الثّقافة الاستهلاكيّة المعتدلة والمتوازنة ثقافة قرآنيّة قبل أن تكون ثقافة معاصرة، وضرورة عقليّة قبل أن تكون ضرورة حاجيّة ومجتمعيّة، حيث يقول سبحانه وتعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} الإسراء/ 29.
وصيرورة المجتمعات تقتضي الاعتدال في الإنفاق، والاعتدال في الإنفاق يؤثر على اقتصاد الفرد والمجتمع ككل، من هنا تكون قيمة التّوازن بين الاستهلاك والادخار، فإذا ادخر الفرد سيجتمع عنده المال بعد فترة، ويستطيع بهذا الادخار تحقيق مشروع يدر عليه ريعا أكبر، ويحفظه من ذلّ السّؤال والحاجة، وفي الوقت نفسه إذا صار غنيا مستكفيا سيمدّ يده إلى الفقراء في بلده، ليتوزع المال بطريقة سليمة، ولكي لا يكون دولة بين طبقات معينة في المجتمع دون أخرى، كما أنّ الادخار في المصارف البنكيّة تستفيد منه الدّولة في مشاريعها الخدميّة، ويقوي من عنصر الاقتصاد في المجتمع.
في المقابل إنّ الإنفاق المقتصد ضدّ البخل والإمساك المذموم، فالإنفاق المقتصد يحرّك الشّركات الصّغيرة والكبيرة، كما أنّه يحرّك السّوق، ويجعل العمليّة التّداوليّة قويّة، ممّا يقوي الشّراك المجتمعيّ.
أمّا الإسراف في الاستهلاك يجعل الفرد يعاني من أزمات تسبب له قلقا نفسيّا، ممّا يؤثر على علاقته الأسريّة والمجتمعيّة، بجانب التّأثير السّلبيّ في عمله اليوميّ، كذلك يجعله رهين السّؤال ومقيّدا بالذّلة والمسكنة.
بجانب أنّ التّبذير قد يجعل المال يخرج إلى الخارج، ولا يستفيد منه الدّاخل شيئا، فدرجات تحويل الأموال إلى الخارج ليست بسيطة لأسباب كثرة العاملين الأجانب المستهلكين أكثر من المستثمرين، فالتّبذير يساهم في زيادة تحويل الأموال إلى الخارج مع الأموال المحوّلة رأسا، ممّا يضرّ الاقتصاد المجتمعيّ أصلا.
لهذا كان التّوازن والاعتدال بين الضّرورة والاستهلاك ضرورة فرديّة ومجتمعيّة بدرجة أولى.
وقد يسأل سائل ما ضابط الضّرورة والتّرف في الجانب الاستهلاكيّ؟ وفي الحقيقة الضّوابط فرديّة أكثر منها مجتمعيّة، فكلّ إنسان أدرى بذاته، وهو على نفسه بصيرة.
فالموازنة الفرديّة والأسريّة تختلف من فرد لآخر، ومن أسرة لأخرى، فكلّ فرد مداخيل معينة وبدرجات معينة، يختلف عن الأفراد الآخرين، ممّا يؤثر في الجانب الأسريّ، إلا أنّ هناك درجات ضروريّة ذات خط متقارب حسب أعراف النّاس، فالأكل ضروريّ، والنّقل ضروريّ، كما أنّ التّعليم واللّباس والكهرباء والماء حاجة ضروريّة، وقضيّة عرفيّة ذات خطوط متوزاية.
والمشكلة في التّقليد الأعمى، فمثلا ونحن على قرب شهر رمضان المبارك نجد الإسراف في شراء مستلزمات الطّعام، وكأننا سنواجه سيلا من الجوع، ولهذا تعدّ الأسر أصنافا من الطّعام، الّذي سيرمى غالبه في سلّة المهملات، وقد يقترض الفرد لتوفير أكثر أصناف الطّعام لرمضان، ويتبعه إسراف العيد ممّا يقع في ذلّ الدّيْن والمسكنة، وكان يمكنه تجاوز أو تخفيف ذلك بعقلانيّة وعن طريق الخروج من التّقليد الأعمى للآخر.
والمشكلة أنّ المجتمع يعاني من أزمات ترفيّة في الاستهلاك، وخصوصا في عادات الطّعام، فيؤتى بالصّحن الكبير الّذي غالبه سيرمى ولا يستفاد منه، وممكن أعادة النّظر في العادة عن طريق استخدام الصّحون الصّغيرة، وكلّ يأخذ بقدر حاجته، والباقي يدخر، أو يوزع على ذوي الحاجة، بدلا من رميه في سلّة المهملات، ولا يستفاد منه شيئا.
وهذا يلحظ بقوة في موائد الأفراح، فيحضرون صحنا كبيرا لخمسة أشخاص، وغالبه يرمى في المهملات، وممكن يقتصر في الأفراح على الفواكه، أو استخدام الصّحون الصّغيرة، ثمّ بعد فترة سيقتصر النّاس على القليل من الأكل، ممّا يدخرون الأموال المنفقة في هذا الجانب.
وما ينطبق على الأكل ينطبق على اللّباس، والتّباهي وتقليد الآخر، والتّكلّف في ذلك، كذلك ينطبق على الكهرباء والمياه والإسراف فيها بل حتى في مواضئ الصّلاة والله المستعان.
واليوم نلحظ أنّ الواحد يجلس فاتحا الصّنبور بقوة ويتوضأ بوضوء يكفي لصلاة جماعة من النّاس؛ بل لإرواء أمّة من العطشى والّذين لا يجدون الماء إلا بصعوبة في أجزاء من العالم.
إنّ الماء ثروة، وأصبحت المساجد اليوم تستهلك هذه الطاقة في تطبيق خاطئ للعبادة من حيث الإسراف الواضح في فتح الصّنابير، وعدم استثمار هذا الماء المستهلك ولو في تشجير المسجد ومنطقة المسجد، ولأنّ مساجدنا أساسا تخلو من ثقافة الحدائق والملاعب المرافقة لها!!
ونلحظ أيضا الآن استخدام الصّنابير الّتي تدفع الماء بقوة، وصحيح أنّها بنفسها تتوقف عن الدّفع، إلا أنّ الماء المستهلك فيها بسبب سوء التّصرف، والمكوث طويلا للوضوء ليس قليلا.
وممّا تقدّم كان من المتفق عليه عقلا وتشريعا أنّ الإسراف معصية للرّب قبل أن يكون مخالفة مجتمعيّة، وثقافة استهلاكيّة سيئة، وذلك انطلاقا من قوله سبحانه وتعالى: {يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} الأعراف/ 31.
ولهذا ندرك كما أسلفنا أنّ الثّقافة الاستهلاكيّة المعتدلة والمتوازنة ثقافة قرآنيّة قبل أن تكون ثقافة معاصرة، وضرورة عقليّة قبل أن تكون ضرورة حاجيّة ومجتمعيّة!!!
صحيفة أثير الالكترونية 1437هـ/ 2017م