز، وفهمي هويدي، ويوسف القرضاويّ، وأدونيس، وأنيس منصور، ومحمّد عابد الجابريّ، وغيرهم، ولاحقا مثلا عبد الجواد ياسين، وهكذا عند الجمعيّة العمانيّة للكتّاب والأدباء، فينبغي أن نواصل المسيرة، من خلال استقطاب هذه الرّموز من جهة، والّتي تعطي عمقا معرفيّا وفلسفيّا، ترفع بالعقل المعرفيّ عندنا من جهة، وتقترب من الشّباب من جهة ثانية، وفوق هذا تكون صورة عمان حاضرة بقوّة في المشهد الثّقافيّ والفكريّ والفلسفيّ، فهناك رموز عديدة، لها تأثيرها في المشهد العربيّ والإسلاميّ والإنسانيّ، في جميع الجوانب، من الجميل أن تكون عمان اليوم من محطّاتهم المعرفيّة أيضا.

إلا أنّ الّذي أراه مهمّا حاليا من وجهة نظريّ القامات الّتي تعيش معنا حاليا في المؤسّسات الأكاديميّة، فلا ينبغي أن تكون محصورة في الدّرس الجامعيّ، بقدر ما يستفاد منها على مستوى المؤتمرات أو المحاضرات والورشات، بل وحتّى على مستوى الكتابة والتّفاعل خارج الصّرح الجامعيّ، ممّا تشكل تدافعا إيجابيّا مع المشهد المحلّي، وتدفع به نحو العمق والتّهذيب معا.

إننا نعيش اليوم في مرحلة جديدة من اسم عمان بانفتاحها الاقتصاديّ والاستثماريّ، فينبغي أن تنفتح عمان أيضا للخارج من خلال هذه العقول الّتي تعطي صورة إيجابيّة عن البلد وحضارتها وواقعها، وهذا يصبّ ذاته في خدمة البلد تنمويّا وثقافيّا، إذا ما أحسن التّدبير والإدارة، وأدرك الجميع أهميّة التّدافع من خلال العمق لا التّسطيح، مع وجود طاقات مدركة لأهميّة ذلك، وإلا سنظل تحت دائرة الخوف من التّقدّم في زاوية ضيقة، بينما الغالب واقعا يعيش في ثقافات وهويّات تجاوزتنا بكثير، وهذا ما نجده عند الجيل الجديد، ولا يمكن نكرانه بحال من الأحوال، فالواقع خير شاهد لا يحتاج إلى قلم ناطق عنه.

السابق
جريدة عُمان في يوبيلها الذّهبيّ
التالي
لقاء حول الجانب الثّقافيّ  والصّحفي في عمان في السّبعينيّات من القرن العشرين: الغدير أنموذجا على قناة أنس اليوتيوبيّة [الجزء الأول]
– تنويه:

عدد من الصور المستخدمة للمقالات مأخوذة من محرك google

اترك تعليقاً