المقالات التأريخية

عليّ الهويرينيّ الحكيم المتسائل

جريدة عمان 1443هـ/ 2022م

فقدت السّاحة الإسلاميّة والعربيّة عموما، والخليجيّة والسّعوديّة خصوصا في الثّالث عشر من هذا الشّهر – أي يناير -، حكيما من حكمائها، وعلما من أعلامها، الفنان والشّاعر الأديب عليّ بن عبد الله الهويرينيّ، من أوائل المتخرجين من جامعة Columbia College Hollywood، وهو شاعر وأديب، إلا أنّه في نظري يتميز بالحكمة المتمثلة في سداد رأيه، وسعة أفقه، وعمق إنسانيّه.

وهو وإن اشتهر في حياته كفنان ومخرج سيميائيّ؛ إلا أنّه بعد لقاءاته في العقد الثّاني من القرن العشرين خصوصا، وهي وإن كانت لقاءات قليلة؛ إلا أنّها أظهرت للعالم العربيّ والإسلاميّ شخصيّة أقرب إلى الفلاسفة والعرفانيين المتأملين، تميزت هذه الشّخصيّة في لقاءاتها بالحكمة والاستقلاليّة في الرّأي والنّظر، مع التّواضع الجم، واحترام الآخر.

وهو وإن لم يترك للمكتبة آثارا في هذا – حسب علميّ -، إلا أنّ مثل هذه اللّقاءات مادّة خصبة لتلاميذه وأبنائه ومحبّيه في تجميع هذه اللّقاءات، مع آثاره الشّعريّة والسّيميائيّة، لتكون متاحة ومحفوظة لأجيال أخرى.

وفي شتاء 2016م كانت لي جولة معرفيّة في المملكة العربيّة السّعوديّة – مع بعض الأخوة -، حيث زرتُ بعض الرّموز والآثار المعرفيّة في الحجاز والقصيم والرّياض، وكان من المخطط زيارة عليّ الهويرينيّ، وكنّا قد رجعنا من بريدة إلى الرّياض، وتواصلنا معه عن طريق أحد الأخوة، ولكن للأسف لم يكن يومها في الرّياض، ولم تتجدد فرصة أخرى لزيارته، مع أنّه زارنا عمان ولم ألتق به، ولكنني ألتقيت به روحيّا ومعرفيّا، حيث تابعت أغلب لقاءاته تقريبا، ووجدت أهم ما يميزه الحكمة في لسانها العربيّ الأصيل، وكأنّك تنظر إلى حكماء العرب القدامى، ومع هذا تجد هذه الحكمة تعيش عالمها المعاصر متسائلة وناقدة.

فقد تحدّث عن نفسه أنّه مر بمرحلتين في حياته: المرحلة الأولى قبل الأربعين من عمره، أي من السّابعة وحتىّ الأربعين، كان كثير القراءة، وقراءته موسوعيّة في الأدب والفنون والسّينما والتّأريخ والفكر والعلوم الفيزيائيّة والتّجريبيّة، إلا أنّه أيضا تأثر بظاهرتين في هذه المرحلة، ظاهرة الصّحراء النّجديّة بعيدا عن صخب الحياة وضوضائها؛ جعلته قريبا من الكون، وكأنّه الكون ذاته، متحدا معه لا ينفصل عنه، والظّاهرة الثّانية ظاهرة سفره إلى أمريكا، حيث رأى الإنسان في صورته الأخرى، ورأى الحضارة في عالمها اليوم، لهذا كانت رؤية الهويرينيّ أنّ الإنسان “يرى ويسمع ويقرأ من الكتب، ومن الخلْق أي الكون”.

لينتقل الهويرينيّ إلى المرحلة الثّانية من حياته بعد الأربعين عاما، فيتوقف عن القراءة، وينصهر في العالم الأوسع، حاملا معه مجموعة كبيرة من التّساؤلات مع نفسه ومع الكون، ليعيش مع النّار والنّجوم والصّحراء والإبل والإنسان، وكلّ شيء في الكون، جامعا بين التّأمل والتّساؤل، فلم يقرأ بعد الأربعين من عمره كتابا عدا القرآن؛ لأنّه رآه الصّورة الأخرى من الكون المنظور، ليسقط الأثر القرآني على لغته وأدبه وفكره، فهو قرآني ليس بالمعنى البروتستانتي في الدّراسات المعاصرة، ولكن أقرب إلى المعنى العرفانيّ والفلسفيّ في صورته الرّمزيّة، والحكمة التّأمليّة، فيرى مثلا في معرفة الله: “أسأل عن الله وتجد جوابه في خلقه، هذا الخلق من الذّرة إلى المجرة، ومن البذرة إلى الشّجرة، ومن الفايروس إلى الحوت، هو قرآن خلق لنقرأ فيه فرضا لا نافلة”.

من هنا يرى أنّ الإنسان له عقل ونفس، وبهما ينصهر مع الكون، أمّا عقله فأعظم موجود، هذا العقل “ليس في الرّأس ولا في القلب، إنّما العقل هو زمن الخفق، فلمّا ينبض القلب يخفق، ولمّا يبطئ خفقه يحسب قراءته لما في ناصيته، وكلّما كان عجولا أثر سلبا في قراءته”، ويرى أنّ “الملائكة سجدت للعقل وليست للجسد”.

ويرى أنّ عقل الإنسان وإن كان صغيرا، إلا أنّه “بسعة الملكوت، هو طائر له خمسة أجنحة، جناح يسمع به نغم الكون، وجناح يرى به جمال الكون، وجناح يشم به عبق الكون، وجناح يذوق به طعم الكون، وجناح يلامس به ملامس الكون، حر فيها يسبح في الكون حيث يشاء، معه كتاب مفتاح كلّ باب، لا يعالجه ويخالطه ويحاجّه فيها خلق، إلا إذا فتح فيها باب القبة (أي العقل) للرواة، فتحلّقوا حول وكره يقصّون عليه القصص، حتّى إذا استأنس الرّواية أخلد إلى الوكر، فهزلت أجنحته، وأصبح شكله كالطّاووس، وباطنه بئر جهل مظلم يلقف ما يأفكون”، وبهذا يرى أنّ “الحفاظ على سلطان العقل بعدم السّمع والاتّباع، ولكن جادل وناقش وابحث واسأل فيما تسمع وترى”، وكان من رسائله الأخيرة قبل موته في مقابلته مع الرّياض اليوم “أحيوا العقول”، وهذا لا يكون إلا عن طريق البحث والتّساؤل، وليس عن طريق التّقليد والسّمع.

نجد في هذا المساق أنّ الهويرينيّ يتحسّر لمّا يرى شخصا “مات منذ سبعمائة سنة وأتصوّره أعلم مني، وأنا قرأت ما قبله وما بعده، ومع هذا أتصوّره أعلم منّي، بل ألزم [نفسي] بمن مات قبلي بزمن”، فيرى “ليس العبرة بقال فلان، ولكن العبرة ماذا يصلح لي هذا القول، وكيف استنبط منه ما ينفعني، فإمّا أن أردّ عليه، وإمّا أن أخرج برأي جديد”، “فالعقل بين البشر واحد [قديما وحديثا]، ولكن يتفاوتون في استخدامه”، ونحن اليوم علينا أيضا أن نعمل عقولنا.

وأمّا النّفس فيرى الهويرينيّ أن للإنسان نفس “كما أنّها تغويه؛ هي أيضا قد تعلّمه، فعليه أن يطرح أسئلته مع نفسه”، وأن يكون “ناقدا متسائلا في جميع الفنون”، وهذا وفق ثلاثة أدبيات يراها: الأول والثّاني: ” لا أرفض آراء الآخرين، ولا أفرض رأيي على أحد”، وإنّما كما يحترم الإنسان رأي غيره؛ لكنّه ليس مرهونا بأن يسلّم لها بالكليّة، وكما أنّه لا يسلّم عقله للآخر، فكذلك الآخر لا يكرهه أن يسلّم عقله له، وأمّا الثّالث: الصّدق، أي أن يكون صادقا مع نفسه ومع الآخرين، من خلال ررؤيته وتساؤله وما يعرضه من فكر وثقافة وأدب ومعرفة.

ومن يتأمل ما تركه الهويرينيّ يجد كما أسلفنا الحكمة حاضرة بقوّة، يمكن بذاتها أن تكون دراسة أو معجما مستقلّا يضاف إلى كتب الأدب في صورتها العربيّة المعاصرة، ومن أمثلة ذلك نثرا مثلا: “ويل لأمّة يصنع فنّها الغرباء” أي لا تصنع فنّها بذاتها، وتثق في أبنائها، و”ويل لأمّة رأس مالها الحقل، وليس ما يصنعه العقل” أي تكتفي بمواردها، ولا تعمل عقلها في تصنيعه والإبداع في استثماره، و”عقل الإنسان ثلثه خيال، وثلثه حقيقة، وثلثه مكر”، و”مصيبة النّاس التّعلق بالكتب ونسيان الخلْق” أي ترك البحث والتّأمل في الكون، و”قبرك في فمك، بقدر ما أكلت فاحفظ فمك” وهذا قريب من الحكمة القديمة: “المعدة بيت الدّاء”.

وكما يتميز نثره بالحكمة فكذلك شعره، ومن شعره مثلا:

إن لم تُبن ببنات فكر صائب زبر الحديث يمدّه ببيان

فاصمت فإنّ الصّمت خير جنّةً من أن تكون مطيّة لفلان

لا تنتظر موسى يمدّك ساعدا سبقتك في هذا له امرأتان

وكما أنّ الهويرينيّ تميزت حكمته بالتّأمل والتّساؤل والبحث؛ أيضا تميزت بالنّقد لتراثه مع الاستقلالية، فقد انتقد من الابتداء المشروع الفني العربيّ عموما، ويراه أقرب إلى الرّومانسيّة الفرنسيّة، ولم يهتم بالعناصر الأربعة لأي مشروع سيميائيّ، وهي “الموروث والمرجعيّة والمال والأمن”.

ويرى أنّ اللّسان العربيّ المشار إليه في قوله تعالى: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشّعراء: 195] هو لسان واسع ليس محصورا في جنس، أي لسانا من ثقافات مختلفة، انفتح حينها على العديد من الثّقافات واللّغات، وبدأ في اليمن، وتطوّر في مكّة.

ويرى أنّ الدّين “إذا خرج عن التّعايش بين البشر فليس بدين”، و”الدّين لا يحكم الأمم لأنّه بلاغ وممارسة، والأمم تحكم نفسها بثقافتها”، و”الأديان جاءت لبناء الإنسان حضاريّا، لكن لما يصرف سبعون بالمائة في الدّفاع أكثر من صرفها إلى الصّحة والتّعليم فنحن لا نبني الإنسان حضاريّا”، ونحن “لم ننزل إلى الأرض لنتعبد، بل أنزلنا لصلاح الأرض”، لهذا نحن – العرب – “أمّة مثقفة لكننا لا نصنع فكرا”.

واعتبر “فتح الأندلس فتحا عربيّا وليس إسلاميّا”؛ لأنّه لم يحوِ تلك المظاهر الإسلاميّة” بقدر ما استغلت تلك الشّعوب، مع قتل للنّصارى، والله لم يأمر بقتلهم، مقابل ذلك هناك ظهور للإسلام في مناطق كأندونيسيا وشرق آسيا بدون سيف أو استغلال، وهذا ما يسميه “بغزوة السّفن أو الشّراعين”، كما قال ذلك عن عُمان وحضرموت في اليمن مثلا:

ذكراك يا ريح جاءت عبق أشرعة من مسقط الخير تجري حيث مجراك

تدعو إلى الله لا بالسّيف بل مُثُلٌ: الخلق والقدوة الحسنى فطوباك

ما ذكرته آنفا هو قراءة وصفيّة واحتفائيّة مذكرة بالمرحوم الأديب والفنان عليّ الهويرينيّ في بعض جوانب الحكمة في نثره وأدبه، بعيدا عن إسقاط رأيي ونقدي فليس مقامه هنا، ولعلّ لنا مناسبة في ذلك، معتمدا على لقائين مع الهويرينيّ أحدهما لقاؤه القريب في منصّة الرّياض اليوم، والثّاني لقاء له قبل سنتين مع عبد الله المديفر في برنامج اللّيوان على خليجيّة، وأشرت إلى ذلك مع بعض التّصرف.

السابق
الموارنة كاثوليك بلباس شرقيّ
التالي
مستقبل التّنوير في العالم العربيّ
– تنويه:

عدد من الصور المستخدمة للمقالات مأخوذة من محرك google

اترك تعليقاً