كنتُ قد كتبتُ لما قامت الحرب على اليمن مقالا بعنوان: الحرب على اليمن درس عربي آخر، وقد حصل العديد ممّا توقعته؛ والآن نحن بعد ثلاث سنوات من الحرب، الوضع في اليمن تراجع إلى الخلف بصورة كبيرة جدا، وأصبح الأمر معقدا للغاية، والوضع الإنسانيّ في اليمن يحتاج إلى وقفة تأمل ومراجعة، وفي الوقت نفسه يحتاج إلى تكاتف وتعاون من الجميع.
طبعا لست محللا سياسيا لأتحدث عن الجانب السّياسيّ، ولا ناقة لي فيها ولا جمل، ولكن سيكون حديثي عن الوضع الإنسانيّ في هذا الجار والبلد العربيّ الخالد في التّأريخ، والعظيم في الثّروات المعنويّة والماديّة، وفي الموقع الجغرافيّ والسّياحيّ المتميز.
في البداية الأمر أولا وآخرا راجع إلى الشّعب اليمني العظيم، وهو يضمّ عقولا راجحة، ومواهب متعددة، وطاقات شبابيّة كبيرة، لقد أثبت التّأريخ أنّ الغير ولو أظهر الحب لن يخدمك بقدر ما يحقق مصالحه الآنيّة، وغاياته القاصرة، وقد ينقلب يوما ما، ويتحول الصّديق إلى عدو!!
ومشكلتنا في العالم العربيّ أننا لا ننطلق من القوميّة العربيّة الواحدة، وهي قوميّة من أعظم القوميات في العالم مساحة وعددا وطاقات ومعادن وجغرافيا وتأريخا وحضارة، وتمتد بين قارتين عظيمتين، فضلا أنّها تتوسط العالم، وتسيطر على أهم المنافذ الجغرافيّة في العالم أجمع، لذا كان زرع الكيان الصّهيونيّ هو محاولة لتفتيت هذه الوحدة العربيّة الواحدة.
ولا تعارض بين الوحدة العربيّة والوحدة الإنسانيّة من جهة، ولا بين الوحدة العربيّة والأمّة الإسلاميّة ثمّ المسيحيّة من جهة ثانيّة، وهذا مبحث آخر ليس محلّ الحديث عنه الآن!!
وعليه العالم العربي يدور حاليا وفق دائرتين:
الدّائرة الأولى: الهيمنة السّياسيّة والدّينيّة الخارجيّة، فهناك من يحقق المصالح الخارجيّة ويقدّمها على المصلحة العربيّة لأسباب سياسيّة أو اقتصاديّة أو طائفيّة دينيّة، وهذا إمّا رغبة في تصدّر، أو لأجل كراسيّ، أو لنظريات أيدلوجيّة تحتاج إلى نقد ومراجعة.
الدّائرة الثّانية: الأنا الذّاتيّ، وعدم النّظر إلى الآخر، وغياب البعد الإنسانيّ والقوميّ.
ولهذا على الشّعب اليمنيّ أن يدرك المساحة الموجودة الآن، وهو أن يتجاوز الذّات والأحزاب والقبائل إلى القانون والوطن، وأن يدرك أنّ صلاحه في دولة مدنيّة ذات قانون عادل بين الجميع، متجاوزا المصالح الفئوية والطائفيّة، والشّعارات القاصرة، وأنّ عظمته في ذاته ووحدته ومدنيته، وفي استغلال طاقاته، وفي نشر الأمن والحفاظ عليه من الجميع دولة ومجتمعا، وتمكين دولة القانون والحريات، والاهتمام بالمؤسسات الرّسميّة، ومؤسسات المجتمع المدنيّ، ونشر التّعليم والصّحة وكافة الخدمات.
إنّ القوة لا تأتي من الخارج؛ لأنّ الخارج أيا كان لا يهمه إلا مصالحه، ولو على المدى البعيد، القوة تأتي من الدّاخل، ولن تكون قوة مع تشرذم وتشتت، ومع خوف وجهل ومرض، ومع شعارات طائفيّة وقوميّة، فالمرحلة في اليمن لا تتحمل هذا!!!
وعلى الجيش أن يكون حافظا للمجتمع المدنيّ، وأن يحفظ أمن الجميع، ولن يكون هذا إذا وجد أكثر من دولة مسلحة في دولة واحدة، وإنّما هناك جيش أمني واحد يحفظ الجميع، ومجتمع مدنيّ حر يتداول السّلطة وفق القانون والعدل، ويسهر على مصلحة بلده وأمنه واستقراره وتقدّمه!!
ما نرجوه لليمن نرجوه للجميع، وما نرجوه في داخل اليمن نرجوه في خارج اليمن، فعلى دول الجوار خصوصا أن تدرك أنّ استقرار اليمن وأمنه وتقدّمه ستعود مصلحته إلى دول الجوار، وذلك لأنّ الفقر والفراغ السّياسيّ سيشكل تدخلات خارجيّة، وشراءات مصالحيّة لا يحسب لها، وفي الوقت نفسه تتشكل وتتمدد إلى دول الجوار!!
ثمّ إنّ اليمن طاقة سوقيّة وإنتاجيّة وسياحيّة وبشريّة هائلة، استثمارها استثمار للمنطقة، فدول الخليج قريبا بحاجة إلى هذه الطّاقات بقوة، وأولى أن يتمّ التّبادل مع الجار الّذي يشترك معنا جميع عوامل الاشتراك من لغة وجغرافيا وثقافة وتأريخ!!
فهذه ماليزيا مثلا، لمّا خرجت من عباءة المصالح الخارجيّة إلى بناء الذّات والمجتمع الماليزيّ، استفاد المجتمع الخليجيّ والعربيّ منهم، مع الفرق في اللّغة والجنس وبعد المكان، فكيف إذا أحيينا العالم العربيّ ومنها اليمن، فمن أحيا دولة عربيّة فقد أحيا العالم العربيّ أجمع، ومن أحيا العالم العربيّ فقد أحيا المجتمع الإنسانيّ؛ لأنّه قلب العالم تأريخا وجغرافيا ومعادن وتعدديّة!!
ثمّ إنّ الوضع الإنسانيّ الحاليّ في اليمن يحتاج منّا إلى وقفة مراجعة، وإلى تكاتف مجتمعي ودوليّ، فليس من العقل هذا السّرف والبذخ والقصور الشّاهقة، وإخوان لنا في اليمن يموتون من البرد والجوع والمرض، وفي الأثر : ليس المؤمن الّذي يشبع وجاره جائع إلى جنبه!!!
صحيفة شؤون عمانية 1439هـ/ 2018م.