المقالات النقدية

قراءة في بعض جوانب المطارحة مع سعادة الشيخ أحمد بن سعود السّيابيّ بمجلس الجلندى بن مسعود في سمائل

تقرأون في هذا المقال:

أولا: قضية الإسلام هو الحل!!

ثانيا: الدّولة المدنيّة والدّولة الدينيّة.

ثالثا:  الأحزاب السياسية وقوله تعالى: وكل حزب بما لديهم فرحون.

رابعا: مرحلة التّقريب بين المدارس الإسلاميّة.

خامسا: زيارة القدس والمسجد الأقصى.

سادسا: مسألة الجزية وقضية المواطنة.

سابعا: قضية التّصوف عند الإباضية.

نص المقال:

حضرتُ قبل الأمس أي الثّلاثاء مطارحة فكريّة في جزئها الثاني مع سعادة الشّيخ أحمد بن سعود السّيابيّ، وذلك في مجلس الإمام الجلندى بن مسعود بفيحة بولاية سمائل.

والمطارحة كانت عالية في المستوى العلمي والمعرفيّ، ويعود ذلك إلى الإرادة الدّاخليّة لمن أعدّ هذه المطارحات في الرّقيّ بالمستوى المعرفي داخل المؤسسة الدّينيّة أولا، والمجتمعيّة ثانية، ومن جهة العمق المعرفي والقرائي الّذي كان عليه مدير الجلسة الأستاذ مروان الذّهليّ، مما أعطى للحوار عمقا ونكهة أخرى غير مألوفة عادة، وفوق هذا يعود إلى الفكر المنفتح والمتنور الّذي عليه سعادة الشّيخ السيابي – حفظه الله تعالى -.

وسعادته في الحقيقة بحاجة إلى جلسة مراجعات أكثر منها مطارحات، فهو يضمّ في جعبته الكثير، ولو كان له من الوقت والفراغ، وانبرى له البعض لأخرج الكثير من المراجعات خصوصا على المستوى الإباضي والتّأريخ العمانيّ.

عموما لست هنا بغرض التّعقيب والتّحليل للمطارحة وقد تضمنت الجوانب الثّلاثة السياسة والتصوف والدّعوة، ولكني أشير إلى بعض الجوانب الّتي قد أراها من منظور آخر قد يوافق الشّيخ، وقد يخالفه، وقد يوافقه في بعض أجزاء القضيّة، ولم يكن يتسع الوقت بالأمس لطرح الآراء لكثرة المداخلات والأسئلة.

أولا: قضية الإسلام هو الحل!!

وهذا طرح أولا في بيان الجانب السّياسيّ، والجملة شعار أكثر ما استخدمه الإخوان المسلمون في بدايات القرن العشرين، والسّؤال الّذي طرحته بعد المطارحة كمداخلة مني: أي نظام أو تجربة سياسية نريد، فالنّظريّة السّياسيّة تختلف عند الإباضيّة وكذا الحال عن القرشيّة السّنيّة والشّيعة الإماميّة وفق ولاية الفقيه وانتظار المهدي المنتظر، وللزّيديّة أيضا نظريتهم في الجانب السّياسي.

وعليه لو قلنا إن الحل يقصد به القرآن والسّنة لاختلفت التّفاسير القرآنيّة في ذلك، بجانب الرّوايات المشكلة للسّنة عند المدارس الإسلاميّة.

من هنا سيعيش المجتمع الإسلامي في داخله في صراع بسبب اختلاف مفهوم الدولة عنده، وكلّ فريق يدعي أنّه هو الإسلام!!!

ولهذا لابدّ من التّفريق في العقل الجمعيّ بين قيم الدّولة الكبرى وبين التّفاسير البشريّة المفسرة للدّولة نتيجة تراكمات روائية وتفسيرية اختلط بها التّطبيق السّياسي بالتّأويل البشري.

وقد سبق أن كتبت في هذا مقالا عن نظرية الدّستور، وعبارة الدّستور هو القرآن ممكن الرّجوع إليه في صفحتي، ولا أعيد الكلام في هذا خشية الإطالة.

فنحن عندما نرمي عبارات مطاطيّة فنحن كأننا نرمي قنابل ملغمة، إذ يتصور البعض أنّ نظام الدّولة الحالية نظام كافر، فيكفر الدول والحكام والعاملين فيها، كما يحدث عند بعض الجماعات المتطرفة.

فهناك قيم كبرى إلا أنّ التّفاسير ستختلف، والإنزال سيختلف تلقائيا!! وكل ذلك صنع بشر، وليس وحيا يوحى!!!

فالدولة في جملتها كائن بشري متطور في آليتها ودساتيرها، ولا علاقة لها بالأديان والمذاهب في الجملة!!

ثانيا: الدّولة المدنيّة والدّولة الدينيّة

سبق لي أن كتبت مقالا في هذا نشرته أثير بعنوان الدّولة الدّينيّة والدّولة المدنيّة في الكتابات العربيّة مع الرّؤية القرآنيّة [http://www.atheer.om/archives/11960/] ممكن الرّجوع إليه.

وبينت أنّ المصطلح ضبابي، وبينهما تداخل كبير جدا، ولا يمكن بحال إسقاطه هكذا على التّأريخ السابق، وإلا لظلمنا أيضا تأريخنا!!

وعلى العموم الّذي أراه أنّ عمان في تأريخها جمعت بين دولة الفقهاء، ودولة الملوك والسّلاطين، أمّا دولة الفقهاء ففي أغلب تأريخها تميزت بالضّعف، وأحيانا قليلة بالقوة، وقد تنحدر من دولة فقهاء إلى الانحياز القبلي الوراثي، كما حدث في الإمامة الإباضيّة الأولى، وقد تتحول إلى دولة أشبة بالملكيّة والسّلطانيّة كما في دولة اليعاربة، أمّا إمامة الإمام عزان ت 1870م، وإمامة الإمام سالم بن راشد ت 1338هـ وحتى الإمام غالب ت 2009م؛ فلم تكن الدولة ذات مفهوم سياسي واضح؛ بل كانت أقرب إلى الرّابطة التي خلصت العمانيين خاصة الأخيرة من صراع الحزبين الهناوي والغافري.

وهذا ما أشار إليه ضمنا العديد من الإصلاحيين في عمان وخارجها خاصة في فترة الإمام الخليلي ت 1373هـ/ 1955م، كما أشار إلى ذلك سليمان الباروني ت 1359 هـ / 1940م، والشّيخ هاشل المسكري ت 1968م والذي قال للإمام الخليلي: إنّ جباتك يدخلون فقراء ويخرجون أغنياء، وهو إشارة إلى ضعف الدّولة حتى في الجانب الاقتصادي في مورد الزّكاة، وهو ما يظهر من قاضي القضاة العلامة عامر بن خميس المالكيّ ت 1349هـ/ 1928م، ودلل على ذلك في فتاواه من حيث الحالة المزرية التي وصل إليها المجتمع العماني من ضعف، لدرجة أنّ النّاس يصعب عليها الإنفاق على الجند لحمايتهم لضيق ما في اليد، فأمر بالتّرخيص في أمور الأفلاج والبيوع وغيرها، للحالة التي وصل إليها النّاس!!

فضلا عن التأخر العماني في نظام الدولة المعاصرة، وإقامة المستشفيات والمعاهد والمدارس والطرق، وقد أرسل إصلاحيو ميزاب رسالة إلى الإمام غالب ت 2009م في تعزية الإمام الخليلي ت 1373هـ/ 1955م ونصحوه بالاهتمام بالدولة المعاصرة وبناء المدارس والمستشفيات والطرق [ينظر رسائل الشيخ البكري]، وقبلهم رسالة طويلة لأبي مسلم البهلاني ت 1920م للإمام سالم بن راشد الخروصي ت 1338هـ، وفيها: [فاجهد جهدك مولاي في هذه الخطة، واجمع خيار المسلمين وعلماءهم وزعماء القرى والبلاد وألزمهم بالنهضة العلمية، وأقم لهم الخطباء في الجمع والمحافل والمجتمعات يحثوهم على هذه النهضة ويبصرهم بسوء المغبة في البقاء على هذه الحالة الراهنة، وبحسن العاقبة والتقدم إذا تنورت هذه الأمة بالمعارف الدينية والعلوم الإسلامية ويكشفوا عن وجه رداءه الجهل].

من هنا حدثت ثورة في بداية الستينيات من القرن العشرين تطالب بإصلاحات برلمانية ومجتمعية، وتنادي بتشييد الطرق والمستشفيات في جميع عمان وقد نشرت ذلك الصحف ومنها إحدى جرائد البحرين وتوجد صورة من الخبر في إحدى متاحف المنامة بالبحرين، وإن كان الضعف الإصلاحي انتشر في الجانبين الإمامي والسلطاني عموما.

وبجانب التّحول القبلي في الإمامة، أيضا نجد الضعف التّأليفي والتنوع المعرفي كالفلسفة والعلوم العصرية لم تكن حاضرة، وهذا بخلاف دولة الملوك والسّلاطين، فأعظم الموسوعات والكتابات الأدبيّة ظهرت بقوة في دولة النّباهنة، كما أنّ دولة البوسعيد انتعشت علميا ومعرفيا خاصة في الشّق الأفريقيّ، وأكثر انفتاحا، وقوة سياسية، إذا ما استثنينا سياسيا دولة اليعاربة، خاصة في عهدهم الأول، وإن كنت أرى أنّ دولة اليعاربة تحولت إلى دولة ملك أكثر منها من دولة فقهاء، وإن كان الفقيه لازال حاضرا فيها وبقوة، ومع انتعاشها سياسبا إلا أنّها أيضا كانت ذات ضعف معرفي، وهو الّذي جعل أهل جربة بتونس بإرسال رسالة الشيخ عمر بن سعيد بن محمد بن زكريا الجربي التونسي ت (؟) للإمام بلعرب بن سلطان ت 1692م لإجل الإصلاح العلمي والمعرفي، وفيها: [فتأملت أحوال عمان، فوجدتها عجيبة الشأن، حسنة الشكل، كاملة الأوصاف، سوى أنّ مجالس الذكر ومدارس العلم فيها قليلة، والعلم سيدي كما لا يخفى عليكم يزداد بالاستعمال وينقص بالإهمال، ونقصان العلم ضرر في الدين عظيم، وما كان على النقصان يوشك زواله، وأخبرك يا نعم السيد ببعض أحوال أهل جربة من أهل هذه الدعوة في زماننا هذا مع ضعفهم وقلتهم وسوء حالهم، ومعهم من مدارس العلم ما يزيد على العشرين كل يعلم على قدر علمه، منهم من اقتصر على النحو واللغة وعلم الديانات ومنهم من تبحر في النحو واللغة والصرف والمعاني والبيان والمنطق والتوحيد وأصول الدين والفقه والحساب والفروض الشرعية والعروض الشعرية أعني الأوزان وما يتعلق بها من الزخارف وغيره ..] ينظر تحفة الأعيان للسالمي، الجزء الثاني.

عموما للتعامل مع التأريخ العماني والقديم يصعب إسقاط مفاهيم معاصرة كمفهوم الدولة المدنية والدينية، أو مفهوم الديمقراطية؛ لأنّها مفاهيم متطورة في مفهوم الدولة ذاتها، ومفهوم الدولة مفهوم متطور كتطور اللغة واللباس والعادات، ولكن ممكن التعامل معها من باب مفهوم دولة الفقيه ودولة الملك أو السّلطان سواء اقتربت من الفقيه أو ابتعدت عنه.

ثالثا:  الأحزاب السياسية وقوله تعالى: وكل حزب بما لديهم فرحون.

تطرقت المطارحة إلى قضيّة الأحزاب، وكان رأي سعادة الشّيخ سلبيا، ويرى أنّ الأحزاب معارضة للمنهج القرآني، وأنّها تقصي الآخر، واستد إلى دليلين، أولاهما قوله تعالى: فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ، والثّاني قوله تعالى: مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ.

والحقيقة أنّه لا علاقة بالآيتين وقضية الأحزاب، فالأحزاب منهج متقدم في الشّراك السّياسي، وهو يستند إلى دستور وقوانين محكوم بها، مع وجود قنوات أخرى في المجتمع المدني، والآيات التي حذّرت من الأحزاب كان في سياق التّفرق الديني، حيث يدعي كل واحد أنه الحق، ويفسد في الأرض بتكفير الآخر وسفك الدم، والمشاركة مع الله في الحكم، وإلا لو كانت الآيات على ظاهرها لكان الدفاع عن المذاهب والاعتداد بها أقرب إلى الحزبية التي نهى الله عنها في كتابه.

والمشكلة أننا في العالم العربي لا زلنا رهين المذاهب والطوائف والقبائل أكثر من كوننا في الحقيقة نؤمن بالوطنية والدولة المدنية، فمتى ما خرجنا من بوتقة المذهب والقبيلة والتوجه إلى فضاء القانون والوطن حينها ستكون الأحزاب في الحقيقة تصب في الشراك السياسي.

وكنت بالأمس مع باحثة أمريكية تزور عمان حاليا فخرج حديثنا إلى أمريكا، فقالت إنهم الآن يعيشون في خوف من الحزب الجمهوري؛ لأنّه يتجه بقوة إلى الإيدلوجية المسيحية المتعصبة، وقد يؤثر في التوازن الحالي ليس بسبب فكرة الحزب، ولكن في دعم مجلس الشيوخ أيضا للأيدلوجيات المتطرفة، مما قد يغير خريطة التوازن، ويخلق صراعا في الداخل الأمريكي وخارج أمريكا أيضا.

وما يحدث من ضعف مثلا عندنا في مجلس الشورى سببه أنّ الأعضاء تعودوا على العمل المجتمعي، ولم يتعودوا على الشّراك السياسي أصلا، ولا توجد صوالين ومجالس سياسية مشاركة وناقدة.

ولو تكونت الأحزاب عندنا لاتجهت للأسف ليس لدعم العمل الوطني بقدر ما تتجه للعمل المذهبي والطائفي والأيدلوجي والقبلي، وهذه مشكلة العقل الجمعي عندنا، فهو بحاجة أن يتحرر من هذه القيود والأغلال إلى فضاء الدولة والوطن للجميع، والإيمان بالتعددية كجزء تكويني لأي مجتمع بشري، ولا علاقة للعمل السياسي بالمذاهب والقبيلة والمصالح الفئوية!!

رابعا: مرحلة التّقريب بين المدارس الإسلاميّة.

تطرقت المطارحة أيضا إلى قضيّة الوحدة والتّقريب بين المدارس الإسلاميّة، وقبل أسابيع بسيطة نشرت في صفحتي مقالا بعنوان: نظرية الوحدة الإسلاميّة أو التّقريب المذهبي هل انتهت؟ ممكن الرّجوع إليه، وقبلها أيضا بسنتين تقريبا نشرت مقالا في جريدة عمان بعنوان: تجديد الخطاب الدّيني، تطرقت إلى المدرسة الإصلاحية والمدرسة التّجديدية ومن ثم المدرسة النّقدية.

المهم أنّ سعادة الشيخ – حفظه الله تعالى – يرى عدم قدرة المجامع في تحقيق التّقريب أو الوحدة لأنها نخبوية، والعديد من يشارك ليس لهم تأثير اجتماعي واقعي، كذلك أنّ السّياسات في العالم العربي والإسلامي ليست جادة، وممن يشارك ينادي بالتّقريب في المؤتمر ثمّ يناقض ذلك إذا رجع إلى بلاده!!

ولهذا رأيت أننا أولا وقبل كلّ شيء لابد من أنسنة المذاهب والاعتراف بحق الآخر في التّعددية قبل الحديث عن الوحدة، ولهذا قلتُ في مقالي: [ولكن في الحقيقة بعد أكثر من قرن كامل من المناداة برسالة الوحدة أو التّقريب إلا أننا في أقرب اختبار وهو الاندماج بين المدارس الإسلاميّة إعلاميا أو قيام حكومات سياسيّة تتكئ على الأطر الدّينيّة إلا أنّها فشلت في تحقيق الاعتراف بالآخر فضلا عن التّقريب أو الوحدة!!

فأخرجوا ما في بطون الكتب من خلافات، والّتي كانت تتدارس في زوايا المسجد أو المدارس والحوزات الدّينيّة بين طلبة العلم، فأصبحت تسقط على النّاس جميعا، حتى حلّ ما نراه اليوم من تفرق وتمزق ولعن وتكفير وإقصاء مذهبّي!!

بل تجد من ينادي بالوحدة أو التّقريب في المؤتمرات؛ هو نفسه من يزيد الشّرخ والتّفرق لأيّ خلاف سياسيّ أو مذهبيّ، فيخرج ما في قلبه لإرضاء مذهبه أو الحومات المتكئة على مذهبه!!!

إذا في الحقيقة نحن بحاجة قبل أن نتحدث عن الوحدة والتّقريب بحاجة أن نغوص أكبر في المفاهيم الخلقيّة الكبرى بداية من أنسنة المذاهب، وأنّ المذاهب جميعها بشرية، تطورت بتطور الفهم البشريّ، فلم ينزلها الله تعالى من السّماء، ولم يرسل من أسسها ليكونوا رسلا وأنبياء لا يخطؤون!!

فلمّا كانوا بشرا كان الخلاف واقعا، وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فالمذاهب صنع بشر وكتبها وفلسفتها ليست وحيا، فما عندي صواب يحتمل الخطأ، وما عندك خطأ يحتمل الصّواب.

وعليه لما نبني هذه القاعدة الكبرى في فلسفة الذّات قبل الغير، يصبح ما عندنا قابلا للنّقد، فلا نغضب إذا نقدنا علميا، ولنبدأ بنقد ذواتنا بقدر ما نفرح لنقد غيرنا!!

فلمّا يصبح العقل المجتمعي متقبلا لأنسنة المذاهب لا لتأليهها وجعلها أديانا في صورة مذاهب؛ سينطلق إلى القيمة الخلقيّة الأخرى وهي التّعارف: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ.

والتّعارف معناه الاعتراف بالآخر وحقه في مشاركتي في الوطن أو العيش في هذه الحياة، وعدم إقصائه بأي شكل من الإقصاء، وأنّ المذاهب طرق للعبادة وليست طريقا يعوق التّعارف والتجانس البشريّ في بناء الحياة وإصلاحها].

خامسا: زيارة القدس والمسجد الأقصى.

ذكر  سعادة الشيخ السيابي – حفظه الله – الخلاف الذي دار في إحدى المؤتمرات قبل سنتين حول زيارة القدس، فأغلب الفلسطينيين والأردنيين شجعوا على زيارة القدس والأقصى لتقوية الفلسطينيين في هذا المكان، وآخرون رفضوا ذلك بدعوى أنّ هذا اعتراف بالكيان الصهيوني في دولتهم (إسرائيل) ومشاركة في التّطبيع معها.

وقال سعادته إنّ سماحة الشيخ المفتي أحمد الخليليّ – حفظه الله تعالى – مال إلى الرّأي الثاني وهو المنع، بينما هو مال إلى الرّأي الأول.

عموما هذه القضية طرحت منذ سنوات طويلة، وكانت رسالة توزع في التسعينيات تحرم الزّيارة إلى فلسطين وأذكر من الموقعين سماحة المفتي والشيخ القرضاوي والمفكر سلمان العودة إن لم تخني الذّاكرة.

بينما المحدث الألباني ت 1999م عارض هذا الرّأي وشنّ عليه خصومه هجوما لاذعا، وبأنّه ينادي بإعطاء القدس لليهود!!

وشاء الزّمان أن يدور، وإذا بي ألتقي بأخوة من فلسطين في تونس قبل سنة وبضعة أشهر، وقالوا لي  إنّ الفتوى بالمنع أضرت الفلسطينيين في القدس، فهم بحاجة إلى من يتقوون بإخوانهم من السّياح والتجار العرب والمسلمين.

وعموما في نظري أنّ قضية فلسطين والقدس قضية فلسطينيّة بحتة، فالذي عاش تحت ظلّ الاحتلال غير من عاش آمنا في سربه، مطمئنا في نفسه ومجتمعه، لهذا أرى أنّ الرّأي ما يراه الفلسطينيون ومن هو قريب منهم كالأردنيين، ولو على مستوى النّخبة، فهم أعلم ببلادهم وحالهم، والباقي في هذا عالة عليهم.

سادسا: مسألة الجزية وقضية المواطنة.

من المسائل التي أثيرت في المطارح قضية الجزية والمواطنة، فيرى سعادته أنّ المواطن غير المسلم لا تؤخذ عليه الجزية كما هو حال المسيحيين في مصر؛ لأنّ المواطنة معناه الجميع يشترك في خدمة الوطن، ولا تفريق بينهم، وهم سواسية في الحقوق.

ومع النظرة التّقدمية لسعادته إلا أنّه لم يقدّم ربما لضيق الوقت تفسيرا منطقيا لقضية الجزية، وهوى أقرب إلى التفسير بأنها متعلقة بالمشاركة العسكرية، وهذا ما ذكرته في كتابي القيم الخلقيّة والإنسان حيث قلت: [أما عن الجزية التي شرعها الله تعالى فلابد أن تقرأ وفق السياق الذي وردت فيه، والجو الذي عايشته الآية، وإلا فهؤلاء جزء من الوطن، لهم حق العيش فيه، وعليهم ما على باقي المجتمع من واجبات، من هنا إن تلاعبوا به، وخططوا للإفساد فيه؛ فشأنهم كغيرهم يحاربون، وإن لزم الأمر حمايتهم في حالة الخوف منهم، وبعد الصلح معهم، فبإمكان الأمة أن تفرض عليهم الجزية وهم صاغرون، فتأمن الأمة من مكرهم وسوء نيتهم، وفي المقابل بإمكان الأمة أن ترفع عنهم المشاركة في الأماكن الحساسة كالجانب العسكري، مع وجوب حمايتهم، وتوفير الأمن لهم، فمن هنا سموا أهل ذمة، أي أنّ ذمتهم ورقابهم في أعناق المؤمنين، مقابل ما يأخذونه منهم.

وإن لم يكن هنا أي خطر فلا يؤخذ منهم شيئا، ولهم الحق في الشراك الوطني بكافة مؤسساته المدنية والعسكرية، ولا يجوز أن يجبروا على لباس معين مثلا، فهذا من الظلم الذي جاءت الشريعة الخاتمة برفعه، وإبدال الحوار والتعايش محله.

ثم بان لي خلافه لذلك قلت في الفهرس: هذا التفسير قلته سابقا معجبا ببعض تأويل المعاصرين، حيث وضعوا ذلك من باب التمرد، فاستحسنته تأويلا وتفسيرا، وأما الآن فيبدو لي – وهو الموافق بإذن الله تعالى لسياق واقع النّزول-  أنّ الجزية أقرب إلى العلاقات الدّولية لا المواطنة، ففي السابق – أي وقت نزول الآية – لم يكن عند العرب دولة بالمفهوم المعاصر، وإنّما كانوا أقرب إلى التجمع القبلي، فكانت القبيلة أشبه بالدولة، وغالبا ما تدين القبيلة بدين أو مذهب معين، وتشتهر به.

وعليه الجزية أقرب إلى العلاقات الدولية في حال العصيان والتعدي من جهة، وفي حال حماية تلك الدولة من جهة ثانية كما يعمل به اليوم.

وعليه لا يدخل فيه مفهوم المواطنة، فالمواطنة مبنية على ذاتية الإنسان وحقه المدني، ولا اعتبار لدين أو مذهب أو فكر، ويكون الجميع سواسية وفق القانون.

فلا معنى أن يفرق بين أحد لاختلاف دين، ويكون الجميع تحت الشراكة في بناء الوطن، والكل متساو في الحقوق والواجبات، فالمواطنون جميعا تحت ذمة من اختاروهم ليمثلوهم في الرئاسة، وهم في الوطن سواء، وفي الشراكة فيه سيان.

فكانت الدولة أقربَ اليوم بمفهوم القبيلة بالأمس، وعليه يظهر لي قراءة مفهوم الجزية وفق هذا السّياق]. ينظر: كتاب القيم الخلقية والإنسان لكاتب المقال.

سابعا: قضية التّصوف عند الإباضية

وهذه من المباحث التي فصل فيها سعادته، وذكر بداية التّأثر الإباضي بالتّصوف خاصة مع الشيخ الرئيس ت 1236هـ/ ى1847م، وحتى أبي مسلم البهلاني ت 1920م، وبقي بعض آثاره حتى وقت قريب، إلا أنّ هذا التأثر في جملته لا يتعدى التأثر السلوكي والوجداني منه التأثر العملي بالطرق والزوايا ونحوها.

ولا تعقيب على كلام سعادته فهو أخبر تأريخيا بهذا، إلا أنّ اللّفتة الجميلة كانت في مداخلة الدّكتور محمود الرّيامي – وفقه الله – في قضيّة الخوف من نقد تراث الشّيج جاعد، ولماذا أكثر كتبه لا زالت حبيسة ولم تطبع، ثم لماذا نقتصر على الجانب الوصفي ويغيب عنا في دراساتنا في المدرسة الإباضيّة الجانب النّقدي!!!

وعموما ما قاله الدكتور الريامي يحتاج إلى وقفات لا يتسع المقام للتعقيب حولها، وهي منطلقات مهمة، فقد سبق وأن أشرت إلى هذا حيث تكثر عندنا الندوات التأريخية، ومع كثرتها أغلبها احتفائي وصفي، بينما الخوف لا زال باقيا من نقد التأريخ وتراث ما يُحتفى به، خاصة إذا كان من بعض العوائل ذات التّأثير الديني مجتمعيا وسياسيا وتأريخا، مما يجعل من الحراك الفكري والنقدي في المدرسة الإباضيّة متأخرا جدا.

ونظرتي إلى الإباضيَة والتّصوف كتبت فيها مقالا عام 2013م، وسينشر في كتابي الجديد ومضات من المقالات الفيسبوكية، نأمل أن يرى النّور قريبا جدا.

هذا ما أردت التّعقيب عليه، وإلا فالمطارحة كانت مليئة كسابقتها بمراجعات الشيخ أحمد السيابي في المدرسة الإباضية والتأريخ العماني خصوصا، وهذه نقطة مهمة لكسر حاجز الخوف، ونقطة التقاء بين جميع الأطياف للانتقال إلى مراحل أهم، ورؤية أكثر توافقية وذات عمق في التحليل، وشمولية في النظر والنتاج.

كتبه بدر العبري

صبيحة الخميس 6 ربيع الثاني 1438هـ. 5 يناير 2017م

السابق
نوفمبر … الشهر الّذي كُفّر فيه مفدي زكريّا
التالي
حقّ الاختلاف وقيم التّسامح
– تنويه:

عدد من الصور المستخدمة للمقالات مأخوذة من محرك google

اترك تعليقاً