عندما تدخل مسجدا تعجب من مسألة فقهية خلافية من قرون الصحابة، فتعجب من الإسراع إذا كان المفتي أو المجيب أو الهيئة المفتية ترى التضييق فيها، فتجد الإسراع في إطلاق لفظة حرام، مع احتمال الرأي الآخر.
والله تعالى يعلمنا الأدب معه، فهو المحلل والمحرم، ودائرة التحليل والتحريم دائرة ضيقة مغلقة بينها في كتابه بيانا واضحا شافيا، فيقول سبحانه منكرا على مسيء الأدب معه سبحانه من المشركين: وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ.
ونسبة التحليل والتحريم إلى الله سبحانه وتعالى نسبة غيبية، وهذه لإثباتها بحاجة إلى دليل قطعي متواتر، من هنا نجد الله سبحانه وتعالى يقرن بين التقول بلا علم والشرك معا، فيقول في سورة الأعراف بعد الحصر بأنما: إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ.
وإذا كان النهي عن اتباع الظنّ في قوله تعالى: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ، فالتقول عن طريق الظنّ أولى بالمنع لأنه أعلى درجة من الفعلية.
وأنا أقلبُ كتابَ الجامع في السنن والآداب والمغازي والتاريخ لأبي محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني، المتوفى سنة 386 هـ، نجده يذكر رواية عن إمامه إمام أهل المدينة مالك بن أنس الأصبحي المتوفى 179 هـ، يقول: قال مالك: لم يكن من فتيا الناس أن يقال: هذا حلال وهذا حرام، ولكن يقول: أكره هذا، ولم أكن لأصنعه، والناس يكتفون بذلك.
ويواصل حديثه قائلا: وفي موضع آخر كانوا لا يقولون حلال ولا حرام إلا لما في كتاب الله تعالى[1].
وكلام مالك هنا يأخذ أبعادا عديدة، نجملها في أربعة، زماني ومكاني ورتبة ومنزلة.
أما البعد الزماني فيتمثل في تقدم مالك بن أنس من حيث الطبقة الزمانية، فهو كما أسلفنا توفي سنة 179 هـ، أي في عهد هارون الرشيد خامس خلفاء الدولة العباسية 170- 193هـ، فهو من طبقة صغار التابعين، والذين تتلمذوا على كبار التابعين وصغارهم أيضا، حيث ولد سنة: 93هـ، ومن كبار التابعين الذين أخذ عنهم الإمام ابن هرمز العالم المتكلم في علم الكلام، والمتوفى سنة: 148هـ، كذلك الإمام نافع مولى ابن عمر، والمتوفى سنة 117هـ، والإمام ابن شهاب الزهري المتوفى سنة 124هـ.
وهذه الطبقة من التابعين أخذت عمن تقدمهم من التابعين أو ممن أدركوا من الصحابة، وهؤلاء أخذوا عن كبار الصحابة، وعليه هذا الأدب في التعامل في قضية التحليل والتحريم عندما يقول الإمام مالك: لم يكن من فتيا الناس أن يقال: هذا حلال وهذا حرام، ولكن يقول: أكره هذا، ولم أكن لأصنعه، والناس يكتفون بذلك؛ إنما أخذوه من أساتذتهم كبار التابعين وصغارهم، وبدورهم أخذوه عن الصحابة، وهؤلاء فقههوه من تعاليم القرآن الكريم، وتطبيقات الرسول الأعظم عليه الصلاة والسلام.
وهكذا كان الحال عند المدرسة الإباضية، فلا ترى مثلا في المدونة الصغرى فيما يرويه الإمام أبو غانم الخراساني المتوفى 200هـ، روى فيها عن شيوخه، وأهمها عن أبي المؤرج عمر بن محمد القدمي المتوفى في القرن الثاني الهجري عن أبي عبيدة مسلم بن أبي كريمة المتوفى سنة 150 هـ؛ حيث لا ترى التسرع في التحليل والتحريم، بل يأتون بعبارات أخرى، مثاله: سألتهما أي أبا المؤرج وأبا سعيد عبد الله بن عبد العزيز البصريّ المتوفى في أواخر القرن الثاني الهجري: أيمضغ الرجل العلك وهو صائم؟ قالا: لا نحب ذلك له، فلم يقولا له حرام، وإنما تأدبا في الرد، وهكذا شاع عند المدرسة كقولهم: يعجبني، لا يعجبني، لا أحبذه، هذا ما أراه وانظر فيه، وخذ بعدله، ونحو ذلك من العبارات.
أما البعد المكاني فهذا يعود إلى المدينة المنورة، ففيها وفد الناس للتلمذ على يدي الرسول عليه الصلاة والسلام، وفيها عاش أكثر الصحابة، والخلفاء الثلاثة، أبو بكر 11 – 13هـ، وعمر 13 – 23 هـ، وعثمان 23 – 35هـ، وعاش فيها علي 35 – 40هـ غالب حياته، من هنا سيفد إليها الناس للتلمذ ومعرفة سنن الإسلام على أيدي الصحابة، وللتسليم على قبر النبي عليه السلام وزيارة مسجده للصلاة والذكر فيه والتعلم والتتلمذ.
وبما أنّ الإمام مالك عاش في المدينة، وفي فترة مبكرة جدا، ففي هذا أشارة واضحة، وتقعيد للمنهج الذي كان عليه فقهاء الأمة، من صحابة وتابعين، والذي شربوه من معين القرآن، وكان قدوتهم في ذلك النبي عليه الصلاة والسلام، فالتهيب من التسرع في إطلاق الحلال والحرام، إنما ناتج من تربية الخوف من التقول على الله تعالى بغير علم، ولا هدى، ولا كتاب منير، من هنا اكتفوا بما لم يرد في كتاب الله تعالى بقولهم: أكره هذا، ولم أكن لأصنعه.
أما بعد الرتبة فناتج – حسب نظري – عن مكانة المدينة خصوصا بفقهائها السبعة، والذين جعلهم عمر بن عبد العزيز 99 – 101 هـ مستشاريه المقربين، وهم: عروة بن الزبير بن العوام الأسدي القرشي المتوفى سنة 80هـ، والشهيد سعيد بن المسيب المخزومي القرشي المتوفى سنة 94هـ، والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق المتوفى سنة 102هـ، وخارجة بن زيد بن ثابت المتوفى سنة 99هـ، وأبو عبد الله عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي مفتي المدينة المتوفى سنة 93هـ، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث المخزومي القرشي المتوفى سنة 94، وأبو أيوب سليمان بن يسار، مولى أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث المتوفى سنة 104هـ.
وأضاف البعض إليهم سالم بن عبد الله بن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب المتوفى سنة 106هـ، وأبا سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف القرشي الزهري المتوفى سنة 104هـ، وأبان بن عثمان بن عفان الأموي القرشي المتوفى سنة 105هـ.
فهؤلا وإن لم يتتلمذ عليهم الإمام مالك، إلا أنه عاصر وجالس تلاميذهم، وعليه لا يمكن أن يقول مالك ويقرر تعامل الناس في قضية لفظة التحليل والتحريم من فراغ، فهؤلاء الفقهاء من حيث الأغلبية أبناء صحابة، ومنهم أبناء كبار الصحابة ومواليهم، وعليه كلام الإمام مالك له مكانته من حيث الرتبة.
وأخيرا نقف مع بعد المنزلة فهذه تتمثل في منزلة الإمام مالك ذاته، فهو جمع بين أمرين الفقه والرواية، لذا لكلامة قيمة كبيرة ينبغي الوقوف معها، وهو ذاته يشدد في الرواة الذين ينقل عنهم الخبر، فلا يكفي فقط توثيقهم، بل لا بد من علمهم وفقههم، قيل لمالك: أيؤخذ ممن لا يحفظ الأحاديث وهو ثقه؟ – ولعله قصد من لا يفقه -، قال: لا، قيل: يأتي بكتبه قد سمعها، قال: لا تؤخذ منه، أخاف أن يزاد في كتبه بالليل.
وهذا المنهج هو ذاته الذي كان عليه الإباضية، حيث يشترطون أن يكون الراوي جامعا بين أمرين الفقه والرواية، لذا نجد جميع شيوخ ورواة الإباضية فقهاء، وعلى رأسهم شيخ المذهب أبو عبيدة الكبير مسلم بن أبي كريمة المتوفى سنة 150هـ.
وبعد هذه الإلمامة السريعة يمكن أن نقعد مسألة التلفظ بالحل والحرمة، وفي نظري الضعيف لابد لإطلاق هذه اللفظة من شروط أهمها:
- أن يكون مصدرها قطعي الثبوت، وهذا يتمثل في القرآن الكريم، والسنة العملية المجمتع عليها، لأنّ في هذا نسبة إلى الله تعالى، وعلم الله غيبي لا يضاف إليه عن طريق الظنّ.
- أو يؤدي فعلها إلى حرام قطعا، كالمواقع الإباحية التي تعرض الحرام علانية، أو من مقدمات الفعل المحرم، كتقبيل المرأة الأجنبية.
أما ما لم يكن ذلك، وكان مستقلا بذاته من حيث الورود الظني، أو لا يترتب عليه من فعله الوصول إلى الحرام، فالأولى هنا التأدب وعدم إطلاق الحرمة مباشرة أو الحل، وإنما يأتي بعبارات الأعجاب أو الكره ونحوه، مما هو دون الحلال والحرام.
ومع ذلك نحترم رأي من توسع من الفقهاء والعلماء باعتبار اللغة وسعتها خصوصا، ولكن نرى الرجوع إلى السنة العملية الأولى عند السلف أولى، لتساهل الصبيان والعوام والوعاظ في التسرع في التحليل والتحريم، دون التأني والتروي في ذلك، والله أولا وآخرا من وراء القصد.
الثلاثاء 9 من صفر 1433هـ . الموافق 3 من يناير 2012م.
[1] كتاب الجامع لأبي محمد القيرواني، تحقيق محمد أبو الأجفان، وعثمان بطيخ، ط مؤسسة الرسالة، بيروت/ لبنان، الطبعة الثالثة، 1406 هـ/ 1985م، ص 148.