المقالات الدينية

الأشهر القمريّة وجدليّة الهلال

جريدة عُمان 1443هـ/ 2022م

يتكرر الجدل والنّزاع سنويّا على وسائل التّواصل الاجتماعيّ بشأن هلال دخول شهر رمضان والخروج منه، في حين لا يكاد يذكر في الأشهر الأخرى عدا حالات بعيدة في شهر ذي الحجّة، والسّبب في عدم إثارتها في الأشهر الأخرى عدم ترتب طقوس فيها واضحة كالصّيام والحج، ولأنّهم يرجعون إلى الرّؤيّة الفلكيّة في دخول الأشهر والخروج منه كما في التّقاويم، كما يحتكمون إليه في صلواتهم الخمس.

وأغلب الّذين يجادلون ويناقشون، ويثيرون النّزاع سنويّا لا يناقشون سبب الخلاف، ومنهم لا يدرك ذلك، وسببه يعود إلى التّقويم والرّأي الفلكيّ من جهة، وإلى الرّأي الفقهيّ المعتمد عليه في سياسة دولة ما من جهة أخرى.

أمّا الرّأي الفكليّ من حيث التّقاويم فينقسم إلى قسمين: قسم يكتفي بمكثه بعد الغروب إما برؤية حسابيّة أو جارحة كالتّلسكوب أو بالباصرة أي العين المجردة، فهو لا يشترط الرّؤية الفقهيّة المعلّقة على رؤية الباصرة فقط، حتّى ولو كان عمر الهلال أقل من اثنتي عشرة ساعة.

وقسم يشترط إمكانيّة رؤية الباصرة، معتبرا رواية: “صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته؛ فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين” أصلا لتحقق المناط، ولهذا يشترطون ثلاثة شروط، من حيث عمر الهلال، أي يكون عمره أكثر خمسة عشر ساعة لإمكانيّة رؤيته بالباصرة، وأن يمكث أكثر من نصف ساعة، وأن تكون درجة الزّاوي ممكنة لرؤيته من حيث البعد، وانعكاس أشعة الشّمس عليه.

والفريق الأول ليس بالشّريطة غير متبني لرواية الرّؤية في الجملة، لكنّه محقق ذلك بما أسلفنا، لهذا يظهر الخلاف في التّقاويم من هذه الجهة، ومن جهة أخرى حسب المعيار المستخدم، أهو معيار مرصد جنوب أفريقيا، أو معيار يالوب، أو معيار عودة، وإن كان معيار عودة أرقاها، لكن خلاف المعايير ليس بذاك التّأثير، لتطوّر الحساب الفلكي، لهذا أرى تقاويم القسم الأول أدق من تقاويم القسم الثّاني المشترط لدرجة الرّؤية؛ لأنّ الرّؤية الحسابيّة هي الأصل، لقوله تعالى: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} [الرّحمن/ 5]، لهذا كانت رؤية الباصرة قديما هي وسيلة لتحقق الرّؤية الحسابيّة لا غاية، فلمّا تطوّرت وسيلة الجارحة كانت أدق، بيد أنّ الرّؤية الحسابيّة اليوم أصبحت دقيقة وقطعيّة، ولسنا بحاجة إلى الوسيلة كانت جارحة أم باصرة لتحقق الغاية.

لهذا ندرك أنّ الخلاف الفلكي أقرب إلى الجانب الشّكليّ منه الجانب الجوهريّ، وإنّما الخلاف في الرّأي الفقهيّ، والسّياسات المعتمدة عليه، فهناك من يرفض حتّى اليوم ليس فقط الرّؤية الحسابيّة، بل حتّى الرّؤية بالجارحة، والوسائل المتطوّرة، ويرى الحساب ظنيّا أقرب إلى التّنجيم، وتحقق دخول الشّهر بالرّؤية البصريّة، وهي الأصل الّذي لا يعدل عنه.

وفريق آخر يرى الجمع بين الحساب ورؤية الباصرة، فهو لا يختلف عن الرّأي الأول، حيث يرى أيضا تحقّق دخول الشّهر بالرّؤية البصريّة، ووسيلة الجارحة يستانس بها هي والحساب في الإنكار وليس الإثبات، أي إذا قرر الحساب استحالة الرّؤية للأسباب الثّلاثة السّالف ذكرها المبنية على ولادة الهلال ومكثه وبعده عن الشّمس، مع صفاء الجو، فإن تقرر إمكانيّة رؤيته مع صفاء الجو قبلت الشّهادة، وإن قرر الحساب استحالة الرّؤية أخذ به، ولكن يبقى الجدل يظهر بين فترة وأخرى حال إمكانيّة الرّؤية لفترة محدودة، مع عدم صفاء الجو، فيتضارب هنا الوضع في الشّهادة.

وفريق ثالث وهو قليل يرى الاعتماد على الحساب الفلكيّ إثباتا وإنكارا، والإنكار هنا من باب التّوكيد، وإلا فالرّأي مطلقا للعلم لأنّه قطعيّ، ومحقّق للغاية، والوسائل تتطوّر بتتطوّر العلم، فكما تتطوّر العلم في وسائل تنقل الإنسان واختصاره للزّمن؛ كذلك تطوّر في تحقق وسيلة رؤيته للهلال، وهذا القول في نظري أقرب إلى العقل والعلم والكتاب، فالمنطق طبيعيّا يدركه، والعلم هو الأصل، وكيف وقد أصبح قطعيّا في الحساب، ولأنّ سنن الكون واحدة، ومساراتها واحدة، وهذا ما يؤكده الكتاب: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ، لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس/ 38 – 40].

واليوم أصبح يعتمد الحساب في الصّلوات، وعدد الوفاة والطّلاق والقضاء، وباقي الشّهور القمريّة، فلم يضيق في رمضان وذي الحجّة؟!!!

ثمّ الخلاف الفقهيّ الثّاني في قضيّة اختلاف المطالع، فهناك من يرى لكلّ دولة هلالها، وهناك من يرى اشتراط جزء من اللّيل، وهناك من يرى الهلال الواحد للجميع، وفي نظري اختلاف المطالع بالنّسبة للدّول المشتركة في اللّيل أو غالبه أو حتّى جزء منه بعيد عن العلم، ولا يمكن استحضار رواية كريب من “أنّ أم الفضل بنت الحارث بعثته إلى معاوية بالشّام، قال: فقدمت الشّام، فقضيت حاجتها، واستهل عليّ هلال رمضان وأنا بالشّام، فرأينا الهلال ليلة الجمعة، ثمّ قدمت المدينة في آخر الشّهر، فسألني ابن عباس، ثمّ ذكر الهلال، فقال: متى رأيتم الهلال؟ فقلت: رأيناه ليلة الجمعة، فقال: أأنت رأيته ليلة الجمعة؟ فقلت: رآه النّاس وصاموا وصام معاوية، قال: لكن رأيناه ليلة السّبت، فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين يوما، أو نراه، فقلت: ألا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ قال: لا، هكذا أمرنا رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم”.

والرّواية طبيعيّة ظرفيّة في زمنهم، فالمسافة بعيدة بين المدينة والشّام، ولا توجد وسائل إيصال الخبر إلا بسرعة الفرس، وهذا يحتاج ذاته إلى وقت، بل حتىّ على مستوى القطر الواحد يتعدّد الاختلاف وهذا شيء طبيعيّ، لكن ليس من الطّبيعيّ أن تسقط الرّواية اليوم على عالم يشترك في أغلب اللّيل أو بعضه، بل في عالم واحد مشترك في حسابه، وينقل أخباره بذات الثّانية، وكيف إذا كان العلم متقدّما لحساب سنوات قادمة أيضا ولو لعشرات السّنين.

لهذا ما نراه من خلاف اليوم في الدّول الإسلاميّة في جملته يعود إلى الآراء الفقهيّة، المتعلقة برؤية الهلال من جهة، وبوحدة واختلاف المطالع من جهة ثانية، بيد أنّ المشترك بين الجميع أمران: تعظيم الشّهر الفضيل، فالكل يعظّم الشّهر، ولا يريد انتهاك شيء منه، إرضاء لساسة، أو رغبة في التّميز، لهذا كان المشترك في دليل رواية الرّؤية مشتركا في الجملة بين الجميع، إلا أنّ فهومات الرّواية، وعوارض الحساب إنكارا المستخدمة معها، ثمّ الاختلاف في تحقّق إنزالها، وارتباطها باختلاف المطالع؛ يجر هذا إلى الاختلاف الّذي نراه سنويّا.

بيد أنّ هذا الاختلاف لا يعني عدم تعظيم الشّهر، بل صوريّا ناتج من ذلك، كما أنّه عمليّا لا ينبغي أن يقود إلى النّزاع والاختلاف والسّباب، كما نراه في وسائل التّواصل الاجتماعيّ، على أنّ الّذي يصل إلى الله هو تعظيمنا لشعائره، وتقوانا له، وليس ظاهر الطّقوس، بقدر ما هي وسيلة طقسيّة لتحقق ذلك، كما في آية القربان في الحج: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} [الحج/ 37].

ومع احترامي لجميع الآراء، وإن كنت لا ألتفت إلى هذه القضيّة، إلا أنّه من المؤسف إهمال العلم، ونحن في القرن الحادي والعشرين الميلادي، ومع وضوح آيات القرآن الكريم، في جعلها سننيّة وفق نظام كونيّ متناسق، ولهذا كنت دقة الآية التّكليفيّة {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة/ 185]، والشّهادة زمنيّة مرتبطة بتطوّر الوسيلة، ووسيلة العلم الحسابي اليوم تناسقت مع مدار نظام الكون {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ}، فلا ينبغي العودة إلى الوسيلة الأولى وهي الوسيلة الطبيعيّة في زمن نزول التّكليف، لعليّة “نحن أمّة أميّة لا نكتب ولا نحسب” يومها، فأصبحنا اليوم نعيش في حضارة الكلمة فيها للعلم، خاصّة علم الفلك أصبح دقيقا ومدركا للجميع، وهذا من آيات الله، وكما يعظّم من خلال شعائره، فلا أقل أن يمتثل لهذه السّنن الكونيّة الّتي كان عليها مدار الكون، ومنها الشّمس والقمر، ولا يكون ذلك إلا بتعظيم العلم، وإذا اعطي العلم كلمته ضاق الخلاف بين الجميع.

السابق
الاحتراب والإنسان
التالي
اليمن من الاحتراب إلى الإحياء
– تنويه:

عدد من الصور المستخدمة للمقالات مأخوذة من محرك google

اترك تعليقاً