المقالات التأريخية

الإباضية والتصوف

التصوف بمعنى تهذيب النفس وتزكيتها منهج قرآني رفيع، فالله كما أخبر عن نبيه عليه الصلاة والسلام أنه يعلّم المؤمنين هو في الوقت نفسه يزكيهم ويطهر قلوبهم بالتعاليم القرآنية، والأدبيات الربانية.

والتصوف بمعنى التزكية معلوم عند جميع مذاهب الإسلام، بل حتى عند السلفية الذين يشنون حربا على المتصوفة، وكذا الأديان والملل كاليهودية والمسيحية.

فالصوفية بمعنى التزكية الكل مجمع عليه، والكل متفق لا خلاف بينهم، والسؤال هنا أين الخلاف؟

الخلاف كما لا يخفى على القارئ الكريم ليس في أصل التصوف، وكما قيل لا مشاحة في الاصطلاح، وإنما الخلاف في الوسائل المستخدمة في التزكية، فقد توسع فيها الصوفية عن طريق شيوخ التربية والزوايا، ووضعوا لها أصولا وفروعا.

وعليه ظهر النزاع، فالسلفية مثلا ترى في هذه الوسائل بأنها بدعة وزيادة في الدين، ومنهم من بالغ حتى أوصلها إلى الشركيات لما لحق بها من توسل بالقبور والأموات كما سيأتي بعد قليل بيانه – بإذن الله تعالى- راجع مثلا: فتاوى ابن تيمية، وفتاوى علماء نجد وخاصة ابن عبد الوهاب، والشيخ محمد بن إبراهيم مفتي الديار السعودية قبل ابن باز، وانظر التطور الفكري في الحكم على الصوفية عند السلفية.

أما الإباضية فيصعب تعيين موقفهم مع عدم قراءة التطور والتداخل التأريخي والمكاني، فلا بد من ربط التصوف عند الإباضية بالتأريخ والمكان.

بداية الإباضية كما قلنا متفقون في أصل التصوف، وعليه الإباضية المتقدمون لم يتحدثوا بصورة كبيرة عن الوسائل لعدم اختلاطهم المباشر والكبير بالصوفية، عدا بعض التأثر عن إباضية المغرب كما نلاحظ عند الإمام الجيطالي واختصاره لكتاب إحياء علوم الدين للغزالي، في كتابه الشهير بقناطر الخيرات، وحتى مسماه في الحقيقة مسمى صوفيا، حيث اختلط إباضية المغرب ببلاد الأندلس منذ فترة مبكرة، وإن كان لا زال التصوف حينها في بكوريته.

وعليه الخلاف أكبر ما يكون في التوسل بالأموات هل يجوز أو لا، وهذا الخلاف موجود في المذهب، شريطة دون اعتقاد أن المتوسل به واسطة أو يسمع فيدعى عند القبر، وإنما ذكر ذلك جملة كالتوسل بجاه النبي ومكانته عند الله تعالى، ومع هذا أغلب الإباضية لا يرون ذلك، لما في التوسل من خاصية بالله تعالى، فيقصرونه على أسماء الله الحسنى، ولكنهم لا يشرّكون من فعل ذلك مجتهدا أو مقلدا لمجتهد خلافا للسلفية.

والآن نأتي إلى الجانب التأريخي، فكما لا يخفى أن قوة التصوف كانت مع الدولة العثمانية، وكانت الدولة العثمانية وريثة للأيوبيين والمماليك في مصر، وقد ورث هؤلاء أيضا بعض الوسائل من الدولة الفاطمية، واستغلت الدولة العثمانية بجانب المماليك والأيوبيين التصوف كمنهج سني يقابل المنهج الشيعي، ومع مرور الأيام ظهر في التصوف من الزيادات ما ينكره أهل التصوف أنفسهم.

ولا شك بما أن الدولة العثمانية كدولة عظمى، وقد اختلط التصوف بالفلسفة، سيحدث تأثر كبير من قبل الإباضية أيضا، فالتصوف حينها لم ينظر إليه نظرة دونية كما فعلته السلفية حولها حاليا، بل كانت مدرسة سلوكية، وإن اتخذت من المذهب الأشعري غالبا عقيدة لها، وإلا فالتصوف في الجملة لا يعرف مذهبا، كما أن السلفية كحركة موجودة عند جميع المدارس الإسلامية، وليست مختصة بأهل الحديث.

عموما هناك منهجان للتصوف تأثر بهما الإباضية: المنهج الأول سلوكي عرفاني، وهذا ظهر في زنجبار وبلاد المغرب، نتيجة التأثر بالمد الصوفي بقوة، وعن قرب، فانتشرت الموالد مثلا عند الإباضية، وإلى اليوم خاصة الذين رجعوا من زنجبار إلى الوطن الأم عمان لا زالوا يقرأون البرزنجي، وهو منهج صوفي في الأصل لعالم شافعي أشعري، والإمام أبو مسلم وضع منهجا آخر وهو كتاب النشأة المحمدية، وعليه تُحمل أشعار أبي مسلم في التوسل والجانب السلوكي.

أما إباضية عمان فكان سلوكيّا عرفانيّا اختلط بالجانب الفلسفي ولو في شكله البسيط، لأن كبار الفلاسفة حتى عند الغرب كان لهم منحى صوفيا، فتأثر بفلسفتهم علماء عمان في فترة متأخرة، كالإمام جاعد، وابنه العلامة ناصر، والشيخ سعيد بن خلفان، فظهرت بعض آثار الصوفية كمساجد العباد، والخلوات، وزيارة القبور للتأمل والتفكر.

ولكن تطور الأمر عند عوام الإباضية في قضية القبور خاصة، فأحدث انقلابا مخيفا وهو الدعاء والتشفع بالأموات دون فهم قضية التوسل أصلا، من هنا شن الشيخ صالح بن علي الحارثي حملة شديدة على هؤلاء، وإذا قرأت فتواه في عين المصالح من أجوبة الشيخ صالح تجدها تقترب جدا من فتوى الشيخ محمد بن عبد الوهاب النجدي.

والشيخ صالح تأثر به تلميذه الإمام السالمي، فحاول التصحيح كالنكير لملازمة بعض الأوراد ونحوها كما في أجوبته، وتعجبه من علم السر ونحوه، وعليه تأثر نوعا ما تلاميذه من بعده مع بقاء بعض الصور كالاهتمام بالقبور والأولياء والكرامات ونحوها، حتى جاء سماحة الشيخ أحمد الخليلي فحاول أن يصحح بعض الأفكار، كما في قضية القبور وبعض الكرامات [انظر إعادة صياغة الأمة].

عموما مرة أخرى نركز على التأريخ فالصوفية تأريخا وبسبب قوة الدولة العثمانية، ومن سبقها أو عاصرها في بعض فتراتها من الأيوبيين والمماليك والأمويين في الأندلس لم تكن مذمة، وهذا سيؤثر بلا شك على بقاقي التوجهات الإسلامية، وسيحاولون أن يبينوا جانب التصوف عندهم.

واليوم بسبب القوة السلفية أصبح التصوف رهين سلوكيات سيئة، وهذا بلا شك أيضا سيؤثر كمصطلح صوفي عند المدارس الإسلامية، ويتحول من مدح إلى ذم، ومن تزكية إلى شرك!!!

وإن كان الآن تحاول بعض الدول السنية دعم التوجه الصوفي كما في مصر وبلاد الشام والمغرب، كبديل للمنهج السلفي، وهذا سيعيد التوازن في فهم التصوف الحق، إذا وجدت دراسات جادة في نقد السلوكيات الخاطئة عند الصوفية ذاتها.

خلاصة ما تقدم لا يمكن دارسة التوجة الإباضي بمعزل عن الجانب التأريخي والفلسفي في قضية الصوفية، بسب التغير التأريخي الذي تقدم في الصوفية ذاتها وفي فلسفتها ونظرتها للوجود، والمقال عموما بحاجة إلى بحث أوسع، فهذه من قبيل القراءة السريعة كمدخل للموضوع.

فيسبوك 1434هـ/ 2014م

السابق
نعمة الغيث وإلقاء النفس في التهلكة
التالي
الإمام ابن تيمية ت (728هـ) ورؤية الجانب العكسي في التلاعب بالعقل الباطني في مسألة الكرامات
– تنويه:

عدد من الصور المستخدمة للمقالات مأخوذة من محرك google

اترك تعليقاً