المقالات الفكرية

الموسيقى وفلسفة المحاكاة

نشر في مجلّة الموسيقى العمانيّة التّابعة لديوان البلاط السّلطانيّ: مركز السّلطان قابوس للثّقافة والعلوم، ص: 55 – 57.

ارتبط الإنسان من القدم بالطّبيعة، منذ الإنسان ما قبل العاقل، حيث سعى لاكتشاف أسرارها، فعن طريق البرق مثلا اكتشف النّار، ومنها تطوّر في صنع طعامه ومأكله، وحتّى الإنسان العاقل محاولا كشف سنن الطّبيعة، ومحاكاة ما يلامس حواسّه الجارحة، ليتطوّر في ذلك، حتّى نصل إلى عالم اليوم، حيث استطاع الإنسان عن طريق امتدادات الحواس الخمس كشف سنن الطّبيعة ومحاكاتها لخدمة الإنسان.

والموسيقى ارتبطت بالإنسان منذ القدم؛ لأنّها ارتبطت بالنّغم المرتبطة بجماليّات حاسّة السّمع، وهو يشقّ هذه الطّبيعة، ليتعايش معها من جهة، ويتحدّ مع سننها ونواميسها وجمالها، ويسّخرها في عمارة الأرض وإصلاحها من جهة أخرى، فكانت أوتار حنجرته آلته الأولى في النّغم، “فالنّغم شيء غريزيّ فطريّ عريق بالنّسبة للإنسان، خلق معه يوم خلقه الله تعالى، ووجد معه يوم ظهر على هذه الأرض، ويرى أنّ أصله يعود إلى أصوات الطّبيعة، مثل أصوات الرّعد والمطر وأصوات الحيوانات، ثمّ أعجب الإنسان ببعض الأصوات، وأنكر أصواتا أخرى، فحاول تقليد ما أعجب، ثمّ آخى بين بعضها، وزاوج بعضها الآخر، فأنتج أصواتا جديدة كالحزن والفرح، ثمّ اخترع الأدوات الصّوتيّة، والآلات الموسيقيّة؛ ليريح نفسه من عناء التّقليد والتّصويت، ثمّ شارك بين صوته وصوت الآلات”[1]، فأصبح “مجال الاشتغال بالصّوت يندرج فيما سمّاه القدماء بالعلم الطّبيعيّ الّذي ينظر في الأشياء الطّبيعيّة كالضّوء والصّورة والحرارة والماء وغير ذلك، وأقدم ما تشتمل عليه هذه الصّناعة هو العلم الطّبيعيّ الّذي ينظر في الأصوات والنّغم وكيّفيّة حدوثها في الأجسام”[2].

لهذا ممكن أن نفهم فلسفة المحاكاة في الموسيقى، وما تتمثله في جوانب أربعة: المحاكاة الطّبيعيّة، والمحاكاة الصّوتيّة، والمحاكاة الشّعوريّة، والمحاكاة الجماليّة، وأمّا المحاكاة الطّبيعيّة فهو كما أسلفنا ابتدأ من محاكة أوتار حنجرته، “وتعتبر أوتار حنجرة الإنسان الآلة الطبيعيّة الأولى وجودا، فهي الآلة الموسيقيّة العجيبة في تركيبها”[3]، كما أنّ “آلة الصّوت الإنسانيّ هي الحلوق كما عبّر عن ذلك القدماء، فعند صعود الهواء من الرّئة يصدم مقعرات الحلق فتنتج الأصوات، أمّا إذا دفع الهواء بترفق كان زفيرا”[4]، فقام بمحاكاة ذلك في الآلة كالمزمار مثلا، حتّى قيل “الحلق كأنّه مزمار مخلوق، والمزمار كأنّه حلق مصنوع”[5]، “والثّقب في المزمار بمثابة المخارج في الجهاز المصوّت”[6]، وهكذا تطوّر في محاكاته للطّبيعة بمحاكاة ما يضرب فكانت الآلات الوتريّة، أو ما ينقر فكانت الآلات الإيقاعيّة، أو ما ينفخ فكانت آلات النّفخ.

وأمّا المحاكاة الصّوتيّة فكما أسلفنا أنّ مجال “الاشتغال بالصّوت يندرج فيما سمّاه القدماء بالعلم الطّبيعيّ الّذي ينظر في الأشياء الطّبيعيّة كالضّوء والصّورة والحرارة والماء وغير ذلك”[7]، وبعيدا عن نشأة الصّوت، وهل هو ابتداء محاكاة لأصوات ما في الطّبيعة، لهذا ابتدأت الكتابة بماحكاة صور الطّبيعة كالحيوانات مثلا، ولهذا أصبح “يفهم بالأصوات ما يفهم بالقول، إذ كان لكلّ صنف من القول صنف من الأصوات خاص به إذا صوّت به فهم عند الطّرب وعند الخوف أو الأمن”[8]، وفي الأدبيّات العمانيّة مثلا يذكر أبو زكريا يحيى بن سعيد  (ت 427هـ) عن القصبة الكبيرة – أي المزمار، فإنّ المسلمين – أي الإباضيّة – أجازوا استماعها لمزيد قربها من الآخرة، أخبرني زياد بن الوضاح  (ت ق 3هـ) أنّه رأى أباه  (ت ق 3هـ) يستمعها وهو يبكي[9]، لأنّ القصبة الكبيرة تحاكي صوتا له تأثير في الطّبيعة والنّفس الإنسانيّة وهو الحزن، كما أنّ الطّبل والدّف بإيقاعه يتناسب مع الفرح، كما في رواية البخاريّ (ت 256هـ) من طريق عائشة (ت 57هـ) أنّها زفّت امرأة إلى رجل من الأنصار، فقال نبيّ الله – صلّى الله عليه وسلّم –: يا عائشة، ما كان معكم لهو؟ فإنّ الأنصار يعجبهم اللّهو[10]، أي الدّف، وهو يتناسب مع الفرح.

وأمّا المحاكاة الشّعوريّة فهي مرتبطة باللّذة، فكما يرى محمود شلتوت (ت 1963م) أنّ “الله خلق الإنسان بغريزة يميل بها إلى المستلذات والطّيبات الّتي يجد لها أثرا طيّبا في نفسه، به يهدأ، وبه يرتاح، وبه ينشط، وبه تسكن جوارحه، فتراه ينشرح صدره بالمناظر الجميلة، كالخضرة المنسقة، والماء الصّافي الّذي تلعب أمواجه، والوجه الحسن الّذي تنبسط أساريره، ينشرح صدره بالرّوائح الزّكيّة الّتي تحدث خفّة في الجسم والرّوح، وينشرح صدره بلمس النّعومة الّتي لا خشونة فيها، وينشرح صدره بلذة المعرفة في الكشف عن مجهول مخبوء، وتراه بعد هذا مطبوعا على غريزة الحبّ لمشتهيات الحياة وزينتها من النّساء والبنين، والقناطير المقنطرة من الذّهب والفضّة والخيل المسومة والأنعام والحرث”[11]، وهذا ينظبق كليّا على لغة الموسيقى المرتبطة وجدانيّا بالشّعور، فهي “تعبير يترجم عن حالات نفسيّة لا يقصد بها أن تكون لغة عامّة أو خاصّة، ولكنّها لغة عامّة بغير قصد من الهاتفين بها والسّامعين … والعلم بأنّ الموسيقى تعبير، وأنّ الأصوات لا تطرب بذاتها، ولكنّها تطرب بالشّعور الّذي توحيه، والخاطر الّذي تمثله في الطّبائع والأذهان، يفسح للنّفس دائرة الطّرب، ويقيم لها الكون كلّه، وكأنّة فرقة غناء تفتأ تصدح لمن يسمعها وهي ناطقة وصامتة، وتدأب على الإيقاع وهي معبرة، وغير محتاجة إلى التّعبير”[12]، هذا الجانب الشّعوريّ لا ينفصل عن الطّبيعة والوجود، وفي القرآن ما يلمس شعوريّا ووجدانيّا من خلال تناغم الوجود مع الإنسان في قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} [سبأ: 10]، وفي الرّواية عن النّبيّ – صلّى الله عليه وسلّم – أنّه قال لأبي موسى الأشعريّ (ت 44هـ): “إنّه أعطي مزمارا من مزامير آل داود”[13]، وهو كناية عن الحسّ الشّعوريّ المخبوء في الطّبيعة، والّتي تحاكيه الآلة، وتقربه صوتيّا للإنسان.

وأمّا المحاكاة الجماليّة فهي مرتبطة بالمحاكاة الشّعوريّة على الوجه الأخصّ، إلّا أنّها تظهر بشكل كبير في المحاكاة الطّبيعيّة والصّوتيّة، والمحاكاة الجماليّة مرتبطة إمّا بالجمال المطلق، أو بالجمال الطبيعيّ المنعكس من الوجود، وإمّا من خلال جمال الذّات وشعوريّتها، فالجمال المطلق كما يرى بعض فلاسفة المسلمين “أنّ منشأ الجمال هو الجمال المطلق أي الله تعالى، فجميع أنواع الجمال في العالم انعكاس لجمال الحقّ سبحانه وتعالى”[14]، وأمّا مع الوجود فكما يرى ابن خلدون (ت 808هـ) “إن كان ما سواك إذا نظرته وتأملته رأيت بينك وبينه اتّحادا في البداءة، يشهد لك له اتّحادكما في الكون، ومعناه من وجه آخر أنّ الوجود يشرك بين الموجودات كما تقوله الحكماء، فتودّ أن تمتزج بما شاهدت فيه الكمال لتتحدّ به، بل تروم النّفس حينئذ الخروج عن الوهم إلى الحقيقة الّتي هي اتّحاد المبدأ والكون، ولمّا كان أنسب الأشياء إلى الإنسان، وأقربها إلى مدرك الكمال في تناسب موضوعها هو شكله الإنسانيّ، فكان إدراكه للجمال والحسن في تخاطيطه وأصواته من المدارك الّتي هي أقرب إلى فطرته، فيلهم كلّ إنسان بالحسن في المرئيّ أو المسموع بمقتضى الفطرة”[15]، وهذا كلّه ينعكس على جمال الذّات وشعوريّتها، وعلى هذا حاول الإنسان قديما تقريب هذه الصّورة من خلال صوته وحنجرته، ثمّ عبّر عنها من خلال من خلال نظمه وشاعريّته، ليحاكي ويختصر ذلك في آلات صنعها بدقة متناهية، تتماهى مع الذّات والوجود، وتتناغم مع جمال الطّبيعة والجمال المطلق.


[1]  الشّاذليّ: محمد، فرح الأسماع برخص السّماع؛ تحقيق محمد الشّريف الرّحمونيّ، ط الدّار العربيّة للكتاب، 1985م، والنّصّ للمحقّق من المقدّمة.

[2] زاهيد: عبد الحميد، علم الأصوات وعلم الموسيقى: دراسة صوتيّة مقارنة؛ ط دار يافا العلميّة للنّشر والتّوزيع، الأردن – عمّان، الطّبعة الأولى، 2010م، ص: 22.

[3] عيد: يوسف وعكاري: أنطوان، الموسوعة الموسيقيّة الشّاملة؛ ط دار الفكر اللّبنانيّ، لبنان/ بيروت، الطّبعة الأولى، 1994م، القسم التّطبيقيّ العمليّ (2)، ص: 4.

[4] زاهيد: عبد الحميد، علم الأصوات وعلم الموسيقى: دراسة صوتيّة مقارنة؛ سابق، ص:  25.

[5] نفسه، ص:  50.

[6] نفسه، ص:  50.

[7] نفسه، ص:  22.

[8] نفسه، ص:  28.

[9] العقريّ النّزويّ: أبو زكريا يحيى بن سعيد، الإيضاح في الأحكام، ط وزارة التّراث القوميّ والثّقافة – سلطنة عمان، الطّبعة الأولى، 1404هـ/ 1984م، ج:4، ص: 74.

[10] رواه البخاريّ باللّفظ والطّريق نفسه.

ينظر: البخاريّ: محمّد بن إسماعيل، الجامع الصّحيح؛ ط دار الفكر، بيروت/ لبنان، ط 1420هـ/ 2000م. ج: 2، ص: 352، و ج: 9، ص: 166 – 167.

[11] شلتوت: محمود، الفتاوى: دراسة لمشكلات المسلم المعاصر في حياته اليوميّة والعامّة؛ ط دار الشّروق، القاهرة – مصر، الطّبعة السّادسة عشرة ، 1411هـ/ 1991م، ص: 410.

[12]  العقاد: عباس محمود، المجموعة الكاملة، قسم الأدب والنّقد؛ ط دار الكتاب اللّبنانيّ، لبنان/ بيروت، ج: 3، ص: 135 – 140.

[13] أخرجه مسلم بلفظ قريب من طريق أبي عبد الله بن بريدة، والثّاني من طريق أبي موسى الأشعريّ، كتاب الصّلاة، باب استحباب تحسين الصّوت بالقرآن. ينظر مثلا: النّيسابوريّ: أبو الحسين مسلم بن الحجاج، صحيح مسلم بشرح النّوويّ؛ ط دار الفكر، بيروت/ لبنان، ط 1401هـ/ 1981م، ج: 5، ص: 80.

[14] نجاد: حسين هاشم، مدخل إلى فلسفة الفنّ من وجهة نظر الفلاسفة المسلمين؛ ترجمة عن الفارسيّة: وسيم حيدر، بحث منشور غي مجلّة نصوص معاصرة، عدد: 41، 1437هـ/ 2016م، ص: 229.

[15] ابن خلدون: عبد الرّحمن، مقدّمة ابن خلدون؛ ط مكتبة الصّفا للنّشر والتّوزيع، القاهرة – الأزهر، الطّبعة الأولى، 1437هـ/ 2016م، ص: 412.

السابق
ثنائيّة الشّرق والغرب وجلد الذّات
التالي
من الهويّة  إلى المواطنة
– تنويه:

عدد من الصور المستخدمة للمقالات مأخوذة من محرك google

اترك تعليقاً