قبل أيام فارق العالمُ أجمع رجلا له مكانته العميقة في التحرر الإنساني من عبودية السلطة والجنس، وضحى بنفسه تعذيبا وسجنا من أجل مبادئه، وعندما وصل للحكم ضرب مثالا رائعا حيث بين أنّ حياته ليست من أجل السلطة وإنما من أجل المبدأ، وعليه تنازل عن الحكم للشباب ليواصلوا المسيرة عام 1999، ولم يتعصب لها لأجل ذاته، أو معتدا بما قام به، ومع هذا نزل إلى الناس في جمعياتهم كجمعية مكافحة الإيدز، حتى فارق الحياة.
قلَّ ما يفارق العالم رجلا يجتمع عليه الكل من كافة التوجهات والأفكار، فقد يفارق العالم رجلا إقليميا أو مذهبيا أو دينيا أو متخصصا في فن معين، لكن أن يفارق الجميع رجلا عالميا صاحب صبغة إنسانية جامعة فهذا قل ما يوجد.
مانديلا ارتبط بقضية جوهرية تتعلق بذات الإنسان وكرامته، ولئن كانت الرسالات السماوية تؤكد هذا المبدأ وتدعو إليه، إلا أنّ التفسيرات البشرية لرسالات السماء، وإرضائها للسلطة السياسية أو الاجتماعية كثيرا ما تحول وتطبيقه، مما أوجدوا حول النص اشتراطات أبعدت النّص ذاته.
كنتُ أتمنى ونحن نفارق مانديلا أن نكرم بمقالات وصفية أو نقدية لهذا الرجل الكبير في نتاجه الإنساني، نعم كانت بعض النقولات الجيدة، والعبارات المختصرة لبعض فكره ومآثره.
إلا أنّ الطّريق انحرف كثيرا للنقاش في قضايا هي بيد الله تعالى وحده وهي قضية غيبية لا داعي للتطرق فيها، والله تعالى هو الحكم العدل المطلق.
كنتُ أرغب بعدم الحديث في هذا الأمر، ولكن اختصارا لمن يشدُّ الطلب في الخاص للتعليق وبيان الأمر، لأنني مع الحدث يدرس بما يقدم النفع للبشرية، أما ما يتعلق بأمر الميعاد فلم يكلفنا الله البحث فيه.
المتأمل في القرآن الكريم يجد منطلقات عدة منها:
– الجنة والنار من عالم الغيب، لا يملك أحد أن يدخل أحدا، أو يخرج الآخر: وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، ومعنى من أسلم أي من استسلم لا إسلام الجنس، وعليه لا يجوز أن ندعي أن الجنة ملك للمسلمين ونخرج غير المسلمين، فالجنة هي لمن استسلم لله وعمل صالحا، ولم يشرك معه أحدا.
– الله تعالى صاحب الأمر والنهي في الآخرة، وعليه ينبغي أن نسلم أمرها إلى الله تعالى وحده، ولا علاقة بذلك لا بمذهب ولا طائفة ولا ملة: يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ.
– المؤمنون واليهود والنصارى والصابئون يوم القيامة في ميزان الله سواء أمام القانون الرباني: إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ.
– الدفاع عن الإسلام كجنس دفاع عن مجرمين وظلمة داخل هذا الصف، فعندما نتحدث عن الجنة والنار نقف عند القوانين التي أنزلها الله في كتابه: أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ.
– الله يعلم أنّ اليهود انحرفوا والنصارى منهم من اتخذ عيسى ابنا لله ومن المسلمين من سينحرف، لذا حكم عليهم وفق قانونه لأنهم أشركوا بالله تعالى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ، ونحن لا نملك ذلك، فقط علينا أن نقف مع قوانين الله تعالى في القرآن، لأنه سيحاسبنا وفقها لا وفق رغباتنا وأهوائنا.
– وعليه جميع الملل والنحل يوم القيامة سواء، الله لم يكلفنا هل وصلهم الشرع أم لا، هل سيعفو عنهم أم لا، ولكن سيكلفنا كأفراد هل وقفنا مع قوانين الله تعالى: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ.
– كل ما تقدم لا يخالف التعايش ولا يؤدي إلى صراع، لأننا نتعامل مع قوانين الله تعالى، وهي قوانين مشتركة، ندعو إليها ونُحاسبُ وفقها، ولكن الصراع إذا تعصبت لجنسي أو مذهبي أو نحوه جنسيا، وتركت قانون الله تعالى.
– الله لم يكلفنا بالترحم على فلان أو لعنه، فنحن نقول كما قال من سبق: وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ، ولم يكلفنا الله بتتبع الأعيان رضا ولعنا وهو ما يعبر عنه عندنا بولاية الجملة، نعم هناك من توسع من الأمة وهناك من ضيق، ولكن المنهج القرآني لمن تدبر لا يلتفت إلى هذا بل القرآن ينزل القوانين، وأما التطبيق بيد الله وحده مطلق العدل سبحانه، وما علينا إلا نترحم على المؤمنين الأوفياء دعاء في الجملة، لأن هناك الترحم الديني والمذهبي الذي كانت عليه كتب الكلام وتقيعداتهم كما يقول الإمام السالمي ت 1332م / 1914م:
ﻓــﺎﻥ ﻛــﻞ ﻓـﺮﻗـﺔ ﺗﻔـﺴـﻖ ﺧﻼﻓﻬـﺎ ﻣـﻦ ﺍﻟـﺬﻳـﻦ ﺍﻓﺘـﺮﻗـﻮﺍ
وهذا بحاجة لبحث عميق، وتتبع قرآني دقيق، تعرض على النص القرآني كتب الكلام تصديقا وهيمنة.
الحاصل مانديلا ترك أنموذجا للإنسانية يدرس ويقدم للأجيال القادمة، كما أثنى الله على تصرف ملكة سبأ أبان وصول رسالة سليمان إليها، وكانت تعبد الكواكب من دون الله، ولم يكلفنا الله بالبحث عنها ومشاركته في الحكم، ولا بالترحم عليها والترضي، أو لعنها والبغض، فنحن مع الحدث الإنساني لا مع مشاركة الحكم الرباني، فالله له الحكم في الدنيا والآخرة، والله المستعان.
فيسبوك 2013م