بداية الجانب الفني والدرامي تقدّم تقدّما كبيرا، والوقوف أمامه بين التوجس والحذر يرجع بنا إلى الوراء عقودا من الزمن، وهذا يذكرنا بفلم الرسالة لمخرجه الكبير مصطفى العقاد ت (2005م)، فمع الهجمة الدينية الشرسة ضده، والي دعّمت سياسيا، والتي كاد أن يكون ضحيتها حينها العقاد نفسه، إلا أنّ الفلم خرج إلى العالم كأفضل فلم تحدث عن النبي عليه الصلاة والسلام، والذي ترجم إلى عشرات اللغات، ودخل بسببه العديد في من الناس الإسلام، وأعطى الفلم لغير المسلمين صورة مشرفة عن الإسلام في حين عجز العشرات من العلماء والكتاب والدعاة تقديم ذلك! واليوم يعتبر حتى داخل المؤسسة الدينية من أفضل الأفلام عن النبي عليه الصلاة والسلام.
إذا المؤسسة الفنية اليوم ليست بحاجة إلى فتوى جواز أو منع، فقد شقّت طريقها، والناس ليسوا مغفلين لا يدركون النافع والضار، المهم هو توجيه العقول إلى قراءة العمل الفني قراءة نقدية لإيجاد البديل، وتصحيح الخطأ، أما لغة المنع والتحذير فلا أظن ستجدي شيئا في عالم اليوم، وفي ظل الحراك الإعلامي الكبير.
والناس افترقوا في حكم تجسيد الأنبياء (ع) إلى مذاهب شتى، ولا أريد هنا أن أبين الخلاف الفقهي حوله، ففيه آراء متعددة بين مشدد ومرخص، والمرخص بين مظهر لوجهه أو ساتر، والكل ينطلق من رأيه، لعدم وجود الدليل، والرأي له ميدانه الواسع، لا يجوز لأحد أن يدّعي أنّ رأيه هو الأصوب والأحسن مقيلا.
وإذا جئنا بداية إلى القصة القرآنية ذاتها نجدها تعتمد على أسس ثلاث: الجمال والخيال والحدث، فأنت عندما تقرأ قصة النبي موسى عليه السلام يبقى للنبي موسى مخيلة تتصوره في ذهنك يخالف مخيلة من يقرأه بجنبك، وهكذا في جميع الشخوص، بل جدك الخامس في مخيلتك غير عن الصورة التي في مخيلة أخيك.
والأنبياء عليهم السلام بشر مثلنا لهم عينان ويدان ورجلان وجسد، ويمشون ويأكلون ويضحكون ويبكون كغيرهم من البشر، إلا أنهم جاءوا برسالة خاتمة قويمة، فنحن نحاول تجسيد الأنبياء من خلال رسالاتهم، فنصدق ونحسن ونخلص ونعمل ونأمر بالمعروف وننهى عن المنكر تجسيدا حيويا لهم.
لذا أنّ الله سبحانه وتعالى خاطب أنبيائه كبشر، قال تعالى: وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا، أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا.
والعقلية هي العقلية لا تتغير، فأولئك لكون الرسول حيا بينهم، لم يخطر في بالهم أن يكون هذا البشر الذي يتصف بصفات البشر أن يكون رسولا، وهؤلاء نتيجة البعد الزمني، والموروثات الروائية والتأريخية لم يتصوروا في ذهنهم أن يكون مثلنا، فأولئك غالوا في الإجحاف، وهؤلاء غالوا في الإطراء، فتصور أولئك أن يكون الرسول غير الذي ترعرع بين جنباتهم مشى وركض وشرب وأكل، وتصور هؤلاء أنّ الرسول كائنا آخر في صورة بشر، كما تصور النصارى المسيح ابن مريم في صورة الله سبحانه، لذا قال تعالى عن أولئك: وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا.
لذا أخبر سبحانه أنّ هذا الرسول سيموت: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ، وحذّر من الانقلاب على الأعقاب بعد وفاة الرسول، ولصق الرسالة بذات الرسول، وإشراكه مع الله تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ.
وبين أنّ هذا الرسول سيسأل يوم القيامة شأنه كالبشر جميعا: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا.
وهذا لا ينقص شيئا من مكانة الأنبياء، ولا أحد أيضا يزايد في حبهم، بل الغلو فيهم إنقاص لهم، ورفعهم إلى منزلة الله تعالى، وإشراكهم في الحساب والقضاء وعلم الغيب والشفاعات إشراك مع الله تعالى المتفرد بذلك وحده، وهو في حد ذاته إساءة للنبي عليه السلام، كما فعل النصارى مع المسيح ابن مريم: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا.
والإنسان بطبعه ينقل روايات قيلت عن الأنبياء يظنها قطعا قالها النبي أو فعلها فيحاول تلقائيا يجسّد بعض حركاتها، فهل هذا الفعل يسيء إليهم (ع)؟!!!!
كما أنّ القاص والمربي قد يذكر بعض الروايات بطريقة تقرب الصورة، فيجسد النبي بحركات أو نغمات معينة، فهل في هذا إساءة إليهم أيضا؟!!!
كذلك بالنسبة للفنّ المسرحي أو التمثيلي أو الغنائي أو النحتي أو التصويري، فقد نأتي برمز لا نظهر منه شيئا فقط يرمز إلى كائن بشري يوما ما كان مثلنا نحن كذلك بنص القرآن، فقط يرسل بعض التعاليم الربانية، فهو نوع من التجسيد الروائي أو القصصي أو التأريخي لا غير، فأين الإساءة في هذا.
فالراوي عندما يقول: قال رسول الله: ثم يأتي بالرواية، هو يجسد النبي في حقيقته تجسيدا كلاميا، وكذلك القاص ونحوه.
الفرق بين هذا وذلك أنّ الفنون المعاصرة تختصر الطريق عن طريق الرموز لا غير، فلا يظنّ أحد أبدا أنّ هذا الرمز هو النبي أو الشخصية الممثلَة أبدا، وإنما يهتمون فقط بالحدث، وهو الركن الثالث من القصة القرآنية نفسها.
فنحن عندما وضعنا رمزا للنبي وقد تلقى الوحي مباشرة بالاستجابة، وبلّغ رسالات ربه، وأنذر عشيرته الأقربين، وصبر على أذى قومه، لا يظنّ أحد أنّ ذلك هو النبي أبدا.
والعجيب أن يقول بعضهم: الأصل أن تظهر صوتا، طيب لو أظهر الصوت ألا يعرف الناس أنّ هذا ليس صوت النبي قطعا، وفي المقابل ألا نكون بذلك قد جسدنا الأنبياء صوتا.
في الحقيقة يتصور بعضهم النبي مخلوقا آخرا، وكائنا غير البشر، وأخشى أنهم يتصورون أنّ النبي يأكل من غير المكان الذي نأكل منه، وينظر من غير العين التي ننظر بها!!!
ومنهم من يقول في هذا إساءة إلى رسالة الأنبياء، بينما المرويات وكتب الحديث كثيفة بالإساءة لرسل الله تعالى، وما فعله الرسام الدنماركي مثلا بتصوير الرسول وفق المنظومة الإسلامية نفسها، فروايات التأريخ والحديث صورت النبي في صورة رجل شهواني جنسي دموي، وليس الوقت متسعا لي لأذكر نماذج لذلك، كذا دولنا تسيء إلى رسالات الأنبياء في أهم أركانها بالظلم والقمع وعدم العدل وسرقة الأموال ونهب بيت المسلمين وتسلط ذوي الجاه والنفوذ، وهذا تحرمه رسالات الأنبياء، فلماذا كما ثرنا على الدنماركي لا نثور على من أساء لرسالة الله تعالى.
وعموما لا ينبغي التعجل في المنع، وإضافة الأمر إلى الدين، بل ينبعي التأني في ذلك والحذر الشديد قدر الإمكان، والسعي إلى الرأي الجماعي الذي يحوي الفنانين والإعلاميين والمهتمين بالعمل الدرامي ذاته، بجانب الشرعيين وعلماء الاجتماع حتى يكون القرار ذات قوة، وشاملا لجميع أجزائه، فنحن نعاني للأسف من الفتاوى الفردية، والتي قد يكون المفتي لا يفقه شيئا في الفن وأساليبه، وإنما مجرد يفتي على ما يقال له، وذلك لأنه تنقصنا مراكز استراتيجية وبحوث علمية في المجال الشرعي ذاته.
من هنا نخلص أن العمل الفني بأنواعه في تجسيد الأنبياء كعمل فني لا بأس به، وتمثيل الشخصيات البارزة في الأمة ومنها الأنبياء، وتقديمها للأجيال عمل جيد جميل، ولكن أيضا يجب فتح الباب للنقد لا لمجرد المال والعرض، وعليه ينبغي أن تكون الفتاوى غير إقصائية، ولكن تنطلق من منطلق الانفتاح الذي يفرض نفسه بنفسه، من هنا لا بد من ضوابط مراعية لفكر الأمة العام، وأن يبعد بالفن عن الخلافات المذهبية والطائفية، وأن يكون العرض وفق السنن الكونية بعيدا عن الخرافة والروايات الأسطورية.
فيسبوك 2012م