صحيفة المسار الالكترونيّة 1443هـ/ 2022م
لمّا نتعامل مع أيّ نص فنحن نتعامل مع نص يحمل قالبين، الأول ظاهريّ حرفيّ في صورته الأولى، والثّاني تأويليّ مرتبط بروح النّصّ وظرفيّته التّأريخيّة، وما يتعلق بالذّهنيّة القارئة من الخارج، وقرائنها من حيث السّلطة والثّقافة والمجتمع، وقد يغوص بعضهم في أعماق التّاويل الباطني والرمزيّ، موغلا في غنوصيّة النّصّ وجوهره.
وبعيدا عن التّاويل الباطني والرمزيّ نجد المذهبين الظّاهري الشّكلانيّ، والتّأويلي يصبّان معا في الحضور الإنساني الزّمكانيّ في التّعامل مع النّص، ولو كان النّصّ مغلقا في ظاهره أي قطعيّا ثبوتا ودلاله، لكنّه في النّهاية نص متحرك وليس جامدا ساكنا.
ولهذا لمّا يأمر القرآن بالتّدبر والتّفكر، كما في قوله تعالى: { كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص/ 29}، وقوله: {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف/ 176]، فنحن نتعامل ليس فقط مع ظاهريّة التّدبر والتّفكر كناحية ذهنيّة مجردة؛ بل نحن نتعامل مع إنسان مرتبط بعوامل خارجيّة في تدبره وتفكره للنّصّ، واستخدامه للآلة الذّهنيّة البسيطة، أو الآلة المنطقيّة والأصوليّة التّفكيكيّة المتاحة في عصره.
ولهذا نجد التّفكير ملازما للتّعدديّة لا ينفصلان كما يرى حسن الصّفار [معاصر]: “أنّ البعض يزعجه اختلاف الآراء، ويتمنّى لو أنّ أبناء المجتمع يكونون نسخة واحدة في أفكارهم وآرائهم، لكن الاختلاف نتاج طبيعيّ لعمليّة التّفكير، وإذا أردنا النّاس ألّا يختلفوا في الرّأي؛ فعلينا أن نصرفهم أو نمنعهم عن التّفكير، بأن نحظر عليهم التّفكير، أو نقنعهم بالاعتماد على من يفكر عنهم، وإذا تنازل الإنسان عن التّفكير فقد تخلى عن أهم ميزة لإنسانيته، ويكون حينئذ أسوأ من سائر الحيوانات”.
ولهذا نجد دخول مؤثرات ثقافيّة من أمم سابقة، وآلات ذهنيّة من حضارات أخرى، مع تأثير السّلطة والمذهب والمجتمع في تعامله مع النّص، فلمّا نأت إلى القرن الخامس الهجريّ نجد تشكلات مذهبيّة عقديّة داخل المدرسّة الإسلاميّة، تمثلث في ثلاث اتّجاهات عقديّة رئيسة: الاتّجاه الاعتزالي الموغل في استعمال العقل والتّأويل، والاتّجاه الصّفاتي وفق مدرسة أهل الحديث الموغل في حرفيّة النّص، والاتجاه الرّمزي الباطني الموغل في جوهر وباطنيّة النّص.
من هنا تشكلت مدارس منتصرة لإحدى المذاهب، وتارة خليطة بينها، لنجد المعتزلة والإباضيّة والزّيديّة والإماميّة والماتريديّة والأشاعرة والصّفاتيّة والمذاهب الباطنيّة كالإسماعيليّة والدّروز والنّصيريّة، فضلا عن المذاهب الفلسفيّة ورؤاها المتناثرة.
ونتيجة للصّراع السّياسيّ، وتسييس المذهب الدّيني منذ فترة مبكرة، انتقلت هذه المذاهب من حيّز التّدافع إلى حيّز التّكفير والتّفسيق لبعضها، وإنزال مراتب الولاء والبراء، والقطيعة والهجر والإقصاء، فتارة تتطرف حتّى تصل إلى التّكفير والتّشريك، وتارة تخفف حكمها إلى التّفسيق والتّكفير الأصغر، وقلّ ما تعتدل في ذلك.
بيد أننا نجد نصّا رائعا للإمام الرّازيّ [ت 604 – 606هـ] في تفسيره التّفسير الكبير أو مفاتيح الغيب، حيث يقول: “فأمّا الّذي يعرف بالدّليل أنّه من دينه مثل كونه عالما بالعلم أو لذاته، وأنّه مرئي أو غير مرئي، وأنّه خالق أعمال العباد أم لا، فلم ينقل بالتّواتر القاطع لعذر مجيئه عليه السّلام بأحد القولين دون الثّاني، بل إنّما يعلم صحة أحد القولين وبطلان الثّاني بالاستدلال، فلا جرم لم يكن إنكاره، ولا الإقرار به داخلا في ماهية الإيمان، فلا يكون موجبا للكفر، والدّليل عليه أنّه لو كان ذلك جزء ماهية الإيمان لكان يجب على الرّسول – صلّى الله عليه وسلّم – أن لا يحكم بإيمان أحد إلا بعد أن يعرف أنّه هل يعرف الحق في تلك المسألة، ولو كان الأمر كذلك لاشتهر قوله في تلك المسألة بين جميع الأمّة، ولنقل ذلك على سبيل التّواتر، فلمّا لم ينقل ذلك دل على أنّه عليه السّلام ما وقف الإيمان عليها، وإذا كان كذلك وجب أن لا تكون معرفتها من الإيمان، ولا إنكارها موجبا للكفر، ولأجل هذه القاعدة لا يكفّر أحد من هذه الأمّة، ولا نكفّر أرباب التّأويل”.
فنجد الإمام الرّازي من الابتداء يمايز بين ضيق ما ورد في النّص، وسعة ما جاء عن التّأويل والاجتهاد الإنسانيّ، ولو كان النّص واسعا مدرجا لهذه الخلافات لافترضنا ضيق الخلاف في التّأويل الماورائيّ لما بعد النّص، والتّأويل لا يترتب عليه التّكفير، فلمّا لا يترتب عليه تكفير؛ ارتفع تكفير الأمّة وتفسيقها لبعضها.
فنجد النّص الأول مثلا يقرر: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة/ 177].
فلو أتيا مثلا إلى مفردة الإيمان بالله لا نجد ذلك الاغتراب الماورائيّ التّأويليّ، ولا الجمود الصّفاتي الظّاهريّ، ولا التّكلّف الباطنيّ الرّمزيّ، لندخل في اغتراب الصّفات، أهي ذات أم غير الذّات، أهي إيجابيّة في صفات الذّات، أم إيجابيّة وسلبيّة في صفات الفعل والإضافة أو الصّفات الخبريّة، وصفات الذّات أهي محصورة في الحياة والقدرة والإرادة والسّمع والبصر والكلام، أم مضاف إليها التّكوين كما عند الماتريديّة، أم هي أوسع كما عند أهل الحديث، ويرون حصر الصّفات الذّاتيّة في سبع صفات، أنّ هذا “مخالف لما كان عليه سلف الأمّة من الصّحابة والتّابعين وأئمّة الأمّة من بعدهم، فما منهم رجع إلى العقل في ذلك، فيثبتون لله من الأسماء والصّفات ما أثبته لنفسه، أو أثبته له رسله، إثباتا بلا تمثيل، وتنزيها بلا تعطيل” [محمّد العثيمين، تقريب التّدمريّة، ص: 25].
هذا الاغتراب التّأويليّ عند المدارس الإسلاميّة شيء حادث، وهو شيء طبيعيّ، حيث لو أبطلنا اليوم جميع هذا الخلافيات، وعدنا إلى ظاهريّة النّصّ الأول، سنعود إلى الاختلاف مرة أخرى، ولكن في صور أخرى حسب الظّرفيّة المعاشة، وحسب ما يعيشه الإنسان اليوم من تطوّر معرفيّ وثقافيّ، وحسب الآلة المستخدمة؛ لأنّ الاختلاف طبيعة الإنسان.
والّذي نبّه إليه الرّازي كما أسلفنا هي رفع التّكفير وما يترتب عليه من إقصاء وتهميش وولاء وبراء وتفسيق عن هذه الأمّة لبعضها، بيد أنّ الرّازي عندما تحدّث عن هذا تحدّث وهو نهايات القرن الخامس الهجري، ونحن اليوم أكثر تطوّرا ورقيّا فكريّا ومعرفيّا، والآلة أكثر تقدميّة، ولهذا الاختلاف كما كان سابقا سيكون اليوم أيضا وبصورة أكبر، لهذا من الأولى اليوم الحذر من تكفير الآخر وإقصائه وتهميشه في مسائل يلازمها التّأويل لطبيعة النّصّ، ويترتب عليه هذا تعدديّة كما ترتب في السّابق.
بيد أننا نرى اليوم تسرّعا في تكفير الآخر تحت مصطلحات الإلحاد وتصنيفات متباينة كما كان سابقا كالزّندقة، وهذا له خطورته على العقل الجمعيّ، لما يشكله في الذّهنيّة الجمعيّة من مصاديق سلبيّة، ونخرج من دائرة التّدافع الفكريّ إلى دائرة التّكفير والإقصاء، ونحن بحاجة ألا نستنسخ الصّراع السّابق، حيث لو وقف النّاس في البيت الإسلاميّ عند كلام الإمام الرّازيّ، لتجاوزوا الصّراعات والاحتراب الّذي حدث قبله وبعده، واشتغلوا بالإنسان، ليدخل العالم الإسلامي بعد القرن السّادس الهجري إلى الاغتراب الماورائيّ، والاشتغال بالشّروحات المفسقة لبعضهم في الكثير من الأحيان، والمكفّرة في بعض الأحيان، فعلينا أن لا نكرر الخطأ مرة أخرى، لنساهم في بناء الإنسان، ولا يحدث ذلك بدون تعدديّة وحريّة للرّأي الآخر، لا أن نقصي الآخر ونكفّره ونهمّشه.