اطلعتُ على مقطع منشر من سؤال أهل للذّكر في القناة العمانيّة حول سؤال وجه لفضيلة الدّكتور كهلان الخروصيّ – حفظه الله – عن ليلة القدر، والظّاهر من السّؤال سببه تغريدة للأستاذ أحمد النّوفليّ – حفظه الله – يرى أنّ ليلة القدر انتهت ولا تتكرر!!
بطبيعة الحال لا يهمني كثيرا التّعقيب على الرّأيين؛ لأنهما من مسائل الرّأي الّذي يسع الخلاف حوله، ولكن الّذي يهمني عدم دراسة القضيّة والمسألة دراسة علميّة منهجيّة، والبحث حولها بحثا علميّا؛ وإنّما للأسف كما رأينا في الحلقة الرّابعة من مقاطع منتشرة الاتجاه نحو السّخريّة والتّهكم والاستهزاء، ولعلّ البعض يعذر، ولكن أن يصدر من أقلام قرأت الفقه والشّريعة، ولها باعها في هذا فهنا تكمن الإشكاليّة؛ لأنّه لا يهم الرّضا أو السّخط بقدر ما يهمنا المعرفة كمعرفة!!
وإذا جئنا نحلل القضيّة سنجد الإشارة الصّريحة إلى ليلة القدر في سورة كاملة سميت باسمها، وفهم العديد من أهل التّفسير أنّ قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ، فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ، أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} [الدّخان/ 3 – 5]، وكذا فهم آخرون من قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة/ 185] أي ليلة القدر، وقد أسهبت مناقشة الأقوال الثّلاثة حول نزول القرآن في رمضان في كتابي أيام رمضان: اليوم التّاسع، ممكن الرّجوع إليه وتأمله.
والمتأمل في هذه الآيات الثّلاثة يجد التّالي:
- القرآن نزل في رمضان [أي افتتح نزوله في رمضان].
- القرآن نزل في ليلة القدر، أي ذات قدر ومكانة وأهميّة.
- القرآن نزل في ليلة مباركة فيها يفرق كلّ أمر حكيم.
والآن أين يكمن الخلاف: يكمن الخلاف في تكرار هذه اللّيلة وتخصيصها في رمضان، وأمّا التّخصيص فيكون أوضح إذا اعتبرنا سورة البقرة هي ليلة القدر، ولكن لم يتفق الجميع على هذا، للخلاف الوارد بين نزول القرآن جملة ونزوله مفرقا، وهل بدأ نزوله في رمضان أم لا، أم أنزل جملة واحدة ثمّ نزل مفرقا، أم المقصود بهذا سورة الفاتحة لأنّها تجمع معالم القرآن، وهل هي أول ما نزل من القرآن أم لا، كلّ هذا الجدل سوف يؤثر على ضبط المسألة من حيث التّفصيل، ويبقى العموم باقيا، ممّا يجعله في دائرة التّأمل والتّدبر وفق دائرة الرّأي الواسعة!!
ولنأتي الآن إلى القضية المثارة وهي التّكرار، فهذا خلاف حولها كبير منذ العهود الأولى، وسببه الظّرفيّة الزّمانيّة هل هي مطلقة أم سببية، وإذا كانت مطلقة هل هي تتكرر أم أصبحت سببية بنزول القرآن، وإن كانت تتكرر هل في رمضان أم سائر العام، وإن كانت في رمضان أفي العشر الأولى أم الثّانيّة أم الثّالثة، وإن كانت في العشر الأخيرة أهي في الوتر منه أم في سائر الأيام، وإن كانت في الوتر أيهما أشْهَرُ ليلة الثّالث والعشرين كما عند العديد أم السّابع والعشرين، وإن كان محددة بأحديهما فكيف يكون الحساب مع اختلاف المطالع فليلة السّابع والعشرين عند قوم ليلة الثّامن والعشرين، وعند آخرين ليلة السّادس والعشرين؟
هذا الخلاف الجدليّ القديم سببه أمران: الأول أنّ القرآن لم يتحدث عن التّكرار رئسا، ولهذا فهم الخليل بن أحمد الفراهيديّ [ت 170هـ] مثلا أنّها لا تتكرر، والأمر الثّاني الرّوايات المتضاربة جدا، والمختلف في صحتها بين مضعف ومحسن ومصحح، كلّ هذا سوف يؤثر تأثيرا كبيرا في التّعامل مع القضيّة.
والقضيّة في الجملة قضيّة رأي واسعة لسبب كبير: وهو أنّها قضيّة غيبية، وإثباتها قطعا تحتاج إلى دليل قطعي، وما ورد حولها وإن صح – وكيف وقد تكلّم فيها- تبقى بالاتفاق آحاد، وما دام كذلك فهي رأي وصل الاختلاف حولها من زواياها إلى قرابة الخمسين قولا، فما دام كذلك فلم التّعنيف والأحاديّة في القول، وعدم تقبل الرّأي الآخر!!!
ولنرجع الآن إلى المقطع المتداول وهو الاستشهاد بقوله تعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [أنّها جملة أسميّة والجملة الاسميّة تفيد الثّبات، وهي حقيقة دائمة]، فكونها حقيقة ثابتة فهذا لا إشكال فيه، إلا أنّ الإشكاليّة في تكرارها وتخصيص زمان تكررها، فهذا مفتقر إلى دليل واضح وقوي؛ لأنّ سياق الآية كان عن الإنزال رأسا، ولهذا رأى العديد من أهل التّفسير أنّها سميت بليلة القدر لقدر نزول القرآن فيها، على أنّ الآية هنا في مقام الإخبار لا التّشريع، وهو إخبار ابتدائي لا يلزم منه تشريعا، وما دام كذلك فيسع الأخذ ما اطمئن إليه النّاس من روايات وآثار حسب اختلاف رؤيتهم ولا إنكار فيه، كما أنّه يسع أيضا دراسة القضيّة من وجه آخر ولا إنكار فيه، فمن القواعد المقررة: لا إنكار في مسائل الخلاف، والرّأي يسع الجميع، فلا يصح الإنكار هنا في مسائل واسعة، وفي الوقت نفسه لا يصح تجهيل وتضليل من أخذ برأي آخر!!
وأمّا استخدام الفعل المضارع [تنزل] بمعنى الاستمراريّة فليس شريطة؛ لأنّ من عادة العرب في مجال التّفخيم استخدام المضارع أو المستقبل بمعنى الماضي، ولتحقق الوقوع يستخدمون الماضي بمعنى المستقبل، وهذا وارد بكثرة في القرآن الكريم، يقول أبو حاتم [ت 277هـ]: اتسعت العرب فجعلوا فعل في مواضع لما لم ينقطع بعد، وجعلوا يفعل وأخواتها لما قد كان.
ومن هذا قوله تعالى: {وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} [البقرة/ 87] وهذا في سياق الأخبار عن الماضي فاستخدم تقتلون وهو مضارع، وقوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [الحج/ 63] فهنا التفت من الماضي [أنزل] إلى المضارع [فتصبح]، والالتفات حدث في سورة القدر من الماضي [أنزل] إلى المضارع [تتنزل]، وكذا في سورة الدّخان، على أنّ الآية مقيدة بطلوع فجر تلك اللّيلة، فيكون إخبارا لليلة حادثة، لا لليلة مستقبليّة أو مكررة، إلا من خلال الاستئناس من الرّوايات الآحاد كما أسلفنا!!
وبهذا نخلص أنّ هذه المسألة من مسائل الرّأي الواسعة، ويسع الخلاف حولها، ولا يوجد دليل يقيني فيها، ورمضان العمل الصّالح والتّبتل فيه لله، وهو ميدان في جميع أيامه، يتنافس فيه المتنافسون، كما يتنافسون إلى الخير في سائر الشّهور والأعوام!!
فيسبوك 1439هـ/ 2018م